كشف تقرير لصحيفة The Economist البريطانية، الأربعاء 10 يناير/كانون الثاني 2024، عن مرور قناة بنما المائية بواحدة من أسوأ أزماتها، بسبب الجفاف، وعن سعي العديد من الدول اللاتينية لـ"اغتنام الفرصة" وخلق ممرات بديلة، ما يهدد بنما بخسارة ملايين الدولارات سنوياً، كانت تجنيها من الممر.
فقد تقلَّصت كذلك حركة التجارة عبر قناة بنما، ثاني أكثر الممرات البحرية التي حفرها الإنسان ازدحاماً بالسفن، بنسبة 30% منذ نوفمبر/تشرين الثاني.
بينما تواجه قناة السويس مشكلات جيوسياسية، أما قناة بنما فمشكلاتها مناخية، إذ إن البحيرات التي تغذي القناة بالمياه ما فتئت تجف، ويرجع ذلك إلى اشتداد موجات الجفاف السنوية التي يبدو أنها تتفاقم بارتفاع درجة حرارة الأرض تأثراً بالتغيرات المناخية. وقد أدى ذلك إلى تجفيف الممرات التي تربط المحيط الأطلسي بالمحيط الهادئ عبر بحيرة غاتون البنمية، وزاد من ضحالتها على نحو يحول دون مرور السفن الكبرى للحاويات فيها.
بدائل أخرى عن القناة
شرعت حكومات أمريكا اللاتينية في التحرك لانتهاز الفرصة واقتطاع حصة من الأرباح التي كانت تجنيها بنما. فقد كان يمر عبر قناة بنما نحو 5% من التجارة البحرية العالمية، وهذا العبور عاد على خزانة بنما بنحو 2.5 مليار دولار في السنة المالية (2022-2023)، أي نحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد.
وبدأ السياسيون في عديد من البلدان المطلة على سواحل المحيط الهادئ والأطلسي إما ببناء أو دراسة مشروعات البنية التحتية التي يمكن الاعتماد عليها في اجتذاب حركة الشحن الدولية، وحصد الإيرادات التي ستخسرها بنما.
ولعل أكثر البدائل جدوى هي الطرق البرية، وتعتمد هذه المسارات على تفريغ الحاويات من السفن على القطارات أو الشاحنات في أحد الموانئ ونقلها عبر البلاد، ثم تحميلها على سفينة تنتظر على الجانب الآخر.
مشروع مكسيكي
يعدُّ "ممر المحيطات" في المكسيك أقرب المشروعات إلى الاكتمال بين تلك الطامعة في اقتطاع حصة من تجارة قناة بنما. فقد ظل هذا المشروع قيد النقاش عقوداً من الزمن، ثم مضى العمل فيه قدماً ضمن برنامج مشروعات البنية التحتية الذي تولى زمامه رئيس المكسيك أندريس مانويل لوبيز أوبرادور. وأبرز مكونات المشروع هو خط السكة الحديدية الذي حدَّثته المكسيك، ويبلغ طوله 300 كيلومتر، ويمر عبر جنوب البلاد، من المحيط الهادئ إلى ساحل المحيط الأطلسي.
فيما أجرت المكسيك تحديثات على الموانئ الواقعة على كلا الجانبين -"كواتزاكوالكوس" على المحيط الأطلسي، و"سالينا كروز" على المحيط الهادئ- لزيادة طاقتها الاستيعابية من حاويات الشحن، وتسريع عمليات التفتيش الجمركي. وقد اكتملت معظم أعمال بناء السكك الحديدية، وبدأ الخط في نقل الركاب.
إلا أن العمل في الموانئ لم يكتمل بعد، وقد أدى ذلك إلى تأخير البدء في رحلات الشحن بين الساحلين. وتخطط حكومة المكسيك لافتتاح العمل في خطي السكك الحديدية الثاني والثالث للمدينة، واستعمالهما في نقل البضائع، في وقت لاحق من عام 2024.
خط سككي كولومبي
لا تقتصر المنافسة لبنما على ممر المحيطات المكسيكي، فهناك مشروع كولومبي كذلك، وإن كان لا يزال في مرحلة التخطيط. فالرئيس الكولومبي جوستافو بيترو، يريد تشغيل خط سكة حديدية يمر عبر مقاطعة تشوكو الشمالية، ويربط ميناء بوينافينتورا المطل على المحيط الهادئ بساحل البحر الكاريبي.
وتعمل الوكالة الوطنية للبنية التحتية في البلاد على تخطيط المشروع، لكنها لم تعلن سوى القليل عنه، ونشر الرئيس الكولومبي خريطة بها خط بري يربط بين الساحلين، على حسابه بموقع "إكس" (تويتر سابقاً).
فيما لا يُعرف بعدُ الميناء الذي سينتهي إليه خط السكة الحديدية المتصور إقامته.
مشروع بري ضخم
أما ثالث المشروعات المنافسة، فهو مشروع ضخم يتكون من طرق برية تمر عبر عدة دول، ويعتمد "ممر كابريكورن بيوسنياك" على طريق سريع مزدوج يقطع البرازيل وبوليفيا وباراغواي والأرجنتين وتشيلي، بمحاذاة مدار الجدي تقريباً.
وعلى الرغم من أن مسار الطريق البالغ طوله 2250 كيلومتراً، أطول كثيراً من أن يكون نداً لمنافسة قناة بنما، فإنه قد يكون خياراً مفيداً للشركات، التي تتخذ من أمريكا اللاتينية مقراً لها، في تجارتها مع آسيا. وقد حظي المشروع بتمويل متعدد الأطراف، وبُني جزء منه.
وأعرب سيرجيو دياز جرانادوس، رئيس بنك التنمية الإقليمي "كاف"، عن ثقته بقدرة دول الإقليم على إتمام المشروع، ووصفه بأنه إحدى أعظم الفرص ضمن مشروعات التجارة والخدمات في أمريكا اللاتينية، اليوم.
ودار الحديث كذلك حول بعض البدائل البحرية لقناة بنما، وإن كانت تختلف عن المشروعات البرية في كونها لا تزال قيد التصورات.
إذ تريد نيكاراغوا بناء قناة تمر عبر أراضيها، لكن المشروع تعترضه التكلفة الضخمة المتوقعة وغيرها من الصعوبات المرتبطة بهذا النوع من المشروعات، فضلاً عن الفشل الذريع لمحاولة سابقة مدعومة من شركة إنشاءات في هونغ كونغ.
ومن جهة أخرى، فإن مشكلة الاحتباس الحراري التي بدأت تبث الجفاف في قناة بنما تتسبب كذلك في ذوبان الجليد بالقطب الشمالي الكندي، ويُقال إن الممر الشمالي الغربي -وهو طريق بحري يحدُّ ساحل كندا في القطب الشمالي- قد يصبح قابلاً للاستخدام في الشحن التجاري بعد ذوبان جليده.
لن تعوض "بنما" بسهولة
مع ذلك، فإن حقيقة الأمر أن البدائل البرية أكثر واقعية. فهي أرخص تكلفة وأقل خطورة، ومن ثم أسهل في التمويل. لكن هذه المشروعات لن تحل بسهولةٍ محلَّ قناة بنما التي تستطيع استيعاب السفن العملاقة التي تحمل 14 ألف حاوية في شحنة واحدة.
وتتباهى الحكومة المكسيكية بأن رحلة الشحن عبر خط السكك الحديدية المار في أراضيها من الساحل إلى الساحل ستكون أقصر زمناً من عبور القناة، لكنها تتغافل عن أن قدرة استيعاب القطارات، وسرعة تفريغها وتحميلها، لا تضاهيان قدرات الشحن في قناة بنما، وأن المعدل الإجمالي لعبور البضائع بين المحيط الهادئ والمحيط الأطلسي في ممر المحيطات المكسيكي سيكون أبطأ بكثير من القناة.
يقول نيلز راسموسن، كبير محللي الشحن في جمعية بيمكو الصناعية الدنماركية، إن نقل البضائع بالقطار والطرق البرية ليس خياراً جيداً. ويرى أن معظم شركات الشحن تفضِّل قطع كيلومترات إضافية في طرق بحرية أخرى، مثل رأس الرجاء الصالح، على الاضطرار إلى مواجهة متاعب التفريغ وإعادة التحميل في الطرق البرية.
إلا أن هذا لا يعني أن الطرق الجديدة عديمة الفائدة، فطريق كابريكورن بيوسنياك كان له الفضل في إجراء تحديثات مُلحة في شبكات الطرق بأمريكا الجنوبية، كما يساعد في تحفيز القدرات التصديرية لهذه الدول، وتعزيز التجارة الإقليمية، التي غالباً ما تكون هزيلة إلى حد يرثى له. وربما تستفيد المكسيك كذلك من خطط التوسع المزمعة، ومن مساعي الولايات المتحدة لتقصير سلاسل التوريد ونقلها بعيداً عن الصين.
وربما تؤول الطرق البرية الجديدة في نهاية المطاف إلى العمل بالتكامل مع قناة بنما، وليس التنافس معها. أما إذا تفاقمت المشكلات في قناتي السويس وبنما، بسبب تصاعد التوترات في الشرق الأوسط وتفاقم الجفاف في بنما، فإن الطرق البرية غير المكتملة ربما تكون الملاذ الذي تلجأ إليه التجارة العالمية، لأنه لن يكون لديها بديل آخر.