أحدثت الحرب على غزة حالة من الارتباك على الاقتصاد المصري الذي واجه طيلة الأشهر الماضية مشاكل هيكلية تسببت في تراجع قيمة الجنيه وسعر الدولار وزيادة معدلات التضخم وانخفاض معدلات النمو، في ظل أزمة نقص الدولار التي ألقت بظلالها على الأوضاع الاقتصادية والمعيشية لملايين.
ودائماً ما تسوق الحكومة المصرية أن المشكلات التي يعانيها الاقتصاد هي بالأساس ناتجة عن مشكلات اقتصادية دولية أو نتيجة لصراعات تنشب في محيط الإقليم المصري أو ارتدادات الصراعات العسكرية الدولية التي تأخذ في التصاعد مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
وتأتي الحرب الدائرة بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة لتدفع نحو إعادة التأكيد على تأثر مصر بما يدور حولها من أزمات، دون اعتراف حقيقي بالأخطاء التي تقع فيها الحكومة والمؤسسات المالية المصرية.
وبعد ساعات من قيام حركة حماس بعملية "طوفان الأقصى"، قفز سعر الدولار إلى مستويات قياسية مقارنة بالجنيه في السوق الموازية، ووصل خلال الأيام الماضية إلى 44 جنيهاً مقابل الدولار الواحد، وهو ما تسبب في زيادة الفجوة بين سعر الدولار الرسمي الذي ما زال يقف عند حدود 31 جنيهاً وسعر الدولار في السوق السوداء، وهو ما كان له تأثيره المباشر على أسعار السلع الرئيسية والمستوردة من الخارج.
الحرب على غزة تُغير حسابات الحكومة
وكشف مصدر بوزارة المالية المصرية لـ"عربي بوست" أن الخطوات التي اتخذتها الحكومة المصرية، وهدفت لتوفير أكبر قدر من الدولار قبل إجراء عملية تعويم الجنيه تبددت مع انطلاق الحرب الدائرة الآن على الحدود الشرقية المصرية، وهو ما ظهر في سعر الدولار في السوق الموازية.
وأضاف المتحدث أن القاهرة كانت تعول على تأخير مراجعة صندوق النقد الدولي لحين التمكن من توفير احتياطات نقدية من الدولار لا تؤدي إلى استمرار السوق الموازية وحتى لا تجد نفسها أنها تدور في دائرة مفرغة، لكن جميع الحسابات تحطمت في أعقاب ما حدث في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وتعاني مصر من نقص في النقد الأجنبي بعد أن خفضت قيمة الجنيه ثلاث مرات أمام سعر الدولار منذ مارس/آذار 2022 ليفقد أكثر من 50% من قيمته أمام الدولار، وفرضت قيوداً على الواردات، في حين علقت بنوك محلية استخدام بطاقات الخصم المباشر المصدرة بالجنيه خارج البلاد، في محاولة لوقف نزيف العملات الأجنبية.
وتوقع المتحدث ذاته مواجهة القاهرة أزمة في سلاسل الإمداد والتوريد، وكذلك تراجع عوائد السياحة، التي كانت قد أخذت في التعافي مؤخراً، كما أن تحويلات المصريين من الخارج أيضاً من المتوقع أن تتراجع على نحو أكبر لأن المسيطر الآن أن قيمة الجنيه ستنخفض بمعدلات أكبر مما كان من المتوقع لها قبل بدء الحرب على غزة وبالتالي فإن القرار الجماعي سيكون الانتظار لحين جني مزيد من الأرباح.
ولفت إلى أنه بالرغم من رفض القاهرة مخططات تهجير أهالي القطاع إلى سيناء، لكن ذلك لا ينفي إمكانية وصول مئات الآلاف من الفلسطينيين الفارين من الحرب إلى الأراضي المصرية، أسوة بكثير من الجنسيات العربية التي جاءت في أعقاب اندلاع الصراعات على أراضيها.
وأشار مصدر "عربي بوست" إلى أن الحكومة المصرية تضع في حسبانها الآن النتائج المترتبة على ذلك ومدى الضغط الذي من الممكن أن يسببه هذا الإجراء على الاقتصاد وسعر الدولار أمام الجنيه.
ورجحت وكالة "ستاندرد آند بورز" للتصنيف الائتماني، تأثر اقتصاد مصر بتداعيات الحرب الدائرة الآن في قطاع غزة منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وخفّضت تصنيفها الائتماني.
وقالت الوكالة إن "السيناريو الأساسي الحالي هو أنه من المرجّح أن يقتصر إلى حدّ كبير على إسرائيل وغزّة، لكن نظراً للحدود مع غزّة وسيطرتها على معبر رفح، فإن مصر تتأثر بشكل مباشر".
تسريع التخارج من المؤسسات ومبادلة الديون
وتوقعت الوكالة أن يؤدي النزاع الراهن إلى تراجع عدد السياح في مصر، ما قد يمارس ضغطاً إضافياً على الاقتصاد المصري، ونوّهت إلى أن إغلاق منصة "تمار" الإسرائيلية للغاز أدّى إلى خفض واردات مصر من الغاز من 800 مليون قدم مكعبة يومياً إلى 650 مليون قدم مكعبة يومياً، مما يخفض من قدرة مصر على تلبية طلبات تصدير الغاز الطبيعي المسال.
وأشارت الوكالة إلى "تقدّم بطيء" في الإصلاحات الهيكلية التي أخّرت صرف الأموال متعددة الأطراف والثنائية الأساسية لتلبية احتياجات التمويل الخارجي اللازمة للبلد.
وخفّضت "ستاندرد آند بورز" التصنيف من "B" إلى "-B"، لافتة إلى التكاليف المرتفعة جداً لخدمة الدين العام باعتبارها تحدّياً محتملاً أمام القدرة على تحمّل الديون.
وقال مصدر قريب من ملف الطروحات الحكومية لـ"عربي بوست" إن الحرب على غزة تدفع نحو تسريع وتيرة التخارج من المؤسسات والهيئات الحكومية، بما يساعد على وصول أكبر قدر من الدولار مع التراجع المتوقع في عوائد السياحة وصادرات الغاز حتى نهاية هذا العام.
وأضاف المتحدث أن القاهرة تخشى مع إعادة تقييم الهيئات والشركات التي تعرضها للبيع مع تزايد التوتر في منطقة الشرق الأوسط، وبالتالي قد لا تتمكن من تنفيذ العديد من عمليات التخارج المقررة.
وكشف المصدر أن القطاع المالي ممثلاً في البنك المركزي إلى جانب القطاع الحكومي ممثلاً في وزارة المالية يعقدان اجتماعات متتالية للوصول إلى حلول يمكن وصفها بأنها "خارج الصندوق" للتعامل مع الوضع الراهن.
وأشار المتحدث إلى أن الاتفاق المبدئي جرى على أهمية تسريع عمليات البيع في هذا التوقيت، لكن من المتوقع الخروج بقرارات أخرى خلال الأيام القادمة تساعد على مزيد من توفير العملة الصعبة وأن مصر تبدأ في عقد مفاوضات مع دول غربية لتدشين مبادرات مبادلة الديون لتخفيف الضغط على العملة المحلية.
ومؤخراً وافقت الصين على برنامج مبادلة الديون مع القاهرة للمرة الأولى في تاريخها، وذلك في مقابل إعلان شركات صينية ضخ استثمارات بأكثر من 15 مليار دولار في إنتاج الوقود الأخضر والتصنيع، إضافة إلى تقديم تمويلات ميسرة لإنشاء المرحلتين الثالثة والرابع من مشروع القطار الكهربائي الخفيف.
وقبل هذا الإجراء طرحت مصر سندات باندا بقيمة 3.5 مليار يوان صيني، أي ما يعادل أكثر من 478 مليون دولار، في وقت أكد خبراء أهمية هذا التعاون في جذب استثمارات ضخمة تسهم في زيادة معدلات نمو الاقتصاد الوطني، وتخفيف الضغط على النقد الأجنبي، وتعزيز التبادل التجاري.
سعر الدولار.. القاهرة تسابق الزمن
وبحسب المصدر المصري ذاته، يبقى التحدي الأبرز أمام القاهرة في عامل الوقت وكذلك في عدم قدرتها السيطرة على مجريات الصراع الدائر حالياً في المنطقة، إذ إنها تسابق الزمن للوصول إلى مرحلة مراجعة صندوق النقد المتأخرة منذ ستة أشهر دون أن تصل إلى معدلات تضخم مرتفعة تجعل هناك تشدد من جانب الصندوق في إجراءاته التي يتخذها حيال الاقتصاد المصري.
وقال المصدر إن الحكومة قد تكون مرغمة على تخفيض قيمة الدعم الموجه إلى الكهرباء والغاز الطبيعي والبترول كأحد أبرز المطالب المتوقعة من الصندوق إلى جانب تعويم العملة، وهو أمر تخشى تنفيذه لاعتبارات سياسية داخلية، وهو ما يجعلها تسير على أشواك القرارات الاقتصادية المتوقعة وسيكون بمثابة مغامرة لكنها مضطرة إليها حتى لا يتعرض الاقتصاد لمزيد من الخسائر.
ومؤخراً قال وزير المالية محمد معيط، إنه جرى تنفيذ صفقات لتخارج الدولة بقيمة 2.5 مليار دولار ضمن برنامج "الطروحات" خلال الربع الأول من العام المالي الحالي، بما يساعد على زيادة تدفقات النقد الأجنبي، ويوفر جزءاً من التمويل الأجنبي المطلوب لتغطية احتياجات الاقتصاد المصري، فضلاً على استمرار تحقيق فائض أوليّ ونمو الإيرادات الضريبية.
وتوصلت مصر لاتفاق مع صندوق النقد الدولي في ديسمبر/كانون الأول، ولا تزال في محادثات من أجل تعزيز برنامج الإنقاذ ليصل إلى 5 مليارات دولار وليس 3 مليارات فقط، وفق ما ذكرته مصادر مطلعة على المفاوضات لبلومبرغ.
أضرار كثيرة وصفقات متوقفة
وبحسب مصدر مسؤول في وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية تحدثت إليه "عربي بوست" فإن الأضرار الواقعة على الاقتصاد المصري تأتي من جهات عدة لأن حركة الملاحة والتجارة ستتأثر بما يدور في منطقة الشرق الأوسط مع توقعات طول أمد الصراع أو اتساع نطاقه.
هذه المعطيات تُشير إلى إمكانية تأثر عوائد قناة السويس، إلى جانب التأثير السلبي المباشر جراء حركة التبادل التجاري بين مصر والسلطة الفلسطينية أو إسرائيل، في حين أن المؤشرات كانت تؤكد أنه سيكون هناك تصاعد خلال الأشهر والسنوات المقبلة.
ويلفت إلى أن القاهرة كان لديها خطط لزيادة التبادل التجاري مع إسرائيل لتصل إلى 700 مليون دولار بعد عامين، بعد أن قاربت على حاجز الـ300 مليون دولار العام الماضي.
ومن المتوقع أن يأخذ هذا الرقم في التراجع، وكذلك الوضع بالنسبة للتعاون مع السلطة الفلسطينية بعد تزايد الصادرات المصرية إلى فلسطين لتصل إلى ما يقرب من 500 مليون دولار العام الماضي بزيادة قدرها 30% عن العام قبل الماضي.
وكان من المقرر أن تطور القاهرة وتل أبيب معبر (نيتسانا) بينهما، كما أنه من المقرر أن يزيد الاحتلال مستورداته من المواد الغذائية والأسماك الطازجة ومواد البناء من مصر مقابل تصدير التقنيات الزراعية، وفقاً لوسائل إعلام إسرائيلية.
كما زادت صادرات مصر إلى الولايات المتحدة -وفق اتفاقية المناطق الصناعية المؤهلة (كويز) التي تقتضي تعاوناً صناعياً مع إسرائيل- إلى 1.5 مليار دولار في 2022، مقابل 1.2 مليار دولار في السنة التي قبلها، وفق بيانات الغرفة التجارية الأمريكية في مصر.
التضخم وتراجع السياحة
الخسارة الأكبر للاقتصاد المصري تتمثل في عاملين وفقاً للمصدر ذاته، أولهما ما يتعلق بزيادة معدلات التضخم إلى مستويات قياسية إلى الدرجة التي جعلت المبادرات الحكومية لتخفيض أسعار السلع الرئيسية دون أثر واضح على الأرض مع تراجع قيمة الجنيه أمام سعر الدولار مرة أخرى.
هذا يعني أن القوة الشرائية سوف تأخذ في التآكل بعد أن كانت الحكومة المصرية تستهدف زيادة معدلات النمو وقدمت تخفيضات وصلت إلى 30% على كثير من السلع بدءاً من الأسبوع الماضي.
ويتمثل الخطر الثاني في تراجع عوائد السياحة ليس فقط الإسرائيلية التي تقدر سنوياً بما يقرب من 700 ألف سائح لكن أيضاً السياحة الغربية في شبه جزيرة سيناء، وهو ما يعرقل خطط الوصول إلى جذب 30 مليون سائح في العام 2028، على اعتبار أن ذلك يعد أسرع وسيلة لجذب العملة الصعبة، وفقاً للمتحدث ذاته.
وقال البنك المركزي المصري في بيان، الأسبوع الماضي، إن إيرادات قطاع السياحة خلال السنة المالية 2022-2023، ارتفعت إلى 13.6 مليار دولار خلال العام المالي الماضي مقارنة بنحو 10.7 مليار دولار في العام المالي السابق عليه.
وأوضح أن زيادة الإيرادات السياحية ترجع إلى ارتفاع كل من عدد الليالي السياحية بمعدل 27.6% ليسجل نحو 146.1 مليون ليلة وعدد السائحين الوافدين إلى مصر بمعدل 35.6% ليسجل نحو 13.9 مليون سائح.
واستقبلت مصر في النصف الأول من العام الجاري قرابة 7 ملايين سائح، وهو ما يعد الأعلى في تاريخ البلاد خلال هذه الفترة، طبقاً لوزير السياحة أحمد عيسى، والذي توقع أن يكون عدد الزوار في النصف الثاني من العام، أكبر من النصف المنتهي 31 يونيو/حزيران، وهي التصريحات التي أدلى بها قبل اندلاع الحرب الدائرة الآن.
الغاز المسال
ويشير خبير في أسواق الطاقة لـ"عربي بوست" إلى أن الخسارة الواردة من قطاع الطاقة لا يمكن تجاهلها أيضاً وستكون لديها تأثير سلبي مباشر على الاقتصاد المصري، وذلك بعد أن عد ذلك أحد أبرز أوجه مصادر العملة الأجنبية وكان سبباً في أن يتم توجيه كميات أكبر للتصدير في مقابل اتخاذ إجراءات ترشيدية في الاستهلاك المحلي وترتب على ذلك تخفيف أحمال الكهرباء المستمرة حتى الآن.
ويلفت إلى أن القاهرة التي كان يُنظر إليها كأحد أهم المساهمين في إمدادات الطاقة إلى أوروبا في فصل الشتاء نتيجة لقيامها بعمليات إسالة الغاز الوارد من إسرائيل والأردن ستكون معرضة لأن تتوقف تماماً عن تصديره إلى أوروبا في حال طول أمد الحرب الدائرة الآن والتي سوف يترتب عليها آثار سلبية واسعة النطاق في الحقول الإسرائيلية.
وكانت مصر وقعت اتفاقاً مع إسرائيل منتصف يونيو/حزيران من السنة الماضية، لاستيراد الغاز الطبيعي من إسرائيل، وإعادة تصديره مسالاً إلى أوروبا، لمدة 3 سنوات، ويجدد الاتفاق تلقائياً لمدة سنتين إضافيتين.
وبحسب بيانات مبادرة البيانات المشتركة (جودي) تشير إلى أن مصر استوردت عبر الأنابيب (من إسرائيل) نحو 6 مليارات متر مكعب منذ مطلع السنة وحتى أغسطس/آب الماضي، في حين أعادت تصدير نحو 3.8 مليارات متر مكعب من الغاز المسال بداية من يناير/كانون الأول إلى أبريل/نيسان الماضيين قبل موجة حر شديدة ضربت مصر والعالم وأحدثت أزمة في إمدادات الغاز لمحطات الكهرباء.
وارتفعت حصيلة مصر من صادرات الغاز بنسبة 140% في 2022 محققة ما قيمته 8.4 مليارات دولار، مقارنة مع 3.5 مليارات دولار مسجلة في 2021، مدفوعة بزيادة أسعار تصدير الغاز المسال عالمياً، وفق ما ذكر جهاز التعبئة العامة والإحصاء.