وسط تصاعد خطاب اليمين المتطرف وسنّ قوانين أكثر تشدداً، تستهدف بالأساس حقوق المهاجرين وتضيِّق على حريتهم، بات آلاف المهاجرين المغاربيين أكثر إقبالاً على مغادرة فرنسا، بحثاً عن مكان أكثر حرية وتسامحاً.
هؤلاء المهاجرون لم تعد تغريهم فرنسا، بل إن كثيراً منهم عبّر عن استيائه وخيبة أمله مما اصطدم به في مجتمع كان يرى فيه "خلاصه"، إذ انقلب الحلم إلى كابوس يؤرقهم ويدفعهم إلى المخاطرة من جديد بأرواحهم فراراً منه.
عبدو الملقب بميمو، شاب جزائري كلفته رحلة من عاصمة بلاده حتى منطقة أليكانطي بإسبانيا على متن قارب مطاطي نحو 3000 دولار، حسب ما أخبر به "عربي بوست".
وأضاف المتحدث: "غامرت بحياتي في سبيل غدٍ أفضل، وبحثاً عن الخروج من دائرة الفقر والبؤس التي كنت محاصَراً داخلها، لكني لا أخفيك أني ندمت ندماً شديداً على قدومي لفرنسا".
وقال المهاجر الجزائري الذي التقاه "عربي بوست" وسط العاصمة باريس: وددت لو بقيت في إسبانيا، حيث كنت أول مرة، ففرنسا انتهى زمانها، ووحده الذي لا يملك عقلاً وكرامة يأتي للعيش فيها".
يضيف عبدو بنبرة غاضبة "أين أوروبا التي وعدونا؟ وأين الإنسانية التي كان يحكي لي عنها أصدقائي في الجزائر؟ لم أجد شيئاً من ذلك، بل بالعكس، لم أعش ولم أر إلا البؤس والعنصرية والكراهية، سواء في أوساط المواطنين بشكل عام أو السياسيين ووسائل الإعلام.
في المقابل اختار عدد من المهاجرين في فرنسا المخاطرة بأرواحهم والهجرة إلى بريطانيا، وذلك للمرور عبر القنال الإنجليزي (بحر المانش)، شمال مدينة كاليه الحدودي مع المملكة المتحدة.
وفي سنة 2023 لقي 19 مهاجراً مصرعهم وسط بحر المانش، بعدما كانوا يحاولون مغادرة فرنسا نحو بريطانيا، في قارب مطاطي جهّزه أحد المهربين في المنطقة.
الهجرة من فرنسا إلى بريطانيا
منطقة كالي شمال فرنسا، شاهدة على مأساة هؤلاء الذين دفعتهم قوانين بلاد الأنوار إلى البحث عن منفذ حرية في الجانب الآخر من القارة، بريطانيا التي باتت وجهة مفضلة لمهاجري فرنسا غير الشرعيين.
وفي عام 2022، غادر أكثر من 40 ألف مهاجر الساحل الفرنسي، وصولاً إلى بريطانيا عبر القنال الإنجليزي، المئات منهم ينحدرون من بلدان ناطقة باللغة الفرنسية ولا يتقنون اللغة الإنجليزية.
ورغم أنهم فروا من الفقر أو الحرب، يقوم هؤلاء بالمخاطرة بحياتهم من جديد على متن قوارب مطاطية صغيرة، هرباً هذه المرة من واقع يصفونه بـ"المسموم"، كناية عن انتشار العنصرية والتمييز.
المهاجرون غير الشرعيين ليسوا وحدهم من اقتنعوا بصعوبة العيش داخل المجتمع الفرنسي، ولكن عدداً غير يسير من المسلمين الذين وُلدوا وترعرعوا في الجمهورية باتوا يغادرونها أفواجاً؛ بحثاً عن بيئة أكثر تسامحاً مع معتقداتهم الدينية.
وتًعتبر فرنسا موطناً لأكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا، لكن التمييز ضدهم والتضييق على حقوقهم وحرياتهم يجبر العديد منهم على البحث عن فرص عمل أفضل في دول أخرى.
في هذا السياق، كشفت دراسة أجرتها جامعة ليل، بقيادة البروفيسور أوليفييه إستيفيس، أن المسلمين ذوي التعليم العالي يغادرون فرنسا على نطاق واسع إلى المملكة المتحدة والولايات المتحدة وكندا وحتى دبي بالإمارات العربية المتحدة.
وبعد إجراء مقابلات مع 1074 مسلماً غادروا البلاد، يقول أوليفييه إستيفيس إن أكثر من ثلثيهم قالوا إنهم هاجروا لممارسة شعائرهم الدينية بحرية أكبر، بينما قال 70% إنهم غادروا البلاد لتجنب حوادث مرتبطة بالعنصرية والتمييز.
ووفقاً للبروفيسور إستيفيس، فإن المهنيين المسلمين الذين تحظى مهاراتهم بتقدير كبير، سئموا من الطريقة التي يعاملون بها في فرنسا.
وأعرب إستيفيس عن أسفه قائلاً: "من المفارقة أن فرنسا تدفع تكاليف تعليم هؤلاء الأشخاص، لكنها تخسر هذه المواهب المؤهلة تأهيلاً عالياً بسبب تفشي الإسلاموفوبيا المؤسسية".
الإسلاموفوبيا هو السبب
ارتفعت الأعمال المعادية للمسلمين بفرنسا بنسبة 52% عام 2020 مقارنة بالعام الذي سبقه، وفقا للشكاوى التي لاحظتها اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان.
كما زادت الحوادث على العقد الماضي، مدى، وبلغت ذروتها في عامي 2015 و2017، كشف استطلاع عام نادر أن الشباب الذين يُنظر إليهم على أنهم عرب أو سود كانوا أكثر عرضة للخضوع للتحقق من الهوية من قِبل الشرطة بمقدار 20 مرة.
في سوق العمل، تقل احتمالية الاتصال بالمرشحين ذوي الأسماء العربية بنسبة 32٪ لإجراء مقابلة عمل، وفقاً لتقرير حكومي نُشر في نوفمبر 2021.
بعد نحو 30 محاولة لإجراء مقابلات عمل، لم ينجح المهندس الكيميائي الثلاثيني سعيد في إقناع سوى 5 شركات بجدوى ذلك، تلقى عقبها 3 إجابات بالرفض، في حين لم تجبه الاثنتان الأخريان.
يقول مفسراً "لست ضد تكافؤ الفرص ولا أسعى لفرض نفسي، علماً أني كنت متفوقاً في دراستي، رفض نحو 30 طلب عمل يتضمن سيرة ذاتية مهمة وغنية أمر غريب نوعاً ما".
وأضاف المتحدث: "لست وحدي من يعاني هذا التمييز المهني، ولكن آلاف الشباب المسلم، أو الذين يحملون أسماء عربية هم عرضة للإقصاء والتهميش دون سبب موضوعي وجيه، هذه فرنسا التي تتغنى بالحرية والإخاء والمساواة".
وفق الباحث المختص في الشأن الفرنسي محمد تورشين، فإنه إلى جانب الأسباب الاقتصادية دفعت موجة صعود اليمين المتطرف كثيراً من المهاجرين لمغادرة فرنسا".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن صعوبة وتعقيد القوانين والمساطر الإدارية المرتبطة بالحصول على الإقامة، أو طلبات اللجوء، لا تشجع أصحابها على المكوث وتضطرهم للبحث عن وجهة أخرى".
العودة إلى الوطن الأم
على موقع فيسبوك أنشأ شباب مغاربة، يقيم بعضهم بفرنسا، مجموعة اختاروا لها اسماً "قررت الاستقرار في المغرب"، الهدف من وراء الخطوة هو تبادل التجارب والمعلومات، قصد مساعدة الراغبين في العودة إلى أوطانهم الأم.
معظم المنشورات تبرز الرغبة القوية لمغاربة المهجر، في مغادرة فرنسا خاصة لأسباب تتعلق بالجو العام الذي بات سائداً والبيئة الاجتماعية التي لم تعد صالحة لتنشئة أولادهم وسطها، وفق منشورات وتعليقات جلهم.
في المجموعة طرح استطلاع للرأي حول الأسباب التي جعلت أعضاءها يفكرون في مغادرة فرنسا والعودة إلى الوطن الأم، ورغم تباين بعض عناصر الإجابة، كان هناك إجماع حول التمييز والضغط اليومي الذي يعيشه العرب والمسلمون في هذا البلد.
قوانين متشددة
تنامي الشعور بانعدام الأمن والإحساس بالتمييز والتهميش في صفوف كثير من مهاجري فرنسا ومواطنيها المسلمين يذكيه التوجه السياسي الرسمي.
ودأبت الحكومات الفرنسية خلال السنوات الأخيرة، مؤطرة بتوجيهات الرئيس إيمانويل ماكرون على سن قوانين تضرب في قيم ومبادئ الجمهورية.
وتهدف هذه القوانين إلى تأطير وشرعنة إجراءات تمتح من فكر وبرنامج اليمين المتطرف من شأنها بث المزيد الكراهية والتسبب توسيع الهوة بين مختلف طبقات وفئات المجتمع الفرنسي.
من بين آخر تلك الخطوات، قانون الهجرة الجديد الذي أثار جدلاً واسعاً، واعتبره البعض استهدافاً واضحاً ومباشراً للمهاجرين لإرضاء اليمين المتطرف لاعتبارات سياسية.
وشكّل القانون الذي اعتبره مراقبون "تراجعاً خطيراً" عن المكتسبات الدستورية، صدمة في أوساط المهاجرين وطالبي اللجوء، قبل أن يتدخل المجلس الدستوري الذي ألغى كثيراً من بنوده، ما شكّل انفراجة ولو نسبية أنعشت آمالهم مؤقتاً.
وبعد شهر من إقراره في البرلمان في 19 ديسمبر/كانون الأول، رفض الأعضاء التسعة في المجلس المناط به البت في مدى دستورية القوانين، غالبية التدابير التي أثارت انتقادات واحتجاجات كبيرة، ولا سيما تقليص حصول الأجانب من غير الأوروبيين على إعانات وتحديد حصص هجرة سنوية وتشديد شروط لم شمل العائلات.
رفض المجلس الدستوري أجزاء واسعة من القانون، ولا سيما تدابير أقرت بضغط من اليمين في ديسمبر/كانون الأول، دفع قادة أحزاب معادية للهجرة المهاجرين إلى إجراء استفتاء عام بشأن التدابير المنصوص عليها.
قبل ذلك، أثار ما سمي بقانون "الانفصالية" الذي أقرته الحكومة سنة 2021 انتقادات شديدة هو الآخر.
التشريع المثير للجدل، الذي قيل إنه يستهدف "الإسلام المتطرف" لقي معارضة واسعة من قِبل المسلمين، وكذا نواب أحزاب يمينية ويسارية على حد سواء.
ينص القانون على فرض رقابة على المساجد والجمعيات المسؤولة عن إدارتها، ومراقبة تمويل المنظمات المدنية التابعة للمسلمين. كما يحظر ارتداء الحجاب في مؤسسات التعليم ما قبل الجامعي.
وبموجب القانون، تصل عقوبة من يدان بجريمة "الانفصالية" إلى السجن 5 سنوات، وغرامات تصل إلى 75 ألف يورو (88 ألف دولار) لمن يهددون أو يعتدون على مسؤول منتخب أو موظف مدني لعدم رغبتهم في اتباع القواعد التي تحكم الخدمات العامة الفرنسية، مثل رفض الخضوع للفحص الطبي من قِبل طبيبة، بحسب المصدر ذاته.