بعد مرور 17 يوماً على بدء الحرب على غزة، وتزايد التهديدات الإسرائيلية بتنفيذ عملية برية ضد حماس، تُشير المعطيات على الأرض إلى أن تنفيذ هذه العملية غير قريب.
ويوجد رأي عام إسرائيلي ضاغط باتجاه تنفيذ العملية البرية في غزة، وتهيئة المستويين السياسي والعسكري للمجتمع الإسرائيلي بأنه سيدفع ثمناً بشرياً باهظاً خلالها.
رغم كل ذلك، فما زالت الحشود العسكرية الإسرائيلية على حالها شرق قطاع غزة، فيما لا تشير أعداد وأحجام الأرتال والدبابات والمدرعات عند الحدود إلى هجوم برّي وشيك.
لكن مسألة حشدها ميدانياً لا تحتاج أكثر من ساعات معدودة، والتباطؤ الحاصل في الشروع بهذه العملية البرية تحيط به العديد من أوجه الغموض والترقب، وقد تباينت الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية في رصدها وتحديدها.
تباين الساسة والعسكر
ليست المرة الأولى التي تشهد فيها العلاقات الشخصية بين المستويات السياسية والعسكرية والأمنية توترات واختلافات في أوقات الحروب والعدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين.
بل يمكن القول إن السمة الغالبة على هذه العلاقات بالعادة هي التباين والاختلاف، لأكثر من سبب، لاسيما أن الحديث يدور عن حرب تصفها إسرائيل بأنها "وجودية ومصيرية"، ما سيجعل أي قرار يتخذه أيٌّ من المستويات المشار إليها له حسابات قصيرة ومتوسطة وبعيدة المدى.
ولا يختلف إسرائيليان على أن رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بات يعدّ أيامه الأخيرة في منصبه، بانتظار نهاية العدوان الجاري على غزة، لأن لجان التحقيق التي سيتم تشكيلها على الفور ستُوجِّه له سيلاً من التساؤلات التي تبدأ ولا تنتهي، حول دوره ومسؤوليته عن إخفاق ما يُسمى اليوم "السبت الأسود"، الذي شهد هجوم "طوفان الأقصى" على مستوطنات غِلاف غزة.
ولذلك فإن نتنياهو قد لا يكون مستعداً لتلقي أسئلة أخرى عن فشل متوقع للعملية البرية في غزة، لاسيما إن وقعت خسائر بشرية باهظة في صفوف الجيش.
صحيح أن الرأي العام الإسرائيلي متأهّب لمثل هذه الخسارات، لأنه يواجه حرب البقاء، لكن نتنياهو يعرف أكثر من سواه أنه بعد انقشاع غبار المعارك، وتوقف أزيز الطائرات، وعودة الجنود إلى منازلهم، سيتخلى الكل عنه، وسيواجه وحده لجان التحقيق، وما تُصدره من توصيات بالمُساءَلة والإقالة.
على المستوى العسكري، وعلى رأسه وزير الدفاع يوآف غالانت، وقائد الجيش هآرتسي هاليفي، قد لا يكون لديهما ذات الحسابات السياسية والشخصية التي يحوزها نتنياهو، ولذلك نراهما مقبلين ومندفعين باتجاه العملية البرية، سواء لاستعادة الردع أمام حماس، أو محاولة ترميم صورة الجيش التي تآكلت كثيراً، ولخشيتهما على تراجع دافعية الجنود في ساحة التدريبات، وهو ما عبَّر عنه بعضهم بحالة الإحباط والملل.
هذا التبايُن دفع الناطق باسم الجيش، دانيئيل هالغاري، على غير العادة، للإعلان صراحةً أنَّ الجيش أكمل استعداداته للعملية البرية، وهو بانتظار قرار المستوى السياسي، ما اعتبره الخبراء والمحللون الإسرائيليون غمزاً بقناة نتنياهو، وتحميلاً مبكراً له أي إخفاق متوقع في المعركة البرية.
ضغوط واشنطن
لم يعد سرّاً أن العدوان على غزة تقوده واشنطن مباشرة، وليس بالوكالة، بل إن بعض الأوساط السياسية تتحدث أن بايدن هو الذي يتحكم في مساراته من خلال مبعوثيه السياسيين والعسكريين، لاعتقاده أنها معركة تخص هيبة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط.
ويرى بايدن أن هجوم "طوفان الأقصى" هدَّد مكانته في المنطقة، وقد يشجع أطرافاً أخرى مثل حزب الله وإيران على الانخراط في المعركة، أو، وهذا هو الأهم، تقديراً من واشنطن أن تل أبيب قد تقدم على اتخاذ قرارات انفعالية غير محسوبة تورطها في معركة واسعة لم تستعدّ لها.
ووصل الضغط الأمريكي على تل أبيب أن وجد بايدن نفسه جالساً في مجلس الحرب الإسرائيلي، في سابقة لم تحصل من قبل لرئيس أمريكي، كي يحمي إسرائيل من نفسها، في ظل شعور نتنياهو بأن ظهره للحائط، وما يمرّ به الجيش من مهانة وانتكاسة قد يدفعه لارتكاب جرائم حرب أكثر من المرتكبة حالياً، ولذلك يأتي الدور الأمريكي في مطالبة إسرائيل بالتريث في العملية البرية، والاكتفاء عنها، حتى الآن على الأقل، بتكثيف الضربات الجوية الدامية.
سبب آخر للدعوات الأمريكية لتل أبيب بعدم الاندفاع نحو عملية برية، يتوافق الجميع على أنها ستكون ضارية ودامية، يتعلق بالأسرى الإسرائيليين ذوي الجنسية الأمريكية لدى حماس، وحاجة واشنطن للإفراج عنهم قبل الشروع بعملية برية.
ويتوقع أن تقتل العملية البرية أعداداً كبيرة ممن سيبقون في غزة، ومن ضمنهم هؤلاء الرعايا الأمريكيين، والكل يعلم حساسية الرأي العام الأمريكي لمقتل رعاياهم خارج الولايات المتحدة، وخشية بايدن أن تتم محاسبته على ذلك، وإمكانية ترجمته سلبياً في مستقبل حملته الانتخابية الوشيكة، ما جعلنا نلحظ الضغوط الأمريكية على الوسطاء، لدفع حماس للإفراج عن الأسرى الأمريكيين بشكل أساسي.
ولقد تمثلت هذه الضغوط في العديد من الدعوات التي أعلنها ولمّح إليها مسؤولون أمريكيون عديدون، أبرزهم وزير الدفاع لويد أوستين، في أحاديثه المتكررة مع نظيره الإسرائيلي غالانت.
ولا يخفى على أحد أن حجم التأثير الأمريكي على إسرائيل، في هذه الحرب بالذات، يتجاوز مرحلة المشاورة والطلب والرجاء، إلى مستوى الأمر والقرار، أمام ما قدمته واشنطن من دعم سياسي وعسكري غير مسبوقين لإسرائيل، التي تجد نفسها مدينة لها إلى إشعار آخر.
تغيير الخطط
وتشير العلوم العسكرية في أدبياتها إلى أن المعارك الكبيرة قابلة لأن تشهد تغييراً في مخططاتها العملياتية بين حين وآخر، ولئن حظيت العملية البرية بنصيب الأسد في التهديدات الإسرائيلية، فإنها قد تشهد إعادةً لتموضع قواتها، أي أنَّ الشكل التقليدي للمعركة البرية المتمثل باجتياح آلاف الجنود دفعة واحدة باتجاه حدود غزة، كما حصل في 2008 و2014، ليس بالضرورة هو الذي سيتكرر اليوم في 2023، سواء لاختلاف المعركة الحالية عن سابقاتها، أو لدخول شركاء فعليين لإسرائيل في التخطيط لها، وهم الأمريكان بالذات.
هنا يمكن استحضار معارك أمريكية تم خوضها في مناطق مختلفة من الشرق الأوسط مع تنظيم الدولة، لاسيما في الموصل العراقية، والرقة السورية، والجهود الأمريكية الإسرائيلية التي لا تُخطئها العين بتشبيه حماس بذلك التنظيم، رغبةً منهما في حشد المزيد من الرأي العام الدولي، الأمر الذي قد ينجم عنه محاولة منهما لمحاكاة ما خاضته القوات الأمريكية هناك، وفي هذه الحالة ربما حصل نوع من الاستعاضة عن الخطط الإسرائيلية الحصرية بمحاولة دمجها بخطط أمريكية، مادامت واشنطن تعتبر ما يحصل في غزة معركتها هي.
هذا التغيير المفاجئ قد يدفع لتأجيل العملية البرية لأسباب موضوعية عملياتية، قابلة لأن تحصل في مثل هذه المعارك المصيرية، وهنا ظهر لافتاً الحديث الإسرائيلي عن تأجيل مؤقت للمعركة البرية، بانتظار وصول قوات أمريكية، وهو سبب يبدو غريباً بعض الشيء.
فالجيش الإسرائيلي استدعى بموجب حالة الطوارئ قرابة 350 ألف جندي من جيش الاحتياط، وهو عدد كفيل باحتلال غزة من جديد من رفح إلى بيت حانون، ولا حاجة له لجنود أمريكيين، فضلاً عن كون الولايات المتحدة ذاتها ليست معنية بتوريط جنودها في قلب غزة، إلا إذا كان المقصود استدعاء جنود ومستشارين عسكريين يرافقون الحملة الإسرائيلية البرية على مدار الساعة، سواء لتقديم الاستشارات أو أن يكونوا ضباط اتصال بين القيادتين العسكريتين الأمريكية والإسرائيلية.
توزيع الأدوار
ويصعب على المرء الأخذ برواية التضارب والتناقض بين المستويين السياسي والعسكري حول مبدأ العملية البرية في غزة، صحيح أن الاختلاف وارد بينهما في المسائل التكتيكية الخاصة بالعملية، سواء التوقيت الزمني، أو العمق الجغرافي، أو حجم القوات، لكنْ هناك توافق ما زال قائماً بينهما حول الهدف الاستراتيجي الإسرائيلي الخاص بالقضاء على قدرات حماس العسكرية.
هنا يمكن الإشارة إلى مسألة توزيع الأدوار بينهما بصورة منسقة، بهدف خديعة حماس، وإشعارها بأن إسرائيل تعيش تبايناً داخلياً عميقاً، ما يجعل مقاتليها يشعرون بحالة من الاسترخاء والاستراحة، ثم يباغتهم الجيش على حين غِرّة، رغم أن حماس ربما تكون أذكى من تمرير مثل هذه الخديعة عليها، لكنها الحرب، وإذا كانت حماس قد فاجأتهم في عُقر دارهم صباح السبت، فإن إسرائيل قد تردُّ عليها بمفاجأة مماثلة، رغم استعدادها لكل احتمال.
الشكل المتوقع
أيّاً كانت الأسباب والعوامل التي قد تدفع باتجاه تأجيل أو إرجاء العملية البرية في غزة، وربما تغيير شكلها، دون إلغائها كليّاً، فإن ذلك لا ينفي جملة من الفرضيات التي يتوافق حولها الإسرائيليون، أهمها الخوف من مفاجآت كثيرة أعدّتها كتائب القسام، ودخول الجنود إلى عالم مجهول لا يعرفون عنه شيئاً من القدرات والوقائع والتكتيكات التي ستواجههم، فأكثر ما يخشاه الجيش مشاهد الدبابات المدمّرة، والآليات المحترقة، والجثث المشوهة، والجنود القتلى أو المأسورين.
كما لا يختلفون في كون نتنياهو شخصية مترددة، ويعلم أن الوصفة السحرية للإطاحة به من المشهد السياسي مرة واحدة وإلى الأبد، أن يعود جنوده من أرض المعركة في غزة محمولين بتوابيت سوداء جثثاً مقتولة، فضلاً عن عدم إحاطة الجيش بطبيعة غزة الجغرافية وكثافتها السكانية، فيما تجيد المقاومة بغزة قتال الشوارع، وفنون الاختفاء والتمويه، وسرعة توجيه الضربات للخصم.
ويحتفظ الضباط والجنود الإسرائيليون بانطباعات متشابهة مما ينتظرهم في العملية البرية في عمق غزة، أهمها أن حماس استطاعت بناء جيش قوي منظم يحتوي على تشكيلات عسكرية مماثلة لألوية الجيش الإسرائيلي، خاصةً النخبة، لا يمكن أن يستهان بها، مع تطور أداء مقاتليها بشكل مفاجئ وغير محسوب، ليسوا هم الذين واجههم الجيش في حرب 2014.
وتُنكِر العديد من أوساط الجيش الإسرائيلي على من يستهين بقوة حماس العسكرية، ممن ينادون صباح مساء باجتياح غزة بصورة كاملة، لكنهم لا يعرفون معنى حرب العصابات والشوارع، التي برع فيها مقاتلو حماس، وأثبتوا قدرة عالية على الصمود والتحدي والجرأة بشكل غير مسبوق، وتلقوا تدريبات عسكريّة صعبة ومتقدمة، ورغم تلقي الحركة ضربة قاسية خلال أسبوعين من هذه الحرب عبر الضربات الجوية الدامية، فإنها أثبتت أنها ما زالت تتمتع بقوتها، وباستطاعتها مواصلة إطلاق الصواريخ.
كل ذلك لا ينفي القناعة الإسرائيلية السائدة، ومفادها أن الجيش استنفد جميع الخيارات العسكرية والسياسية للتعامل مع حماس، ما أوصلهم لنتيجة تقول إنه من دون العملية البرية فستدفع الدولة ثمناً أغلى بكثير مما دفعته في هجوم "طوفان الأقصى"، رغم إعلانها أنه لا يوجد ضمان بنجاح العملية البرية مئة بالمئة، لكنها ستفعل كل شيء للحصول على أقصى نتيجة، وستعمل على إنجاحها.