تحدثت الأكاديمية الفلسطينية في أمريكا، رباب عبد الهادي، لـ"عربي بوست"، عن حجم الانتهاكات وتزايد التضييقات على الأساتذة والطلاب في الجامعات الأمريكية المتضامنين مع فلسطين، قبل ومنذ بدء عملية طوفان الأقصى 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى الآن، مع استمرار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وحول ملاحقة "اللوبي الإسرائيلي" لهم، وتعرّضهم لحملات تشهير وفصل تعسفي، ودعاوى قضائية.
تعمل د. رباب أكاديمية في جامعة سان فرانسيسكو، وهي أستاذ مشارك في الدراسات العرقية، والمدير المؤسس لبرنامج الأكاديمي لدراسات الجاليات العرقيات العربية والمسلمة في المهجر، وكان لها تجربة شخصية مع (AMED) بالتضييقات التي تمت على المستوى الأكاديمي في الجامعات الأمريكية ضد المتضامنين مع القضية الفلسطينية، إذ جرى استبعادها عن مساق كانت تدرّسه عن الاستعمار والإمبريالية والمقاومة وآخر عن فلسطين.
حول تزايد حجم الانتهاكات التي تحدث للأساتذة والطلاب، وحتى عمداء ورؤساء الجامعات الأمريكية، قالت إنها تراوحت بين حملات التشهير والفصل والطرد، وبات الأمر مكرراً لكل صوت أكاديمي يرتفع لوقف العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة.
وانتقدت الانتهاكات والتضييقات التي تطال كل من يشكك فقط في الرواية الإسرائيلية حول ما يحدث، أو من لم يُدن ما قامت به المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
وصل الأمر إلى توجيه تهديدات بالقتل، هذا ما أكدته د. رباب، مشيرة إلى أن "هذا الأمر يطال من يخالف السردية الصهيونية في رواية الأحداث".
تدرّس رباب عبد الهادي مساقات تعليمية تتحدث عن فلسطين، والسكان الأصليين، والإسلاموفوبيا، ويصفها مؤيدوها بأنها صوت فلسطيني يُدوّي داخل أروقة الجامعات الأمريكية منذ عقود، وذلك ضمن حملة تضامنية جديدة معها، بعد إبعادها عن تدريس مساقاتها التي تستعرض القضية الفلسطينية في جامعة سان فرانسيسكو.
في معرض حديثها في المقابلة، أشارت د. رباب إلى دور "اللوبي الإسرائيلي" و"المؤسسات اليمينية الصهيونية"، التي رفعت بدورها عشرات الدعاوى والشكاوى والقضايا ضدها شخصياً، وضد أكاديميين آخرين يرفضون المجازر التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي في غزة.
إلى نص المقابلة:
حدّثينا أولاً عن تجربتك الشخصية في التعرض للتضييق بعملك الأكاديمي بعد معركة طوفان الأقصى، إذ قامت جامعة ولاية سان فرانسيسكو بإلغاء مساقك التدريسي الذي يتحدث عن فلسطين؟
في الفصل الدراسي الماضي، أنا كنت أدرّس مساقاً أكاديمياً حول القضية الفلسطينية، وهو المساق الأول في كل الولايات المتحدة، واسمه فلسطين، وليس الصراع العربي الإسرائيلي، وليس النزاع أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، بل اسمه "فلسطين".
كنت أدرّسه منذ فترة طويلة، وهو معتمد ومُقرر، ويُغطي مجموعة من المتطلبات كي يتخرج الطلاب في الجامعة، وكان لدى المساق شعبية كبيرة، وكان الطلاب ينتظرونه كل عام، لكنه للأسف يُعقد مرة واحدة سنوياً. ورغم ذلك كان هناك تضييق كبير علينا في البرنامج، مثل عدم توفير أستاذة معي لتدريسه.
ما حدث معي أنني فوجئت بإلغاء مساق فلسطين بعد معركة طوفان الأقصى، وعندما سألت عن السبب، رفضت العمادة والشؤون الأكاديمية التوضيح. وبعد الضغط عليهم في السؤال، قالوا إن هذا المساق لا يسجل فيه الكثير من الطلاب، رغم أن هذا غير صحيح، والسجلات تؤكد نسبة الإقبال الكبيرة في التسجيل من الطلاب. ولم أتلقَّ رداً حتى الآن لتوضيح حقيقة ذلك.
بعدها، قامت حملة للتضامن معي، ولإرجاع المساق للتدريس في الجامعة، ولا تزال مستمرة.
قمت برفع شكوى بعد إلغاء مساق فلسطين، ونجحت فيها، وأريد أن أبشرّ الجميع أن المساق سيعود من جديد، وبمساق آخر عن الإسلاموفوبيا، ومساق ثالث عن الدراسات المقارنة للحدود ما بين فلسطين والمكسيك.
وتمكنت في الفصل الماضي من تدريس مساق فلسطين مجاناً عن بُعد للطلاب، وبذلك فشلت مساعيهم في القضاء على صوت فلسطين.
ما تجربتك مع اللوبي الإسرائيلي، وتضييقاتهم عليك في عملك الجامعي؟
بدأ الأمر عام 2018، حين صعّدت الجامعة من علاقتها مع المؤسسات الإسرائيلية، فقد قال رئيس الجامعة السابق، وكان حينها لا يزال على رأس عمله، إنه يرحب بالتعاون مع هذه المؤسسات، ورددت عليه في رسالة أرسلتها إلى جميع الزملاء، قلت لهم فيها إن هذا مرفوض، وإن هذا الترحيب بمثابة حرب ضد العرب والمسلمين والفلسطينيين في الجامعة، وضد زملائنا وزميلاتنا اليهود، الذين يرفضون أن تتحدث إسرائيل باسمهم.
بعد هذه الرسالة، قامت الدنيا ولم تقعد بالنسبة للمنظمات الإسرائيلية، وأصدروا مجموعة من البيانات ضدي، كلها تدّعي أنني أدعو للكراهية والحرب ضد اليهود، واقتبسوا جزءاً من البيان يقول "إن هذا إعلان حرب ضد العرب والمسلمين والفلسطينيين"، ولكنهم لم يقتبسوا كعادتهم الجزء الذي يقول "إن هذا ضد اليهود الذين يرفضون أن تتحدث إسرائيل باسمهم".
وقف معي مجموعة من المنظمات الطلابية، مثل اليهود ضد العنصرية، والصوت اليهودي للسلام، وروابط طلابية، مثل تكتلات الفلسطينيين والمكسيكيين والسود والسكان الأصليين، وأصبح الجميع ضد رئيس الجامعة.
لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد، بل قامت مؤسسة صهيونية مشهورة برفع دعاوى ضد الجامعة في المحاكم الاتحادية الفيدرالية، يتهمونها ببث العداء ضد الصهيونية وإسرائيل، وبررت من وجهة نظرها هذا العداء في تدريس الجامعة المساق الذي يتعلق بفلسطين، والنشاط الطلابي المتناغم مع القضية الفلسطينية، وكانت هذه الدعوة في 79 صفحة، وكان اسمي هو الاسم الأكثر ذكراً فيها، ورددت على هذا الكلام، وقلت نحن ضد الصهيونية، وأيضاً ضد العداء للسامية، وضد كره أي شعب، وضد العنصرية بكل أشكالها.
وأحد الأمور التي تميزنا في مساقنا، أننا نتحدث على شمولية العدالة، ليس فقط للفلسطينيين، ولكن للجميع.
وبعد تقديم هذه الدفوع، وعدم وجود أدلة على اتهاماتهم، حكم القاضي لنا، ورفض القضية.
لكن في العام الماضي 2022، عقدت مؤسستان صهيونيتان اتفاقية مع الرئيسة الحالية للجامعة، قاموا على أثرها بدراسة، ادَّعوا فيها أن الطلاب اليهود في الجامعة يشعرون بالخوف وعدم الارتياح بسبب النشاط الفلسطيني، وبناء عليه فمن حقهم أن يصبحوا "صهاينة"، وأن يتم الاعتراف بهم على هذا الأساس، وأن الصهيونية حركة تقرير مصير، وحركة مشروعة.
قمت مع مجموعة كبيرة من الأساتذة والعلماء الأكاديميين، بالنظر في الدراسة ومنهجيتها، واكتشفنا أن الأسلوب والطريقة التي أقيمت بها كانت خاطئة منهجياً، ولذلك، فإن الاستنتاجات كانت خاطئة أيضاً، بخلاف أن اسمي واسم برنامجي كان من ضمن الأسئلة في الدراسة، نتيجة موقفي الواضح ضد الصهيونية.
وقاموا كذلك بمحاولة إغلاق برنامج فلسطين، وإسكات كل الأصوات الفلسطينية، من خلال تجريم أي عمل أكاديمي عن فلسطين، ونحن دائما نحاول أن نطرح برامج عن الدراسات الفلسطينية، والدراسات العربية، والدراسات المسلمة، والترابط بين الشعوب، وهذه البرامج المنهجية عليها إقبال كبير من الطلاب في الجامعات الأمريكية، وهذا ما يزعجهم.
ما الأسباب وراء هذا الهجوم والتضييق والطرد والفصل من المجتمعات الأكاديمية في أمريكا، وما دور اللوبي الإسرائيلي فيه؟
الهجمة من اللوبي الإسرائيلي ضدنا، لأنهم يعولون على محو الذاكرة، رغم ما يمارسونه من إبادة جماعية الآن في غزة، من قتل عشرات الآلاف، نصفهم من الأطفال.
لا يُريدون من الطالب الأمريكي والغربي أن يسأل السؤال المنطقي عن سبب وتاريخ الصراع، فيبحث، ويذهب ليقرأ، أو ينخرط في مساق أكاديمي عن فلسطين. هم لا يريدون كل ذلك.
هذا يحدث في مختلف المجالات وليس المجال الأكاديمي فقط، ولأسباب كثيرة، أولها أن الولايات المتحدة الأمريكية والغرب عندهم تاريخ طويل جداً من الاستعمار والاحتلال، كما يجب ألا ننسى أن أمريكا تتشابه مع إسرائيل في نشأتها، بالتالي هم تاريخياً لا يتعاطفون مع سكان البلاد الأصليين، والسود، والملونين، والآسيويين، واللاتينيين، وبالتأكيد ليس مع الفلسطينيين والعرب والمسلمين.
لذلك، نجد عندهم نزعات عنصرية ضد العرب والمسلمين، والدليل الإسلاموفوبيا. وهذا التصور والاعتقاد موجود دائماً، وخصوصا عند القيادات السياسية والمستويات الرسمية، والقيادات في المجالات الأكاديمية والثقافية.
السبب الثاني هو الضغط الصهيوني والمنظمات الصهيونية الداعمة لإسرائيل واللوبي الإسرائيلي، والموضوع هنا يتجاوز مؤسسة "أيباك"، ولكن أنا أسميهم صناعة اللوبي الصهيوني "industry"، وهي التي تدعم إسرائيل في الولايات المتحدة والغرب بشكل عام.
ولكن نفوذهم في أمريكا كبير، وهذا بسبب المنظمات الصهيونية التي تدفع الأموال الهائلة، ما يخلق النفوذ السياسي الكبير لها في البيت الأبيض، ومجلس الشيوخ، ومجلس النواب، وعند حكام الولايات، والقضاة إلى آخره، وكل يوم نكتشف المزيد من الفضائح التي تتعلق بالمال السياسي.
السبب الثالث، هو المصالح الأمريكية الإسرائيلية في منطقة الشرق الأوسط.
وعن أسباب زيادة الضغط مؤخراً، فإن إسرائيل سمعتها ساءت كثيراً، وبات جلياً أكثر من أي وقت مضى أنها مثل نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بالتالي بدأت تعاني عزلة دولياً.
بالنسبة لإسرائيل، عزلها دولياً وسوء سمعتها مشكلتان حقيقيتان لها، لأنها دائماً ما تعتمد على "Public relations" العلاقات العامة من أجل تجميل الصورة، وهذا ليس منذ التأسيس، ولكن من قبل تتأسس دولة إسرائيل 1948.
بالنسبة لخطابها مع الشعوب، فهي دائماً ما تحاول أن تروّج على مستوى القواعد الشعبية، أن إسرائيل دولة ديمقراطية متقدمة، حضارية، عصرية، قامت بتطوير الصحراء، وتحويلها إلى جنة، وطبعا هذا كله كذب، بخلاف طرحهم أن عندهم شرعية في وجود الاستعمار الصهيوني على أراضينا الفلسطينية.
بالتالي، عندما تُشوّه صورة وسمعة إسرائيل وتظهر على حقيقتها، وتصبح القواعد الشعبية ترفضها، تبدأ ماكينة صناعة اللوبي السياسية في التأثير، والعمل بكل ما أوتيت من قوة من أجل تغيير الصورة وتشويه السردية الحقيقية.
من الممكن أن نقول إن هناك علاقة طردية بين بشاعة الهجمات الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وبين ما يقوم به اللوبي من مهاجمة وتشويه كل من يرفض سياسات إسرائيل القمعية، وإسكات الأفواه، وحرمان المجتمع من حق الحرية الأكاديمية، والحريات التجمع، مع أن هذا مناهض للبند الأول بالدستور الأمريكي الذي ينص على "حرية التعبير والحقّ في الاحتجاج السلمي أو التظاهر".
هم الآن لا يحاربون الفلسطينيين فقط والمتعاطفين معهم، ولكن أيضاً جماعات اليهود ضد الصهيونية، التي ترفض أن تمارس إسرائيل الإبادة باسم الدين اليهودي، فهم يقولون إنهم كما يرفضون ما حدث معهم في الحرب العالمية الثانية من محرقة، فهم يرفضون أيضاً ما يحدث ضد الشعب الفلسطيني، وهذا ما يفسر زيادة الطرد والفصل والقمع ضدنا.
كم وصلت حالات الانتهاكات في الجانب الأكاديمي في أمريكا ضد المتضامنين مع الشعب الفلسطيني؟
منظمة طلاب من أجل العدالة في فلسطين، تقول إنها سجّلت ألف حالة اعتداء على الطلاب مؤخراً، وأريد أن أوضح أن هناك العديد من الحالات التي تتعرض للتضييق ولا تقوم بالإبلاغ، خوفاً من زيادة المضايقة من اللوبي الإسرائيلي عليها.
في أمريكا يتم رفع شعار حرية التعبير والبحث العلمي، وأيضا حرية التجمع والتنظيم، وشعار "freedom of speech freedom of assembly" حرية التعبير وحرية التجمع، ولكن هذا ليس للجميع، بسبب وجود معايير مزدوجة.
فعلى سبيل المثال، مليونير متطرف (لم يُوضع اسمه لأسباب قانونية) وضع العشرات من اللوحات المسيئة ضدي داخل الجامعات الأمريكية، ولم يكتف بذلك، بل قام بتهديدي وزملائي وطلابي، وكل من يعمل في المشروع الفلسطيني داخل الجامعة، ووصفنا بالإرهاب ومعاداة السامية واليهودية.
لكن عندما طالبنا الجامعة بالوقوف معنا، قالت إن ما يقوم به المليونير هو حرية تعبير، لكن نحن ليس لنا حرية تعبير ولا كلمة، بل التضييق والتشديد فقط على كافة أنشطتنا الأكاديمية، فهل هذه هي حرية التعبير في أمريكا؟
ما هي الحالات الجديدة، التي شهدت تضييقاً على الأكاديميين المتضامنين مع فلسطين، وما هي الجامعات الأمريكية التي تشهد ذلك؟
في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2023، هدد الملياردير الأمريكي اليهودي ليون كوبرمان خريج جامعة كولومبيا الذي تبرع لها بأكثر من 25 مليون دولار، بتعليق تبرعاته ما لم تتخذ إدارة الجامعة موقفاً أكثر حزماً، وتقوم بطرد الأكاديمي الفلسطيني جوزيف مسعد.
لكنهم فشلوا في طرد مسعد، لأننا تكاتفنا وقدمنا بيانات وعرائض واعتراضات، وقلنا لهم بوضوح إنكم لا تستطيعون طرد مسعد، وهو الآن يمارس عمله.
للأسف الجامعات الأمريكية تتعرض للابتزاز من المتبرعين، وسبب ذلك أن الكثير من الجامعات تعتمد على التبرعات، مع أنهم من المفترض ألا يأخذوا تبرعات مشروطة، ولكنهم يأخذون تبرعات مشروطة من اللوبي الإسرائيلي.
ليس جامعة كولومبيا فقط، لكن انضمت إليها جامعات هارفارد، وييل، وبنسيلفانيا ومجموعة كبيرة من الجامعات الأمريكية.
دُعيت إلى ندوة من الطلاب الأفارقة الخريجين للدراسات العليا، واتحاد الطلبة السود، وإدارة الدراسات الأفريقية والأفريقية الأمريكية، في جامعة سيراكيوز، لإلقاء محاضرة في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2023، لكن فوجئت أن الجامعة ألغت الندوة لوجود ضغط كبير عليهم من اللوبي الإسرائيلي، بل كتبوا عني أنني معادية للسامية ولليهودية، وأنني أثير المشاكل، وهذا للأسف يحدث للجميع.
كنت أعرض على جامعتي القيام بتبرعات لبرامجي من بعض الدول العربية، وأن نقوم بعمل بعثات أكاديمية، فكان الرد يأتي لي بأننا لا نتعامل مع الدول الأجنبية، ولكن من يضغط علينا وعلى برامجنا علاقاتهم قوية جداً مع إسرائيل، بل أغلبهم مزدوجي الجنسية من إسرائيل وأمريكا.
هذا السلوك من الضغط والتشويه والابتزاز حتى الصمت يشبه أسلوب المافيات، والمشكلة أن الجامعات الأمريكية عندها آذان صاغية، ولذلك الكثير منهم يستجيب للضغط، ولكن إذا كانت هناك حرية أكاديمية حقيقية، فعلى الجامعات أن ترفض التبرعات المشروطة، وأن تقول إنها تقبل فقط التبرعات غير المشروطة، وأن تلتزم فقط بالأعراف الأكاديمية ومعايير ومقاييس البحث العلمي.
من الحالات أيضاً، ما تعرض له رؤساء جامعات هارفارد، وبنسيلفانيا، وإم آي تي "معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا"، بإجبارهم على تقديم إفاداتهم في جلسة استماع أمام مجلس النواب الأمريكي، وكانت أقرب إلى المحاكمات، بسبب المظاهرات التي شهدتها جامعاتهم تضامناً مع الفلسطينيين في غزة.
حتى أن نائبة جمهورية متطرفة كانت تحاول استخراج إدانات بأي شكل للطلاب الذين تظاهروا ضد الإبادة الجماعية في غزة، بل تطلب من رؤساء الجامعات الأمريكية تقديم استقالتهم حالاً، ما دفع بـ500 أكاديمي داخل جامعة هارفارد بالتوقيع على بيان دعماً لرئيسة الجامعة، ورفض إجبارها على الاستقالة.
هل تتدخل إدارة الجامعات الأمريكية في آراء الطلاب السياسية؟
نشرت لجنة التضامن الطلابي مع فلسطين وطلاب الدراسات العليا من أجل فلسطين في جامعة هارفارد، في 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، بياناً يحمّل النظام الإسرائيلي المسؤولية كاملة عن العنف المتصاعد، موضحاً أن طوفان الأقصى لم يأتِ من فراغ، وردت رئيسة الجامعة، كلودين غاي، على ذلك في بيان قالت فيه إنها تدين "الأعمال الإرهابية التي ارتكبتها حماس"، وتنأى بالجامعة عن البيان المنشور من الطلبة.
للأسف، فإنني على قناعة بأن أغلب الجامعات الأمريكية لها علاقة بجماعات الضغط من الممولين الداعمين لإسرائيل من جهة، وصناع السياسات الأمريكية من جهة أخرى.
في مدرسة كندي في جامعة هارفارد، التي تخرج منها وزير الخارجية الأسبق هنري كيسنجر، والعديد من القادة وصناع القرار والساسة في الولايات المتحدة، الإدارة فيها إما من اليمينيين أو المحافظين، ولذلك يمارسون إسكات الأفواه بحق كل متضامن مع القضية الفلسطينية، ويصفون أي متضامن بكاره لليهود.
وفي 11 أكتوبر/تشرين الأول 2023، دعا الملياردير الأمريكي اليهودي بيل آكمان، إلى جانب غيره من المدراء التنفيذيين، جامعة هارفارد إلى الإفصاح عن أسماء الطلاب الموقعين على بيان المطالب بوقف العدوان على غزة، حتى لا يقوم هو والمديرون التنفيذيون الآخرون بتوظيف أي منهم سهواً.
ما حدث أن مؤسسة تابعة للوبي الإسرائيلي، أخذت بيانات وأسماء الطلاب المشاركين في المظاهرات، والموقعين على بيان إدانة إسرائيل، وقاموا بنشر صورهم وبياناتهم على لافتات موضوعة على شاحنات إعلانية في الشوارع، وهذا ليس ابتزاز، ولكنه سلوك بلطجة، يعرّض حياة الطلاب للخطر.
هذا الأسلوب ليس جديداً على اللوبي الإسرائيلي، لكنه حدث أيضاً في عام 2016، مع طالبتين فلسطينيتين، ما عرّض حياتهم للخطر، لكن في النهاية فشلوا في إسكات الطلاب.
كذلك تعرّض عدد من طلاب الجامعات الأمريكية لسحب عروض عمل قدمت لهم، بعد نشرهم لتصاريح داعمة لفلسطين، حتى أن أحد أساتذة القانون في جامعة بيركلي- كاليفورنيا ذهب إلى حد نشر مقال رأي في "وول ستريت جورنال"، طالب فيه المؤسسات القانونية بعدم توظيف طلبته من "المعادين للسامية"، داعياً أصحاب العمل لغربلة المدعوين لمقابلات التوظيف على أساس معتقداتهم السياسية وانتماءاتهم.
أنا برأيي أن هذه محاكم تفتيش للرأي، فهم صعّدوا وكثّفوا انتهاكاتهم أكثر من أي وقت مضى، وهذا ما أسميه المكارثية الجديدة "New McCarthyism"، (سلوك يقوم بتوجيه الاتهامات بالتآمر والخيانة دون الاهتمام بالأدلة)، لأننا الآن أمام معركة بين الكذب الإسرائيلي والحقيقة الفلسطينية.
كلما خسر الصهيوني في الترويج لكذبه، يمارس عنفه ضد الرافضين له، والأمثلة بدأت تظهر، مثل رئيسة طلاب كلية القانون في جامعة نيويورك، التي جاءها عرض عمل، ولكن عندما وقّعت على بيان حول حقوق الإنسان الفلسطيني، سحبوا منها العرض.
وفي 26 أكتوبر/تشرين الأول 2023، أرسلت المنظمة الصهيونية "رابطة مكافحة التشهير" (ADL)، رسالة إلى نحو 200 جامعة وكلية في الولايات المتحدة، تحثها على إجراء تحقيقات مع أفرع طلاب من أجل العدالة في فلسطين "للاشتباه في انتهاكها للقانون الذي يحظر دعم منظمة إرهابية أجنبية".
رابطة طلاب من أجل العدالة في فلسطين يتهمونها بخرق القانون الذي ينص على عدم دعم المنظمات الإرهابية، وكما نعلم بأن كل منظمات التحرر الوطني الفلسطينية تُعدّ إرهابية لدى الإدارة الأمريكية، وأنا وإحدى زميلاتي اتهمونا في عام 2020 بدعم الإرهاب، ورددنا عليهم، وأخذت منا هذه القضية حوالي شهرين حتى تُبرّأ ساحتنا من هذه التهم.
أيضاً هم يستخدمون نظام البروباغندا، والصور النمطية الخاطئة، ضد العرب والمسلمين وقضاياهم، فعندما تدافع مثلاً عن حق الشعب الفلسطيني، يتهمونك بأنك تابع لحركة حماس، والجميع يعرف أنها حركة محظورة في أمريكا، فيتم اغتيالك معنوياً، ومحاسبتك قضائياً.
لكن مؤخراً، ظهرت حملات كبيرة للتشهير برابطة ما يسمى مكافحة التشهير الصهيونية، لأنها إحدى المؤسسات الأساسية في الولايات المتحدة التي تنسق ما بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والشرطة الأمريكية، ولديهم مشروع مشترك تم كشفه إعلامياً اسمه "التبادل القاتل"، ومثّل فضيحة بالنسبة لهم، ولكن كل شيء عندهم مبرَّر، ولا يسمع لهم إلا الإدارة الأمريكية، وبعض الصحف مثل "نيويورك تايمز".
أيضاً في 19 أكتوبر/تشرين الأول 2023، قدّم النائب والمرشح الجمهوري للرئاسة تيم سكوت (سحب ترشحه)، تشريعاً في مجلس النواب الأمريكي، يهدف إلى سحب تمويل التعليم الفيدرالي عن الكليات والجامعات الأمريكية "التي تروّج لمعاداة السامية، أو تسمح أو تموّل أو تسيّر الفعاليات التي تروّج للسامية العنيفة"، في محاولة واضحة للربط بين معاداة الصهيونية ومعاداة الاستعمار ومعاداة السامية.
ووضع هذا المقترح ضمن سياق المظاهرات في الجامعات الأمريكية، مشيراً للأحداث في جامعتي كولومبيا وهارفارد وغيرها.
هذا التشريع خرج في فترة رئاسة دونالد ترامب، ويقول إنه إذا كانت الجامعات الأمريكية تقوم بعمل أي نشاط يتناقض مع الأمن القومي الأمريكي، فلابد من إيقافه فوراً، وحينها جرى تشريع الكثير من القوانين المناهضة للقضية الفلسطينية، مثل تحريم حركة المقاطعة "BDS"، وكانت إدارته تحاول أن تساوي بين معاداة السامية، ومعاداة الصهيونية، ومعاداة إسرائيل، فتكون هناك ذريعة قانونية لإدانتك ومحاسبتك.
الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة بايدن، تحاول أيضاً إرهاب الطلاب، ليس في كولومبيا وهارفارد فقط، ولكن في كل الجامعات الأمريكية، لأن المؤشرات تقول إن الكثير من الطلاب يناصرون القضية الفلسطينية، وهذا ما يخشونه.
هذا ليس بجديد، ففي الستينيات رأينا المظاهرات التي كان يقودها الشباب ضد الحرب الأمريكية في فيتنام، وضد العنصرية تجاه السود، وضد السياسات الاستعمارية الأمريكية، وضد القمع الذي يحدث في الجامعات الأمريكية.
في جامعتي سان فرانسيسكو، في الستينيات، شهدت أطول إضراب في تاريخ الجامعات الأمريكية عام 1968، الذي قاده اتحاد الطلاب السود، وجبهة تحرير العالم الثالث، ومن أجل تحقيق بعض مطالبهم، ونجحوا في ذلك.
النظام الأمريكي الآن لا يريد أن تعود حقبة الستينيات من جديد في الجامعات الأمريكية، فيخوفهم بعدم العمل بعد التخرج، أو التشهير بهم، وكل ذلك حتى لا تنتصر الرواية الفلسطينية الصادقة ضد السردية الصهيونية الكاذبة، لأنها إذا فقدت السردية فلن يصدقهم أو يتعاطف معهم أحد.
الجامعات الأمريكية تدخل الحملات الانتخابية
ووصلت الحملات ضد الطلبة إلى أعلى مستوياتها، حيث عمد عدد من مرشحي الحزب الجمهوري للرئاسة، بما في ذلك الرئيس السابق دونالد ترامب، وحاكم ولاية فلوريدا رون ديسانتيس، والسيناتور تيم سكوت عن ولاية كارولينا الجنوبية، إلى استثمار نزاعات الجامعات الأمريكية الحالية في حملاتهم الانتخابية.
وطالبوا باتخاذ إجراءات مثل سحب تأشيرات الطلاب الدوليين، واقترحوا حتى إيقاف التمويل الحكومي للجامعات. وبات الطلاب إحدى الأوراق في الانتخابات الأمريكية القادمة.
أنا دائماً أذكر حقبة الستينيات، لأننا رأينا مثلاً حاكم كاليفورنيا في ذلك الوقت رونالد ريجان، والذي طالب بسياسة القبضة الحديدية ضد الطلاب، وفي جامعتنا سان فرانسيسكو اعتقلوا 800 طالب وقتها، والآن المشكلة تتصاعد أكثر، لأن الطلاب صاروا أكثر وعياً، ويرفضون ما تقوله الإدارة الأمريكية منذ زمن، وهو أنكم ليس لديكم علاقة بما يحدث خارج الأراضي الأمريكية، وأنه عليكم فقط التركيز بما يحدث داخل أمريكيا، حتى لا يكتشف الطلاب الدور الأمريكي بما يحصل حول العالم.
ما أخطر ما واجهه المتضامنون مع الشعب الفلسطيني في الجامعات الأمريكية؟
تعرّض 3 طلاب من أصل فلسطيني لهجوم مسلح في ولاية فيرمونت الأمريكية، بسبب ارتدائهم الكوفية الفلسطينية، وحديثهم باللغة العربية.
لا شك أن تحشيد الرأي العام في تشجيع الهجوم على المؤيدين لفلسطين، وتسميتهم بالقتلة، كما ذكر الرئيس بايدن، الذي ردّد ما يقوله رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، ساهم في ذلك.
الدعاية الكاذبة تشحذ المتطرفين ضد أي شيء فلسطيني أو عربي، والعدوان لم يتوقف على الشبان الثلاثة، وإنما رأينا الطفل الفلسطيني وديع الفيومي، ذو الست سنوات، عندما قام جاره العنصري بطعنه 26 طعنة، وهو يقول "المسلمون لا بد أن يموتوا"، ولم يتوقف عند ذلك الحد، بل قام بطعن أمه التي أُصيبت، ولكنها لم تمت.
وهذه نتيجة طبيعية للخطاب الأمريكي الرسمي السائد، فرأينا هجوماً على المساجد وعلى الجامعات، ولذلك نحذر دائماً من يرتدي الكوفية الفلسطينية بألا يسيروا إلا في مجموعات، وأيضاً أن يقوموا بذلك بعد انتهاء المظاهرات.
هل يمكن مقارنة ما يحصل الآن من تضييق على الأكاديميين الفلسطينيين مشابه لما حصل أيام المفكر الفلسطيني المقدسي الراحل إدوارد سعيد؟
إدوارد سعيد، كان من أكبر الشخصيات الفلسطينية المعروفة في الأوساط الأكاديمية، وكان له نظريته المعروفة حول الاستشراق، ودوره الريادي في دراسات الاستعمار وما بعد الاستعمار، ولا أحد يستطيع أن ينكر بصماته في تطوير الفكر العلمي الأكاديمي الأمريكي.
شخص بهذه القامة جاءت له تهديدات بالقتل في مكتبه، ما دفع الحكومة لتوفير حراسة شخصية على مكتبه، هذا بخلاف تجسس مكتب التحقيقات الفيدرالي "FBI" على إدوارد سعيد، وليس عليه وحده، ولكن على جميع الأساتذة والطلاب العرب، وهناك فضيحة شهيرة على تجسسهم على جمعية الخريجين العرب الأمريكيين لفترة طويلة جداً، التي كانت تُعد أكبر مؤسسة طلابية في كل أمريكا، بين العرب وغير العرب، حتى توقف نشاطها عام 1978 نتيجة للخلاف الذي صار بين الدول العربية.
ما يحصل قديم جديد بهذا الإطار، ولا يزال يعاني مناصرو فلسطين في الجامعات الأمريكية، لا سيما بعد عملية طوفان الأقصى، بسبب عدم إدانتها، ومطالبهم بوقف إطلاق النار في غزة.
يشار إلى أن الإدارة الأمريكية منذ معركة طوفان الأقصى في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، كانت من أشد مؤيدي الاحتلال الإسرائيلي في عدوانه على قطاع غزة، وتبنت روايته بما يتعلق بجرائم الحرب والإبادة البشرية، بأنها "دفاع عن النفس".
ويصعد جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على غزة، مخلفاً أكثر من 20 ألف شهيد فلسطيني، وأكثر من 54 ألف جريح، غالبيتهم من الأطفال والنساء.