سيطرت حالة من الشلل التام على الأسواق في مصر بسبب الانخفاض السريع في قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار، وعدم توفر العملة الصعبة في البنوك الحكومية، ما دفع الكثير من التجار لوقف التعاملات إلى حين استقرار الأوضاع، فيما خفَّضت غالبية المصانع قدراتها الإنتاجية خشية من الإغلاق.
أغلق كذلك عدد من محالّ الذهب أبوابها في أعقاب الحملات الأمنية التي تشنّها وزارة الداخلية التي تتهم كبار التجار بتصدير كميات كبيرة إلى الخارج، وتحميلهم جزءاً من مسؤولية الأزمة الراهنة.
أما سعر الصرف في السوق الموازية فقد ارتفع بنسبة 28% خلال النصف الثاني من شهر يناير/كانون الثاني 2024، ليدور حول 74 جنيهاً، مقابل 58 جنيهاً في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2023.
لكن شهد سعر الصرف حالةً من التزايد السريع خلال الأسبوع الماضي، قبل أن يتراجع أيضاً بمعدلات كبيرة مساء الأربعاء 31 يناير/كانون الثاني 2024، ليلامس 66 جنيهاً.
اتفق عدد من التجار وأصحاب المصانع الذين تحدث معهم "عربي بوست"، على أن التحركات كافة التي تجري في الأسواق ترتبط بتقييم سعر الجنيه المصري مقابل الدولار في السوق الموازية، وأن التبادل بين التجار والمتعاملين في المحال والمصانع التي قررت الاستمرار في عمليات البيع والشراء أضحت مقترنة بسعر الدولار صعوداً وهبوطاً.
في حين أن بعض تجار العقارات والسيارات والأجهزة الكهربائية مرتفعة الثمن، طالبوا المواطنين بسداد قيمة ما يحصلون عليه بالدولار، وليس بالجنيه المصري.
"خراب بيوت"
مالك أحد مصانع المواد البلاستيكية قال لـ"عربي بوست" إنه فشل في الحصول على الدولار من البنوك الرسمية منذ ما يقرب من شهر تقريباً، مع بداية العام 2024، ما دفعه للاتجاه إلى السوق السوداء لشرائه، الأمر الذي انعكس على تكاليف الإنتاج في ظل الفجوة الكبيرة بين السعرين الرسمي والموازي.
انعكس ذلك أيضاً على تراجع القدرة الشرائية بشكل واضح في الأسواق، وترتب عليه خفض معدلات عمل خطوط الإنتاج إلى أكثر من النصف، انتظاراً لما ستؤول إليه الأوضاع خلال الأيام المقبلة.
يعتقد المتحدث الذي طلب عدم نشر اسمه أن استمرار الأزمة الراهنة لشهر آخر أو شهرين على الأكثر ستكون نتيجته غلق المصنع، لأنه يتحمل زيادة في أعباء الصناعة تصل إلى 160% نتيجة تراجع قيمة الجنيه في السوق السوداء.
كما أن الحكومة على الجانب الآخر رفعت أسعار العديد من الخدمات العامة منذ بداية 2024، ما تسبب في رفع أسعار الكهرباء والنقل.
مقابل ذلك، فإن معدلات التوريد تراجعت بشكل كبير، معتبراً أن الأزمة تتمثل في فقدان الزبائن الثقة في كثير من الشركات التي تقوم بزيادة أسعارها بشكل مستمر، وقد لا تكون هناك إمكانية لجذبهم مرة أخرى.
يرى كذلك أن الحكومة المصرية ضاعفت معاناة المصانع والشركات الكبرى، بعد قرار البنك المركزي بوضع حد للسحب اليومي بالجنيه المصري، مشيراً إلى أن انتظار الحصول على موافقة البنك المركزي لعمليات السحب التي تفوق 150 ألف جنيه يعد "خراب بيوت" لأصحاب المصالح، ويدفع العديد من المصانع لإغلاق أبوابها، فهي بالأساس تحتاج إلى تلك الأموال بشكل سريع لاستبدالها بالدولار المطلوب لعمليات الاستيراد.
وجّه البنك المركزي المصري، الأربعاء 31 يناير/كانون الثاني 2023، البنوك، بوضع حد أقصى للسحب اليومي من الحساب الواحد للعميل، أو جميع حساباته، عند 150 ألف جنيه، مشيراً إلى أن الحد الأقصى ينطبق على السحب النقدي أو عبر الشيكات، مع عدم وجود أي استثناء لسحب أكثر من 150 ألف جنيه، من جميع حسابات العميل، سواء نقداً أو بشيكات، مع إلغاء جميع الاستثناءات السابق منحها لأي جهة كانت، حتى مع إصرار أي عميل على صرف الشيك نقداً أو رفض الشيك.
الأسعار ترتفع مرات عدة خلال اليوم الواحد
تحدث "عربي بوست" مع أحد أكبر أصحاب شركات الدواجن في مصر، طالباً عدم ذكر اسمه، موضحاً أن تراجع قيمة الجنيه المصري تسببت في رفع أسعار الأعلاف بنسبة تصل إلى 65% خلال الشهر الماضي فقط (يناير 2024)، لكن المشكلة الأكبر تتمثل في أن الشركة لا تستطيع توفير تلك الأعلاف لصعوبة عمليات الاستيراد التي بحاجة إلى العملة الصعبة غير المتوفرة.
أشار كذلك إلى إحجام التجار عن توريد الأعلاف المحلية إلى الشركات، انتظاراً لاستقرار أسعار صرف الجنيه المصري.
حالة الارتباك السائدة وشح الأعلاف في الأسواق يؤديان، بحسب المتحدث ذاته، إلى تأثر المنتجين بصورة كبيرة، وأنه من المتوقع خروج عدد كبير من شركات الدواجن من السوق، جراء الخسائر التي تتعرض لها، مشيراً إلى أن بعض شركات الأعلاف تقوم بتغيير أسعار أطنان الصويا والذرة والأعلاف كمنتج نهائي كل ساعة تقريباً.
قال إن ذلك "يجعل الشركات في حيرة من أمرها، ولا تستطيع تحديد سعر كيلو الدواجن، ما ترتب عليه زيادة هائلة في أسعار الدواجن بالأسواق، لدرجة أن السعر يتغير مرات عديدة خلال اليوم الواحد، نتيجة اختلاف أسعار الأعلاف التي ترتبط بأسعار الدولار في السوق السوداء".
شدد المصدر على أن الشركات المصرية خسرت العديد من موردي الأعلاف من الخارج، لأسباب عديدة، بينها تكدس الشحنات لأيام طويلة، وصعوبة دخولها إلى البلاد، فضلاً عن تعرض شركات كثيرة إلى خسائر فادحة، جعلتها غير قادرة على سداد قيمة ما قامت بشرائه بالدولار تحديداً.
بهذا الصدد، أوضح أن "الكثير من أصحاب الشركات يجدون صعوبة في توفير الدولار، بما في ذلك السوق السوداء، مع تزايد الحملات الأمنية التي تشنها الحكومة المصرية في تلك الأثناء على تجار العملة".
كذلك قفزت أسعار الصويا، خلال يناير/كانون الثاني 2024، بنسبة 47%، مسجلة 41 ألف جنيه للطن، مقابل 28 ألف جنيه في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2023.
أسعار الذرة ارتفعت أيضاً، مسجلة 18 ألف جنيه للطن، مقابل 13 ألفاً، في حين وصل سعر الأعلاف إلى 26.6 ألف جنيه للطن، مقارنة بـ18 و19 ألف جنيه، بنسبة صعود 40%.
أزمة الجنيه المصري وتراجع القدرات الشرائية
لم يختلف الحال كثيراً بالنسبة لأحد مصنّعي الملابس الجاهزة، الذي أكد لـ"عربي بوست" أنه يتجه لإغلاق مصنعه، نتيجة عدم توفر خامات الإنتاج، وتوقف عدد من مصانع الأقمشة عن الاستيراد من الخارج، ووجود صعوبات جمّة في توفير الدولار اللازم لعمليات الاستيراد.
بالإضافة إلى أن الارتفاع الكبير في أسعار الملابس هذا العام 2024، دفع المواطنين المصريين إلى العزوف عن الشراء، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة، تراجعت فيها القدرات الشرائية بشكل كبير.
أوضح المتحدث أن فصل الشتاء كان بمثابة موسم ينتظره مصنعو الملابس كل عام، لكن الذي حدث العام الحالي هو تكبد المصانع خسائر فادحة، مشيراً إلى أن بعض المصانع لجأت إلى رفع الأسعار بصورة كبيرة للتحوط من أي خسارة، وتحاول في الوقت ذاته تعويض خسائرها، لكنها وقعت في مأزق تراجع القدرة الشرائية، ما دفعها لتخفيض خطوط الإنتاج بنسبة 70% تقريباً.
محمد إبراهيم، موظف في الخمسين من عمره، بدرجة مدير عام بأحد المراكز البحثية، قرر أن يذهب إلى سوق "شارع عبد العزيز" بوسط القاهرة، الشهير ببيع الأجهزة الكهربائية، من أجل تجهيز ابنته، رغم أنها ما زالت في مرحلة الدراسة الجامعية، وليست عروساً بعد.
لكن القفزات الهائلة في أسعار الأجهزة الكهربائية أجبرته على التفكير في تخزينها لها، حتى لا يجد نفسه مضطراً لدفع مزيد من الأموال، قد لا تتوفر معه مستقبلاً.
أشار إبراهيم في حديثه لـ"عربي بوست" إلى وجود تفاوت في أسعار الجهاز الواحد بين العديد من التجار، بل إن بعضهم رفض البيع من الأساس، وتحجج بأن البضاعة غير متوفرة، في حين أنها موجودة بالفعل.
وقال: "مع النقاشات التي استمرت وقتاً طويلاً مع البائعين، فإن أغلبهم أجمعوا على أنهم ينتظرون إقدام الحكومة على خطوة التعويم، لضمان استقرار السوق، حتى لا يتعرضوا إلى مزيد من الخسائر.
في نهاية الأمر لم يتمكن إبراهيم إلا من شراء جهازين فقط، بعد أن فشلت ميزانيته التي وضعها لشراء خمسة أجهزة، كما كان يخطط.
السوق السوداء تخرج عن السيطرة
ينتظر التجار والمستوردون تعويماً جديداً للجنيه المصري، أمام تعدد سعر الصرف للدولار، الذي أصبح له سعر رسمي عند حدود 31 جنيهاً في البنوك التي لا توفره دون تعليمات من الحكومة لاستيراد السلع الاستراتيجية والأدوية والتزامات الجهات الرسمية.
صندوق النقد الدولي، علق الأربعاء 31 يناير/كانون الثاني 2024، بأنه يواصل التفاوض مع الحكومة المصرية حول السياسات والإصلاحات الاقتصادية وحزمة التمويل، وذلك في سياق دعم البرنامج المالي الممنوح لمصر الذي يبلغ حجمه 3 مليارات دولار، بهدف تعزيز التقدم في المراجعات الدورية لهذا البرنامج.
جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، قال إن المفاوضات تتناول أيضاً الدفعات المستقبلية للقرض المتفق عليه، مشيراً إلى استعداد الصندوق للنظر في زيادة قيمة القرض، إذا كانت هناك حاجة لذلك، مؤكداً أن تحرير سعر الصرف في مصر يلعب دوراً هاماً في حماية الاقتصاد، وتعزيز فرص التصدير، مشيراً إلى أهمية تعزيز دور القطاع الخاص.
بالتزامن مع مفاوضات صندوق النقد، حاولت الحكومة المصرية ضبط سوق الذهب، واستخدمت العصا الأمنية في وجه التجار الذين اتهمتهم بالتسبب في أزمة الدولار، عبر الاتجاه لشرائه بكميات كبيرة من السوق السوداء، وتخزينه، لتأمين مشترياتهم من الذهب، كما أنها وجهت إليهم اتهامات أخرى بتخزين السبائك الذهبية والتلاعب في أسعارها.
أحد أصحاب محال المشغولات الذهبية قال لـ"عربي بوست" إنه اضطر لغلق أبواب محله طيلة أيام الأسبوع الماضي، بعد توالي الحملات على التجار وأصحاب المحال، مشيراً إلى أن اتهامات الحكومة غير منطقية، لأنها لا توفر الدولار بالأساس في البنوك للحصول عليه بطريقة شرعية.
أضاف كذلك أن "الحكومة تركت التجار فريسة للسوق السوداء، ويمكن القول إنه خرج عن السيطرة، مع عمليات المضاربة الواسعة التي تجري في الدولار من "الكبار" في البلد، وهو أمر أضر بتجار الذهب".
اختفاء الجنيهات والسبائك الذهبية من الأسواق سببه الرئيسي، بحسب المتحدث ذاته هو "الإقبال غير المسبوق على شرائها خلال فترة زمنية قصيرة، حيث اتجه قطاع كبير من المواطنين المصريين للشراء بدلاً من وضع أموالهم في شهادات البنوك التي تمنح عوائدها مع بداية العام، والمواطنون يفضلون شراء السبائك والجنيهات الذهبية، تجنباً لدفع مصنعية المشغولات الذهبية، إلى جانب أن التجار يواجهون مشكلة أكبر تتعلق بنقص الخدمات".
سعر غرام الذهب الواحد من عيار 24 وصل نحو 4575 جنيهاً، أما عيار 21 الأكثر تداولاً فقد وصل إلى 4000 جنيه مصري، وعيار 18 بلغ 3428 جنيهاً، فيما صعد سعر الجنيه إلى 32 ألف جنيه، والأونصة 142 ألفاً و171 جنيهاً.
بحسب تقرير رسمي صادر عن مصلحة الدمغة والموازين، تصل التعاملات في سوق الذهب إلى أكثر من 65 طناً سنوياً، على رأسها المشغولات الذهبية التي تشكل أكثر من 90% من حجم هذه السوق.
في حين تزايد الإقبال على شراء الذهب بنسبة تتجاوز الـ30% خلال عام 2023، مقارنة بعام 2022، وفق بيانات رسمية، كملجأ آمن في ظل متاعب اقتصادية تعاني منها مصر، وتراجع أسعار صرف الجنيه المصري.
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة للمعلومات التي تأكدنا من مصداقيتها من خلال مصدرين موثوقين على الأقل. يرجى تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو سلامتها.