كشفت سمر أبو العوف، وهي مصورة تشتغل بصحيفة New York Times الأمريكية جانباً من المآسي التي يعيشها الآلاف من سكان قطاع غزة؛ جراء العدوان الهمجي للاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، ورصدت قصصاً لعينة من الغزيين الذين فقدوا أحباءهم، أو فقدوا الأمل في أن يكملوا حياتهم بشكل طبيعي، وذلك وفق تقرير لصحيفة New York Times، الأحد 4 فبراير/شباط 2024.
فقد أمضت أبو العوف، قبل أن يتم إجلاؤهم، أسابيع في متابعة عدد من الفلسطينيين الذين بدا وكأنهم فقدوا كل شيء؛ صبي ذو أطراف محروقة، وصحفي فقد أربعة من أطفاله في غارة إسرائيلية، وطفلة يتيمة تعاني من سوء التغذية وقد لا تمشي على قدميها مرةً أخرى.
منذ ذلك الحين، انزلقت غزة نحو المجاعة، ويقول بعض السكان إنهم يأكلون العشب وأعلاف الحيوانات من أجل البقاء، في الوقت الذي تسقط قنابل عملاقة بالقرب من آخر المستشفيات التي لا تزال قيد العمل، وتهطل الأمطار بغزارةٍ على المخيمات الموبوءة بالأمراض، بينما ليس أمام المسعفين سوى خياراتٍ مروعة.
خلال كل ذلك، حاولت أبو العوف الحفاظ على الاتصال مع الأشخاص الذين صوَّرتهم، ولكن لم يعُد من الممكن الوصول إلى بعضهم، ولا تزال قصصهم مستمرة، مثل قصة غزة نفسها.
الطفلة اليتيمة
في البداية، اعتقد رجال الإنقاذ أن ميليسيا جودة ماتت. انتشلوا جسدها الخامل من تحت أنقاض منزل عائلتها، بعد 10 ساعات من تدمير المبنى في غارة مدمرة يوم 22 أكتوبر/تشرين الأول. وفي المستشفى، وُضِعَت في خيمة مليئة بالجثث.
لكن بعد مرور ساعة، بدأت ميليسيا البالغة من العمر 16 شهراً في الكلام، وقالت عمتها ياسمين جودة إنها نُقِلَت إلى المستشفى لتلقي العلاج الطارئ.
كانت ميليسيا واحدةً من ثلاثة ناجين فقط ممن قال أقاربها وصحفيون محليون إنها غارة جوية إسرائيلية.
تقول ياسمين إن والدتها، التي كانت تنتظر توأماً، دخلت في المخاض قبل ساعات من الغارة على منزلها، وانتُشِلَت وهي ميتة من تحت الأنقاض وكانت لا تزال تمسك بطنها. قُتِلَ والد وشقيق ميليسيا، وكذلك أجدادها وأعمامها الخمسة وعمتاها وزوجاهما وعشرات من أبناء العمومة، الذين يصل عددهم على حد قول ياسمين إلى 60 شخصاً من عائلتيّ جودة وجاروشة الذين عاشوا في ذلك المجمع السكني منذ عقود.
يشكل الأطفال حوالي 40% ممن سقطوا شهداءً في غزة منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول، بحسب السلطات في غزة والمنظمات الدولية. وفي حين خدعت ميليسيا الموت، فقد انضمت إلى 19 ألف طفل تركتهم الحرب بلا آباء أو بالغين لرعايتهم، وفقاً لليونيسف.
قال الأطباء إن شظايا القنبلة قطعت الحبل الشوكي لميليسيا وأصابتها بالشلل من الخصر إلى الأسفل. ولكن بعد أسبوعين من إصابتها، خرجت ميليسيا من المستشفى. بينما يؤكد الأطباء أنهم يفتقرون إلى الأدوية اللازمة لعلاجها ويحتاجون إلى سريرها لعلاج الإصابات الجديدة.
كانت ميليسيا تصرخ في الليل وهي تنادي على أبيها وأمها.
الأم
بدأ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول كيوم فرح لصفاء زيادة، وقبل ساعات فقط من منتصف ليل السادس من أكتوبر/تشرين الأول، أنجبت طفلتها الخامسة –فتاة أسمتها بتول– في أحد مستشفيات مدينة غزة.
لكن بينما كانت تحتضن مولودتها الجديدة، تردّدت أصوات الحرب في جناحها.
كانت زيادة، 32 عاماً، والتي عاشت عدة حروب في غزة، تأمل أن تنتهي هذه الحرب بسرعة. ولكن عندما عادت إلى المنزل في وقت لاحق من ذلك اليوم، أصبح من الواضح أن الأمر مختلف هذه المرة.
اهتزت جدران منزلها عندما حلقت الطائرات الحربية الإسرائيلية في سماء المنطقة وأسقطت القنابل، وجمعت زيادة زوجها أطفالهما الخمسة -أكبرهم يبلغ 13 عاماً- وبدأوا جميعاً في الجري.
في الأسابيع الأولى من الحرب، قاموا بتغيير محل سكنهم عدة مرات، ولجأوا إلى أقاربهم، إلى أن أجبرهم القتال أو التحذيرات الإسرائيلية على الرحيل. وقالت إنه بينما كانت الأسرة تتجول في الشوارع، شاهدت طائرات مقاتلة تطلق النار على أهداف، وشاهدت جثثاً متناثرة على جانب الطريق.
توقفوا أخيراً في مخيم مؤقت تديره الأمم المتحدة في مدينة خان يونس جنوب قطاع غزة، كان المخيم مزدحماً وقذراً، ولكن من المُفترض أنه آمن، وتكدست عائلتها في خيمة صغيرة، وبدأت في تنظيم حياتهم بأفضل ما تستطيع، وبعد بضعة أيام، احتضنت بتول بينما كانت تتحدث إلى صحيفة New York Times وحمدت الله أنهم لا يزالون على قيد الحياة.
المصور الصحفي
تعتبر مواجهة آلام الآخرين أمراً أساسياً في مسيرة محمد العالول، 36 عاماً، وهو مصور صحفي قام لسنوات بتغطية الصراع في غزة بكاميرته الخاصة.
لكن في نوفمبر/تشرين الثاني على وجه التحديد صار الألم محفوراً على وجهه وهو يمسك بأشلاء ابنه الذي قُتل، فيما قالت سلطات غزة إنها غارة جوية إسرائيلية. وتفاقم الألم عندما وقف أمام جثث ثلاثة من أطفاله الآخرين الذين تبيَّن أنهم لقوا حتفهم في الهجوم نفسه.
بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لم يرَ عائلته إلا بالكاد، وهم يتنقلون من مكان تفجير إلى آخر. وقال إنه الآن يفتقد أطفاله الخمسة بشدة.
في 4 نوفمبر/تشرين الثاني، بعد قضاء ليلةٍ في المنزل، قال العالول إن ابنه كنان البالغ من العمر ست سنوات، توسل إليه ألا يذهب. لكنه غادر وبينما كان يوثق العائلات النازحة في اليوم التالي، اتصل به أحد الأصدقاء.
ووقعت غارة بالقرب من منزله في وسط غزة، فاتصل العالول ببعض الأصدقاء عندما علم بالخبر.
أخيراً، في المستشفى، علم أن كنان وثلاثة من أبنائه الآخرين –أحمد، 13 عاماً، ورهف، 11 عاماً، وقيس، 4 أعوام- قد ماتوا، وكذلك أربعة من إخوته وبعض أطفالهم وجيرانهم. وأُصيبَت زوجته بجروح خطيرة.
وكان الناجي الوحيد من بين أطفاله هو ابنه الأصغر، آدم البالغ من العمر سنة واحدة، والذي أصيب وجهه بشظية. وقال العالول بعد أيام وهو يمسك الطفل بصدره: "إنه كل ما تبقى لي".
المرأة الحامل
أُصيبَت وصال أبو عودة، 34 عاماً، بإغماءٍ بعد وقوفها في الطابور لمدة ساعة لاستخدام الحمام. كانت الحياة صعبة على الجميع في مخيم النازحين القذر والمكتظ في خان يونس. لكنها كانت حاملاً في الشهر الخامس.
قبل الحرب، كانت أبو عودة تفكر في تجهيز غرفة لطفلها المنتظر، وبعد اندلاع القتال شعرت بالقلق من نجاة حملها على قيد الحياة.
الظروف مزرية في مخيمات الأمم المتحدة التي تؤوي معظم النازحين في غزة. وتقول الأمم المتحدة إن حالات الإسهال والتهابات الجهاز التنفسي والحالات المرتبطة بالنظافة مثل القمل تتزايد. غالباً ما يتشارك آلاف الأشخاص في دش أو مرحاض واحد.
ووسط كل هذه الفوضى تعيش نحو 50 ألف امرأة حامل ونحو 180 منهن تلد كل يوم، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، في حين لا تتوافر وسائل الرعاية الأساسية، وفي بعض الأحيان تُجرَى عمليات الولادة القيصرية بدون تخدير.
وقالت أبو عوف إنها كانت تنام في مكان ما مع 14 فتاة وامرأة أخرى. ومؤخراً، وصل القتال إلى مخيمها ولم يتسنّ الاتصال بها هاتفياً مؤخراً.
طفل ذو أطراف محروقة
لا يتذكر محمد أبو رتينة، البالغ من العمر 12 عاماً، الكثير عما حدث عندما دمر انفجار منزله في 24 أكتوبر/تشرين الأول. في لحظةٍ ما، كان يتناول الشاي على الإفطار بينما كانت جدته تقرأ القرآن. وفي اللحظة التالية، كان يركض ويصرخ، وبدا أن أطرافه مشتعلة، على حد قوله.
قالت والدته علا فرج (33 عاماً) إنها ارتجفت من الرعب عندما رأت لأول مرة الحروق التي تغطي نحو 30% من ساقيه. وأُصيبَت شقيقته بتول البالغة من العمر 8 سنوات بجروح مماثلة.
يقول الأطباء إن حجم الحروق التي يتعرض لها الأطفال في غزة أمر محزن، خاصة أن النظام الصحي المنهار في القطاع بالكاد يستطيع علاجهم. وقالت والدة محمد وبتول في أحد مستشفيات خان يونس إنه لم يكُن هناك سوى مسكنات الألم الأساسية المتاحة لعلاجهما. وكان هناك نقص في الشاش والمراهم والمياه النظيفة.