مع استمرار التحضيرات الإسرائيلية لتنفيذ العملية البرية في غزة المزمع تنفيذها في أي لحظة، تداولت الأوساط العسكرية في نقاشاتها اتساع الفجوة بين المستويين السياسي والعسكري حول طبيعتها، سواء عمقها الجغرافي في قلب غزة، أو مداها الزمني، أو حجم القوات المشاركة فيها، فضلاً عن التبعات السياسية المترتبة عليها.
وليست المرة الأولى التي تظهر فيها هذه التباينات بين الساسة والعسكر حول العمليات الحربية، فقد تكرر المشهد في العدوانات السابقة بين 2008-2021، لكنها هذه المرة أكثر خطورة، لأننا أمام عدوان مختلف، بأهدافه ومنطلقاته ونتائجه المتوقعة.
خاصة في ضوء مخاوف المستوى السياسي من عدم نجاح ما يخطط له الجيش من مخططات ميدانية، ومدى قدرته على تنفيذها، وتشكيكه في قدرة الجنرالات على خوض عملية برية واسعة، قادرة على "تسليم البضاعة"، وفي هذه الحالة، فإن أي فشل مرتقب للسيناريو البرّي كفيل بأن يفجّر الوضع بين الإسرائيليين جميعاً.
ما سبب تردد السياسيين في إسرائيل من العملية البرية؟
هذه الشكوك التي يبثها الساسة الإسرائيليون ضد العسكر بشأن تردّدهم إزاء الذهاب نحو عملية برية تعيد للأذهان ما حصل خلال العدوان على غزة 2021، حين نفذ الطيران عملية تدمير ما سماه "مترو حماس"، وهي العملية الفاشلة التي استهدفت قتل ثلاثمئة من المقاومين خلال تدمير شبكة الأنفاق شرق قطاع غزة، لكن إخفاق الجيش في العملية التي تم التحضير لها سنوات عديدة شكّل صفعة على وجوه جميع المشاركين فيها.
اليوم تظهر جملة من مبررات الساسة الإسرائيليين لهذه التخوفات من ضعف أداء العسكر، أو تردّدهم، منطلقين من قاعدة مفادها "ما لم تستعدّ له، فلن ينجح"، وهو ما يسمى "قرار ساحة المعركة"، الذي يستدعي إعداداً مسبقاً لبنك الأهداف المقرر مهاجمته في غزة، بما يشمله من مواقع هجومية جوية وبحرية عالية القدرة، لكن تشغيل العملية البرية يطرح نفسه مرة أخرى عن مدى فاعليتها، وجدوى إنفاق الجيش لميزانياته في قدرات عملياتية لن تتحقق فعلياً على الأرض.
في الوقت ذاته، فقد دأب عدد من كبار الجنرالات في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وعلى رأسهم رئيس الأركان هآرتسي هاليفي ورفاقه على ترديد مزاعم بأن الجيش بنى قوة كبيرة يفترض أن تهبط في عمق أراضي قطاع غزة، تقاتل حماس فيها، من خلال خطط عملياتية تم التدرب عليها خلال السنوات الماضية، رغم بقاء خشيته الدائمة من سقوط أعداد كبيرة من الخسائر البشرية في صفوف جنوده، وتأثير هذا العدد في الجمهور الإسرائيلي في الجبهة الداخلية بعد الخسائر الكبيرة التي تلقاها في عملية طوفان الأقصى.
العملية البرية في غزة.. سيناريوهات معقدة
وبالنظر إلى السيناريوهات المعقدة للعملية البرية المرتقبة في غزة هذه المرة، تخشى الأوساط السياسية أن يكون جيش الاحتلال غير قادر على ترجمة مناوراته على الأرض في ضوء ما تتحضر له المقاومة، مما يعطي مشروعية للمستوى السياسي للتخوف من إمكانية تفوق حماس على الجيش الذي لن ينجح في إيقاف أو تقليل إطلاق الصواريخ على الجبهة الداخلية.
فضلاً عن عدم منح العملية البرية الحيّز المطلوب لها مع إمكانية تزايد الضغوط الدولية على الاحتلال، في ضوء مشاهد الدمار والمجازر المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين، وكل ذلك من شأنه زيادة الفجوة القائمة بين المستويين السياسي والعسكري.
صحيح أن تشكيل حكومة الطوارئ ربما أزال كثيراً من التباينات بين المستويين السياسي والعسكري في ضوء انضمام عدد من الجنرالات السابقين لما يسمى "مجلس الحرب"، لا سيما بيني غانتس وغادي آيزنكوت، فضلاً عن وزير الأمن الحالي يوآف غالانت، لكن ما حصل جاء بعكس تطلعات نتنياهو، لأن استطلاعات الرأي منحت حزب المعسكر الوطني برئاسة غانتس تفوقاً غير مسبوق بحصوله على 41 مقعداً، فيما لو حصلت انتخابات حالية، فيما حصل حزب الليكود برئاسة نتنياهو على 19 مقعداً!
وفيما منحت الأزمة السياسية والحزبية الإسرائيلية منذ تشكيل حكومة اليمين الحالية حضوراً مميزاً للجيش وجنرالاته، وبقدرتهم على التأثير بالقرارات التي يعتبرونها تدخلاً في نطاق الأمن القومي، وعلى رأسها الحرب الجارية على غزة، فإنه زاد من التداخل في علاقة المستويين السياسي والعسكري، مما يجعل من توجهات الحكومة المصغرة المكلفة بإدارة الحرب غير مستقرة، وعرضة للتغيير المفاجئ، مع البدايات الأولى للعملية البرية المزمع تنفيذها في أي لحظة.
مع العلم أن إعلان رئيس الحكومة لحالة الطوارئ في إسرائيل يمنح المستوى العسكري، ممثلاً بالجيش وأجهزة الأمن، مزيداً من النفوذ في رسم السياسة التي يراها مناسبة لغزّة، لا سيما فيما يتعلق بقرار ومدى وعمق العملية البرية، بزعم أن "الدولة تواجه تهديداً وجودياً" بعد هجوم حماس الأخير في مستوطنات غلاف غزة، مما يعني ارتفاعاً لـ"منسوب" العسكر في قرار العملية البرية، وبالتالي لا عجب أن تهيمن وجهة النظر الأمنية على السجال السياسي الحاصل، بزعم أن الجيش أخذ على نفسه تقدير الانتصار في المواجهة، مما قد يظهر ضعف المستوى السياسي.
الإخفاق العملياتي
لا تنكر المحافل السياسية الإسرائيلية أن سعي نتنياهو من تشكيل حكومة الطوارئ يعود لرغبته بأن تكون بديلاً عن الائتلاف الحكومي اليميني الموسّع، لأنه في حالة تفكك، ووزراؤه يثرثرون دون توقف، ويوزعون الخطط والنصائح في كل الاتجاهات، بما قد يقوّض الشرعية الدولية التي حصلت عليها إسرائيل، والمسّ بالرصيد الذي حققته على مدى سنوات طويلة الذي لم يحقق شيئاً، كل ذلك من شأنه أن يعيق تنفيذ العملية البرية التي تحتاج مجلساً وزارياً مصغرا مقلّصاً، وذا خبرة عسكرية طويلة.
ولقد شهدت الساعات الأخيرة فيما وراء الكواليس تبادلاً للاتهامات بين المستويين السياسي والعسكري في تحمل المسؤولية عمّا لحق بإسرائيل من "إخفاق متعدد المجالات" من خلال عملية طوفان الأقصى، ورغم أن هذا الإخفاق يأتي في صلب مهامّ المستوى العسكري والاستخباري التنفيذي العملياتي، لكن اتهامات أخرى طالت المستوى السياسي؛ لأنه صمت عن تنامي قوة حماس في غزة، وفي المحصلة جاءت النتيجة الميدانية سيئة لإسرائيل، بفعل الإرباك الذي حصل في طبيعة اتخاذ القرار بين مختلف مكوناته ومؤسساته السياسية والعسكرية، مما سيتطلب تشكيل لجان تحقيق واستماع واستجواب فور أن تضع الحرب أوزارها.
وفيما شهدت العلاقات السياسية والعسكرية توترات متصاعدة ما قبل اندلاع الحرب، لأن الجنرالات رأوا في التشكيلة الوزارية لحكومة نتنياهو اليمينية افتقاراً للخبرة العسكرية، لا سيما سموتريتش وبن غفير، فقد ساد ترحيب بين أوساط قيادة الجيش عقب انضمام غانتس وآيزنكوت لحكومة الطوارئ، لأنهما من أبناء المؤسسة العسكرية، ويحوزان "كاريزما" لا تخطئها العين لأنهما يحملان على أكتافهما رتباً عسكرية ثقيلة العيار، ويستطيعان بهدوء تجاوز الجنرالات عند اتخاذ قرارات مفصلية مهمة فيما يتعلق بالعملية البرية المحتملة على غزة.
اليوم وبعد اتخاذ قرار بشنّ عملية برية، وانتظار الإعلان عن تنفيذها، تتباين المواقف السياسية والعسكرية حول أهدافها الحقيقية، بين الإطاحة بحماس، أو القضاء عليها، أو قضم قدراتها العسكرية والحكومية، مما خلق شكوكاً حول جدواها، ودفع بعض الساسة والقادة الحزبيين للقول إن مهاجمة قادة الحركة من الجوّ لن يدفعها لرفع الراية البيضاء، أو إعلان الاستسلام، مما حدا بزعيم حزب "يسرائيل بيتنا" المعارض أفيغدور ليبرمان للاشتراط على نتنياهو أن دخوله لحكومة الطوارئ مرهون بتنفيذ العملية البرية في قلب غزة للإطاحة بحماس.
الخسارة المحقّقة
في المقابل، ورغم الخسارة الإسرائيلية العسكرية والأمنية من هجوم حماس المفاجئ والنوعي على مختلف الأصعدة، فإن المستوى السياسي يزعم أنه حقق إنجازاً دبلوماسياً لم يحلم به، يتمثل بإقامة تحالف دولي يعتبر أن الحرب الإسرائيلية على حماس هي حرب الغرب على الحركة، وما تخلل ذلك من تنسيق أمني واستخباري وسياسي بين الاحتلال والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
أسباب كثيرة قد تعيق تنفيذ العملية البرية في غزة من بينها أن المستويين السياسي والعسكري يعتقدان أنه بعد انتهاء العدوان لن يكون هناك مفرّ من تشكيل لجنة تحقيق بشأن عملهما، وعدم قدرتهما على كشف مخطط حماس، وفشل الجيش والحكومة في تقديره، ولهذا بدأت القيادة العسكرية تصدر تقييمات لبعض أوساطها الإعلامية مفادها أن الحكومة لم تكترث بتحذيراتها من حماس، بل أعطت وزناً زائداً لتهديدات أخرى في المنطقة.
وقبيل الشروع في العملية البرية في أي لحظة، فقد وجّه سياسيون انتقادات لاذعة لأداء الجيش، وتخوفاً من عجزه عن حسم المعركة، وإعادة الهدوء للجنوب، وبلغ التوتر الشديد بين المستويين السياسي والعسكري ذروته في تقدير مسرّب لأحد كبار الضباط بقوله إن "الجيش يحتاج أسابيع لاحتلال غزة، وإسقاط سلطة حماس، إذا حصلنا على ضوء أخضر من الحكومة"، مما أثار غضباً شديداً في أوساطها، ووصف حديثه بـ"المضلل"، لأن تقدير الموقف الذي عرضه قادة الجيش عليها مختلف عما ذكره، فيما تحدث قادة آخرون أن العملية البرية في قلب غزة تشبه حملة السور الواقي في الضفة الغربية عام 2002، وبالتالي فإنها ستتطلب شهوراً طويلة.
في الوقت ذاته، فقد دأب المسؤولون السياسيون الإسرائيليون على طرح سؤالهم المحرج للمستوى العسكري: طالما أن الجيش فشل بالتصدي لمقاتلي حماس على حدود غزة، فكيف سيتعامل معهم في قلبها من خلال العملية البرية الوشيكة، وظهر الحزبيون في اليمين واليسار يمثلون دولة ضعيفة مضطرة للقتال في منطقة صعبة، وصدرت انتقادات موجهة لنتنياهو وسياسته التي أثبتت خطأها تجاه حماس وغزة.
وقبيل الانطلاق في العملية البرية، فقد وصلت الانتقادات السياسية والحزبية إلى الجيش حدّ الحديث عن "مواضع خلل مقلقة فيه"، من حيث عدم التحضير الجيد للمعركة في غزة، والتخوف من إخفاق الاستخبارات باكتشاف منظومة القيادة والتحكم لدى حماس، وعدم العثور على مكان اختفاء قادتها بعد تسعة أيام من القصف الجوي المركّز.
سلوك نتنياهو المحرج
ولم تتردد عدد من النخب الإسرائيلية في الاعتراف بالقول إنهم يطلعون على آخر التطورات بشأن حرب غزة من بيانات حماس، وليس من نتنياهو، لأنّه لم يتحدث معهم، ولم يعرفوا ماذا يحصل، واصفين تصرفه بـ"المحرج"، ويشير للبلبلة، وليس الإدارة والتحكم، متهمين المستوى السياسي بعدم وضعهم في صورة الموقف.
ويأخذ العسكر على نتنياهو أنه يفكر، قبل اتخاذ أي قرار، بصورته، ووضعه في اليوم التالي لوقف الحرب، وما الذي يعرّض أكثر مكانته للخطر: مواصلة الحرب أو وقفها، فإذا واصلها فسيواجه ارتفاع عدد القتلى من الجنود، ويذكر جيداً ماذا حصل لرئيس الحكومة الأسبق مناحيم بيغين في حينه، واضطر للاستقالة عقب ارتفاع عدد القتلى الجنود في حرب لبنان عام 1982، وإذا أوقفها فسيضطر لمواجهة خيبة الأمل، والانتقادات من الداخل، وكما يقول بعض وزرائه، فإن حياته لن تكون سهلة.
وقد طالب الجنرالات مبكراً من المستوى السياسي، وقبل اجتياح غزة، أن يحافظ على استمرار التأييد الأمريكي، ومواصلة الحصول على الشرعية دولية، لأن وقف الحرب قبل تحقيق أهدافها سيُحدث هزة أرضية سياسية.
صحيح أن التنسيق بين القيادتين السياسية والعسكرية هذه المرة يبدو معقولاً، حتى الآن، دون حدوث معارك بالسكاكين، وانهيارات في الأداء، وعزل للضباط، لكن هذا الوضع ليس مرشحاً للبقاء هكذا حتى إشعار آخر، فما زالت تُسمع دعوات للتحقيق، ومكتب مراقب الدولة يستعد لتشكيل لجان الفحص والتقييم، فيما يتوقع أن تعلن لجنة الخارجية والأمن في الكنيست تحقيقاً من طرفها.
رغم كل هذه الثغرات المحيطة بعلاقة المؤسستين السياسية والعسكرية، فإن قادتهما حاولا التباهي في أيام الحرب الأولى بحديثهم المتكرر عما وصفوه بتحقيق إنجازات هائلة بتوجيه الضربة القاضية لحماس، وتوفر مؤشرات انكسارها.
لكن هذه الإعلانات الدعائية لم تصمد كثيراً أمام مواصلة حماس ومقاتليها التحكم بقواتهم، وإطلاق الصواريخ على المدن الإسرائيلية، والهجوم على قوات الجيش حتى اليوم التاسع من المعارك، وسط توقعات أن يؤدي العدوان البرّي على غزة لإسقاط الائتلاف الحاكم، والإعلان عن انتخابات مبكرة في ظل ما توصف بحالة "التعادل الاستراتيجي" مع حماس التي صمدت أمام الجيش، وكبّدته خسائر فادحة، فضلاً عن قدرتها على دحره، وعدم تمكنه من اقتحام غزة، والبقاء على مشارفها النائية.