يبحث الاحتلال الإسرائيلي عمن يستوطن مناطق ومستوطنات غلاف غزة التي هرب منها المستوطنون منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حين تمكنت فصائل المقاومة من مهاجمتها، وقتل وأسر العديد منهم، ما سبب خشية لدى الكثيرين من العودة إليها.
"غالبية عظمى من مستوطني غلاف غزة الإسرائيليين لا يرغبون بالعودة للعيش في بيوتهم بالمستوطنات"، وفق تقرير لصحيفة "the guardian" البريطانية.
فقبل نحو 50 يوماً، تحولت تلك المناطق إلى نقطة ضعف أمام استهدافات المقاومة الفلسطينية، التي تمكنت من قتل نحو 1500 إسرائيلي، وأسر العشرات منهم.
صحيفة الغارديان أوردت مقابلات مع أسر فرّت في 7 أكتوبر من مستوطنات الغلاف صوب مدينتي تل أبيب أو إيلات على البحر الأحمر، مؤكدة أنهم لا يريدون العودة مجدداً، وأن ذلك لن يكون خياراً بالنسبة لهم في الفترة المقبلة.
"تهديد للأمن الغذائي الإسرائيلي"
ينظر الاحتلال إلى مستوطنات غلاف غزة على أنها "سلته الغذائية"، إذ تشير بيانات لاتحاد المزارعين الإسرائيليين إلى أهمية أراضيها بالنسبة للأمن الغذائي الزراعي للسوق الإسرائيلية.
وفق بيانات الاتحاد، فإن 75% من الخضراوات المستهلكة لدى الاحتلال الإسرائيلي تأتي من مستوطنات غلاف غزة، إضافة إلى 20% من الفاكهة، و6.5% من الحليب.
تُعرف المنطقة المحيطة بقطاع غزة باسم "رقعة الخضار الإسرائيلية"، التي تحتوي أيضاً مزارع للدواجن والماشية، إلى جانب مزارع للأسماك، وفق ما أوردته وسائل إعلام عبرية.
يأتي الموقف الرافض من المستوطنين العودة إلى مستوطنات غلاف غزة، رغم إعلان وزارة الزراعة الإسرائيلية التزامها الكامل بدعم المزارع هناك، وتخصيص مبلغ 2.5 مليون شيكل (625 ألف دولار) لكل مستوطن يعمل مزارعاً، إلا أن التجارب السابقة للمزارعين، تشي بأن عودتهم مستقبلاً هناك قد لا تكون خياراً.
ويشكو مزارعو مستوطنات غلاف غزة من وعود لا يتم الإيفاء بها من جانب وزارة الزراعة الإسرائيلية، التي وعدتهم سابقاً بتقديم دعم بقيمة 770 مليون شيكل كجزء من إصلاح رسوم الاستيراد، لكنهم لم يتلقوا ذلك، وفق تقرير حديث لصحيفة "غلوبس" المختصة بالاقتصاد الإسرائيلي.
الكيبوتس الزراعي
يستوطن عادة في مناطق غلاف غزة مستوطنون على شكل تجمعات تقوم بالزراعة على أراضٍ زراعية جرى احتلالها من الفلسطينيين.
لعبت الكيبوتسات دوراً كبيراً في المشروع الصهيوني لإقامة "إسرائيل"، حيث قامت بتنظيم المهاجرين اليهود الجدد في تجمعات زراعية، وتدريبهم على العمل في الحقول، والمزارع التي جرت سرقتها من الفلسطينيين، وتوفير المأوى والطعام، وتهيئتهم للاندماج في المجتمع الإسرائيلي.
تتكون تلك التجمعات من حوالي 50 مستوطنة، معروفة منذ ذلك الحين بـ"غلاف غزة".
نازحون لا يريدون العودة
يبلغ عدد سكان غلاف غزة أكثر من 40 ألفاً، ويرتفع إلى أكثر من 200 ألف مع احتساب بعض البلدات والأحياء القريبة التي طالتها صواريخ المقاومة الفلسطينية.
جميع هؤلاء هم الآن نازحون، إما في تل أبيب أو في فنادق ومنتجعات إيلات.
عادةً ما كانت هذه المناطق إلى جانب كونها مستوطنات، فهي خط الدفاع الأول للاحتلال الإسرائيلي أمام قطاع غزة، وتعد كذلك مورداً رئيساً للأسواق الإسرائيلية في قطاعي المحاصيل الزراعية والثروة الحيوانية.
وتخشى حكومة الاحتلال برئاسة بنيامين نتنياهو، من جدية تصريحات المستوطنين بأن عودتهم لبلدات الغلاف ليست خياراً مطروحاً، إلا أن أحد السيناريوهات يتمثل في تقديم حوافز مالية وإعفاءات ضريبية للراغبين بالعودة.
وفي أكثر من مناسبة، قام الاحتلال بهذه الخطوة لتشجيع الإسرائيليين على العيش بالمستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية، خلال العقود الثلاثة الأخيرة.
بينما فرضية أخرى يرددها الخبراء الإسرائيليون، هي تحويل كامل مناطق الغلاف إلى أراضٍ زراعية، وأماكن سكن لأكثر من 25 ألف عامل آسيوي ينشطون في القطاع الزراعي.
إلا أنه بحسب تقارير نشرتها هيئة البث الإسرائيلية، وصحيفة "غلوبس"، فقد عادت غالبية العمالة الآسيوية إلى بلدانهم الأم، مع اندلاع الحرب مع قطاع غزة، في وقت يشكو فيه أرباب العمل، من شح وفرة العمالة في القطاع الزراعي.
"الحقول ستصبح قاحلة"
يثير الأمر مخاوف لدى الإسرائيليين من أن "الحقول ستصبح قاحلة"، بحسب التحذيرات التي وردت في تقرير لـ"Times of Israel" التي قالت إن الرائحة الكريهة من تعفُّن المحاصيل بمساحات كبيرة في مناطق غلاف غزة كانت شاهداً على حجم الخسائر الناجمة عن هجوم "حماس".
وأضافت أن ما حصل ولا شك يُعد جزءاً من صورة الخسائر الأكبر التي تهدد مستقبل الزراعة الإسرائيلية.
ونقلت عن مدير عام وزارة الزراعة الإسرائيلية أورين لافين قوله إن "ما يحدث هو أسوأ أزمة قوى عاملة في مجال الزراعة في تاريخ إسرائيل".
بلغ حجم النقص في أعداد العمالة الزراعية نحو 40 ألفاً، بحسب البيانات التي قدمتها وزارة الزراعة الإسرائيلية، إلى لجنة الكنيست الفرعية المختصة بالنمو الاقتصادي في الـ15 من نوفمبر/تشرين الثاني 2023.
أفادت الصحيفة أيضاً بأن "إسرائيل خسرت 10,000 عامل أجنبي بعد هجوم حماس، يمثلون ثلث إجمالي عمالتها الأجنبية، وكان غالبيتهم من التايلانديين".
وغادر هؤلاء عائدين إلى تايلاند على متن رحلات موّلتها الحكومة التايلاندية.
وجرى تجميد تراخيص العمل لدواعٍ أمنية في الوقت ذاته، ما منع دخول نحو 20 ألف فلسطيني من غزة والضفة الغربية إلى الداخل المحتل. كما أن العديد من الإسرائيليين المشتغلين في الزراعة يؤدون الخدمة الاحتياطية حالياً بالقرب من غزة، أو في الشمال، أو يدعمون قوات الجيش الإسرائيلي النظامي التي تحمي المجتمعات الإسرائيلية في أراضي الـ48.
وأدى كل ذلك إلى ارتفاع أسعار الطماطم والخيار بمقدار ضعفين أو ثلاثة أضعاف، وصارت تُباع بـ30 شيكلاً للكيلوغرام الواحد (8.03 دولار) منذ 7 أكتوبر.
ودعت منظمة Taglit-Birthright نحو 850 ألفاً من خريجيها في أمريكا الشمالية حتى يحضروا لمساعدة المزارعين الإسرائيليين، كما حضرت نحو 80 عضو من مجموعة Momentum للأمهات اليهوديات في أمريكا للتطوع داخل الأراضي المحتلة، لإنقاذ المحاصيل.
إغراءات للعودة
في الـ15 من نوفمبر/تشرين الثاني 2023، اتفق وزيرا الزراعة والمالية مع لجنة المالية في الكنيست وجمعية المزارعين الإسرائيليين على إطار قانوني لتعويض المزارعين عن خسائرهم، لكن ما زال يتعيّن على الكنيست الموافقة عليه.
إذ سيجري تقديم تعويض كامل للمزارع التي تقع على بعد تسعة كيلومترات من الحدود اللبنانية، أو سبعة كيلومترات من حدود غزة.
أما المزارع الواقعة على مسافة تصل إلى 20 كيلومتراً من الحدود، فستحصل على تعويضات تصل إلى 3 ملايين شيكل (780 ألف دولار) بحدٍ أقصى عن الأضرار كل شهر.
لكن الكنيست لم يُصوت على هذه الخطة بعد.
وتحاول الحكومة أيضاً إغراء الإسرائيليين العاطلين عن العمل أو غير المنخرطين في سوق العمل حتى يصبحوا عمالاً في الكيبوتسات الزراعية، وذلك بعرض تقديم إعانة شهرية بقيمة 3000 شيكل (800 دولار) علاوةً على ما سيتلقونه كأجور من المزارعين أنفسهم.
ونقلت الصحيفة عن أحد المستوطنين في منطقة غلاف غزة: "لا يريد الإسرائيليون تأدية هذا النوع من الأعمال، لا سيما التخلص من المحاصيل المتعفنة، كما أن غالبية الأجانب لا يمكنهم تحمل سخونة الأحداث هنا".
يُشار إلى أنه في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، نفذت حركة "حماس" هجوماً على مستوطنات غلاف غزة، رداً على الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات والأسرى الفلسطينيين، وتمكنت من قتل مئات الإسرائيليين وأسرت العشرات.
في اليوم ذاته شن الاحتلال الإسرائيلي عدواناً مدمراً على غزة، خلّف أكثر من 14 ألف شهيد بينهم أكثر من 6 آلاف طفل شهيد، وجرح أكثر من 36 ألف شخص، في حين أن أكثر الضحايا بنحو 75% منهم أطفال ونساء، وفقاً للمكتب الإعلامي الحكومي في القطاع الفلسطيني المحاصر.