طالبت وزارة الخارجية المصرية، بعد أيام قليلة من سيطرة قوات الدعم السريع على ولاية الجزيرة، جميعَ المصريين في السودان بكافة الولايات، بما في ذلك التي لم تطلها الاشتباكات المسلحة، بسرعة مغادرة السودان.
وطلبت الوزارة المصرية من المصريين عدم سفر إلى السودان في المرحلة الحالية تحت أي ظرف؛ حفاظاً على سلامتهم، وذلك تخوفاً من توسع العمليات العسكرية لتشمل جميع أرجاء السودان، ومنها جهة الشرق المطلة على البحر الأحمر، والشمال الشرقي الحدودي مع مصر.
في السياق نفسه، كشفت مصادر دبلوماسية لـ"عربي بوست"، أن هناك جهات دبلوماسية مصرية أجرت نقاشات مع سياسيين سودانيين يتواجدون بكثافة في القاهرة، لبلورة تصوّر أو وساطة يمكن أن تُقدم لوقف الحرب في السودان.
الأبرياء وقود حرب أهلية قادمة
كشف مصدر دبلوماسي تحدَّث لـ"عربي بوست"، شريطةَ عدم ذكر اسمه، أن الأجهزة الأمنية المصرية رصدت اعتداءاتٍ تعرَّض لها مصريون في السودان في المناطق التي وصلت إليها العمليات العسكرية.
وأضاف المصدر نفسه أن هذا الأمر هو الذي جعل وزارة الخارجية تُحذّر المصريين في السودان من خطورة التواجد هناك في الوقت الحالي، خوفاً من تمدد العملية العسكرية.
وأشار المتحدث إلى أن هناك معلومات وتقارير تُفيد برغبة طرفَي الصراع في توسيع رقعته، وأن قوات الدعم السريع التي سيطرت على عدة ولايات خلال الشهرين الماضيين تعمل حالياً على إعادة ترتيب أوراقها، والانطلاق نحو ولايات أخرى، قد تبدأ بولاية سنار في وسط السودان.
وفي المقابل فإن قوات الجيش السوداني هي الأخرى تحاول لملمة أوراقها المبعثرة، واستعادة قوتها مرة أخرى، من خلال توجيه ضربات مركزة لقوات الدعم السريع في الولايات التي سيطرت عليها.
وحسب المتحدث، ليس من المنتظر أن تقود الجهود الأفريقية أو الدولية الحالية إلى حلحلة في الموقف، وهناك خشية من أن يكون الأبرياء وقوداً للصراع الذي تَظهر علامات تؤشّر إلى إمكانية تحوله إلى حرب أهلية.
وأشار مصدر "عربي بوست" إلى أن القاهرة لا ترغب في تكرار ما حدث في السابق، حينما وجدت صعوبة في إعادة مواطنيها وبعض العسكريين الذين كانوا في الخرطوم وقت اندلاع الحرب، وفقاً للمصدر ذاته.
وقال المتحدث إن وجود قوات الدعم السريع في الولايات السودانية يحولها إلى مناطق فوضى، لأن حاميات الجيش والألوية التي يتواجدون فيها أضحت خالية من أي عناصر عسكرية تتبع القوات المسلحة.
وأشار إلى أن الأمر يُضاعف عمليات السلب والنهب التي يتعرَّض لها المواطنون، وبالطبع سيكون المصريون عرضةً لذلك، في ظل أوضاع صعبة تعمل فيها السفارة المصرية والقنصليات التابعة لها، خاصةً أن الجزء الأكبر من المصريين يتركّز في ولاية الجزيرة بوسط السودان.
وتُعد ولاية الجزيرة، التي سيطرت عليها قوات الدعم السريع قبل شهر تقريباً، هي الأكثر كثافة سكانية، بعد أن لجأ إليها المواطنون الذين كانوا يقيمون بالعاصمة الخرطوم قبل بدء الحرب، ونزحوا إليها للاحتماء بها بعيداً عن المعارك الضارية في ولايات العاصمة.
الشيء نفسه حصل مع المصريين في السودان، بحسب المصدر الدبلوماسي، مشيراً إلى أن القاهرة ينتابها القلق على تعرُّض المصريين لحالات اختطاف من العصابات المسلحة هناك، مثلما يحدث ذلك بين الحين والآخر في ليبيا.
الأوضاع في ودّ مدني
تتوالى الاتهامات لقوات الدعم السريع للتورط في عمليات سلب ونهب في المناطق التي سيطرت عليها في ولاية الجزيرة، وفي الوقت ذاته تتعرض لضربات جوية قوية يشنّها الطيران الحربي التابع للجيش السوداني، والذي يستهدف بشكل مستمر مواقع تتحصن فيها قوات الدعم بشكل يومي.
وكشف أحد الطلاب المصريين لـ"عربي بوست"، والذي فرّ هارباً أخيراً من ولاية الجزيرة، إلى مدينة بورتسودان في الشرق، أن الأوضاع في مدينة ود مدني كارثية، ولا يمكن البقاء بها.
وأكد المتحدث لـ"عربي بوست" أن الكثير من المصريين وجَّهوا استغاثات للقنصليات والسفارة المصرية لحمايتهم، أو نقلهم إلى أماكن آمنة، لكن أغلب هذه الجهود لم تكلل بالنجاح.
وأضاف أن هناك 18 شخصاً فقط قامت السفارة بترحيلهم، وفي الوقت ذاته هناك طلاب يرفضون مغادرة السودان؛ لأن الاختبارات التي أجرتها الجامعات الحكومية بعد أن توقفت الدراسة بشكل كامل، في أبريل/نيسان 2023، خلال عودتهم إلى مصر، لم تكن في صالحهم، وأغلبهم جرى تسكينهم في مراحل دراسية أقل.
وكانت اللجنة الوطنية الدائمة لمتابعة الطلاب المصريين بالخارج قد أقرّت ضوابط لإعادة تسكين الطلاب المصريين العائدين من الخارج بسبب الحرب، بينها الخضوع لاختبار تحديد مدى تأهل الطالب للالتحاق بالفرقة الدراسية نفسها التي أنهاها في الجامعة الخارجية.
وأضاف المتحدث لـ"عربي بوست"، أن الطلاب يرون أن المقررات الدراسية في الجامعات السودانية أكثر سهولة من مصر، وهناك فرصة للحصول على درجة البكالوريوس إذا ما استمرت الجامعات التي يلتحقون بها في العمل بشكل منتظم.
وأشار إلى أن من قرروا العودة بشكل نهائي هم الطلاب الذين توقفت جامعاتهم عن الدراسة، وهؤلاء فقدوا الأمل في العودة مرة أخرى، والأمر يرتبط في الأغلب بالجامعات الموجودة في العاصمة الخرطوم.
ويلفت المتحدث إلى أن الأوضاع الإنسانية صعبة للغاية في ولاية الجزيرة؛ لأن كثيراً من البنايات تعرَّضت للسرقة والنَّهب من جانب عناصر الدعم السريع، كما أنَّ الطلاب والأهالي الذين حاولوا الهروب من مدينة ود مدني خلال الأيام الماضية لم يتمكنوا من ذلك، بسبب عدم وجود وسائل مواصلات، كما أن من يمتلك سيارةً خاصةً تعرض للسرقة تحت تهديد السلاح.
وأشار الطالب المصري ألّا مجال للاستمرار في الدراسة، في ظل هذه الظروف الصعبة، لأن أغلب الطلاب الذين عادوا مرة أخرى إلى السودان خلال الفترة الماضية لم يكن لديهم توقع بأن الحرب ستصل إلى مدينة تبعد أكثر من 400 كيلو متر من العاصمة الخرطوم.
أوضاع أمنية صعبة
من جهتها، قالت وزيرة الهجرة المصرية في تصريحات إعلامية إنها تلقَّت استغاثات مجدداً من أهالي بعض الطلاب المصريين الدارسين في السودان، لأنَّهم عادوا مرة أخرى رغم اشتعال الحرب وتوفيق أوضاعهم ودمجهم في الجامعات المصرية.
وأضافت أن هناك خطوات اتخذتها الجهات المصرية لعودة آلاف الطلاب من السودان، وتحركت طائرات عسكرية لإعادتهم إلى مصر من قواعد عسكرية، وهناك اتفاقيات وبروتوكولات مع أطراف الصراع كافة، وسافروا دون إبلاغ الحكومة المصرية، وعادوا إلى مناطق الحرب.
ودخل العديد من الإعلاميين المصريين على خط الدعاوى المصرية للمواطنين بمغادرة السودان، وهو ما فاقم الأمور تعقيداً، وأثاروا حالةً من الفزع في نفوس الطلاب، بحسب الطالب المصري الذي تحدث معه "عربي بوست".
وقال الطالب المصري إن وزارة الهجرة تواصلت معهم وطالبتهم بالوصول إلى الولايات الآمنة في الشرق؛ حتى تسهل عودتهم إلى القاهرة، سواء عبر الطيران أو من خلال الطرق البرية، وهو ما سعى بعض الطلاب للاستجابة له في ظل أوضاع أمنية صعبة للغاية.
وكان الإعلامي أحمد موسى قد وجَّه خطاباً حاداً إلى الطلاب والمواطنين المصريين الموجودين في السودان قائلاً: "لا تسافروا إلى السودان، عمليات القتل والاغتصاب الجماعي منتشرة، بخلاف الكوليرا والأوبئة التي تهدد حياة الآلاف"، ولفت إلى أن "السودان من أهم دول العالم بالنسبة لمصر"، لكنه حذر من أن "الدولة الشقيقة تتجه لمرحلة مفصلية تفوق تصور أي شخص".
ويُقدر عدد المصريين بالسودان بنحو 10 آلاف مواطن، وفق بيان سابق لوزارة الهجرة، غير أنَّ الوزيرة سها جندي، أشارت إلى أن "الأعداد المذكورة ربما تكون غير دقيقة؛ بسبب عدم قيام غالبية المصريين بتسجيل بياناتهم عقب الوصول"، وهو ما يشير لإمكانية زيادة هذا الرقم.
تحرك دبلوماسي مصري
من جهته، قال دبلوماسي مصري آخر لـ"عربي بوست"، إن مصر لديها هواجس عديدة ومعلومات عن استمرار حالة الفوضى في ولاية الجزيرة، والتي تعد سلة غذاء السودان، ويأتي منها العديد من الواردات الغذائية إلى مصر.
وقال المتحدث إن الولاية ذات أهمية استراتيجية، وكان لا بد لمصر أن تعبّر من خلال بيانات متتابعة عن خطورة الأوضاع هناك، دون أن يكون لديها تدخل يُفهم على أنه دعم لأي من الطرفين.
وفي الوقت ذاته فإن القاهرة تخشى من نتائج توزيع السلاح على المدنيين، تحت ما يسمى بـ"المقاومة الشعبية"، لأن ذلك يؤكد على حتمية اتساع نطاق العمليات العسكرية.
وكشف أن تلك التخوفات قادت لتحركٍ دبلوماسي يمزج بين الدبلوماسية الشعبية والرسمية، وترتب عليه عقد المجلس المصري للشؤون الخارجية الحكومي لقاءاتٍ مع طيف واسع من السياسيين السودانيين، الذين يتواجدون في العاصمة القاهرة وبعض المحافظات الأخرى، والاستماع إلى وجهة نظرهم بشأن كيفية وقف الحرب.
وأضاف المتحدث أن الاجتماعات تضمّنت الاستماع لسياسيين محسوبين على الجيش السوداني، وآخرين تابعين لقوات الدعم السريع، إلى جانب ممثلين عن القوى المدنية.
وبخصوص خلاصة الاجتماعات، قال المصدر الدبلوماسي إنها لم تتبلور بعد في شكل مبادرة يمكن تقديمها، وليس معروفاً الشكل الذي سوف تنتهي إليه تلك النقاشات، لكن تبقى هناك أهداف عامة تتمثل في الانفتاح على جميع الأطراف، بعد أن تعاملت الأطراف السودانية مع مصر كونها تدعم الجيش السوداني.
إلى جانب ذلك، هناك خلق لرؤية شاملة لمعالجة الأزمة، والتنسيق بين الجهات الفاعلة والأحزاب التي يتواجد قياداتها في مصر، والتعرف على تفاصيل المبادرات الدولية التي قدّمها منبر جدة ومنظمة "الإيغاد"، والأخيرة يبدو أنها في طريقها للفشل، ما قد يجعل هناك فرصةً لبلورة مبادرة جديدة.
وشدَّد المصدر على أن أحد الاجتماعات التي انعقدت في القاهرة، خلال الأيام الماضية، شارك فيه نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار، والذي قدَّم رؤيةً شاملةً تتعلق بمجلس السيادة والمسارات التي يمكن أن يمضي خلالها لوقف الحرب، والتوجه الحالي نحو إجراء اتصالات مع أطراف رسمية تتبع قوات الدعم السريع كذلك للتعرف على رؤيتها.
وكان مالك عقار قد اقترح، في أغسطس/آب 2023، خارطةَ طريقٍ تبدأ بوقف إطلاق النار بين الجيش والدعم السريع، وإطلاق حوار بين القوى السياسية، يُؤسِّس لمرحلة انتقالية وانتخابات، مع ضمانات بعدم وجود تشكيلات عسكرية خارج إطار القوات المسلّحة السودانية.