كان مهندس المتفجرات إيال يبلغ من العمر 26 عاماً عندما دخل إلى قطاع غزة أول مرة، بعد أن أرسله رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو للمساعدة في تفكيك شبكة الأنفاق الواسعة، التي حفرتها حركة المقاومة الإسلامية "حماس" لإخفاء مقاتليها والتسلل إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة.
بعد مضي تسع سنوات، تقول صحيفة Financial Times البريطانية في تقرير لها الخميس 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إن إيال يستعد اليوم لأن يرسله نتنياهو مرةً أخرى لمواجهة المقاومة الفلسطينية بعد عملية "طوفان الأقصى" التي أطلقتها المقاومة رداً على الاعتداءات المتواصلة للاحتلال على الأقصى والفلسطينيين في القطاع والضفة الغربية المحتلة. لكن إيال يعرف جيداً ما ينتظره هو ورفاقه هذه المرة.
"الأمر أشبه بكابوس"
إذ وصف إيال دخوله إلى قطاع غزة قائلاً: "الأمر أشبه بكابوس، لكنه كابوس واقعي. كل شيء تلمسه قد يكون قنبلة، وكل شخص تراه قد يكون مقاتلاً. يجب أن تتحرك ببطء وبشكلٍ مدروس. وأحياناً يتحركون بأسرع مما يمكنك الاستجابة له. ولن تظل على قيد الحياة إلا بفضل تدريبك".
إن الهدف من هجوم الاحتلال الإسرائيلي المنتظر على القطاع المكتظ بالسكان هو "اقتلاع جذور حماس"، تقول الصحيفة البريطانية. لكن ما ينتظر قوات الاحتلال هناك هو "أسوأ ما يمكن تخيُّله"، بحسب إيهود أولمرت، رئيس الوزراء الأسبق الذي أرسل قواته البرية إلى غزة عام 2008.
أردف أولمرت: "لن يكون الأمر بسيطاً ولن يكون ممتعاً، سواءً بالنسبة لنا أو لهم". وبالنظر إلى الإخفاقات الاستخباراتية الواضحة التي سبقت هجوم يوم السبت 7 من أكتوبر/تشرين الأول؛ فإن قوات الاحتلال ربما تتجه بدخولها غزة نحو مواجهة مع "أنواع جديدة من القاذفات أو الصواريخ الأقوى، وكذلك أنواع أكبر وأحدث من الصواريخ المضادة للدبابات التي لا نعرفها".
اجتياح غزة "مهمة شديدة التعقيد"
عكس ما حدث في الماضي من إرسال جيش الاحتلال لتحقيق أهداف محدودة، يتعهّد نتنياهو اليوم بتحقيق النصر الكامل على حماس. ولا شك في أنها مهمة شديدة التعقيد والصعوبة، لدرجة أنه من غير الواضح مقدار الوقت الذي ستستغرقه أو عدد الأرواح التي ستحصدها، من الفلسطينيين والإسرائيليين.
لقد جمعت حماس ترسانة صاروخية ضخمة منذ دخول آخر جندي إسرائيلي إلى غزة عام 2014. كما حفرت مئات الكيلومترات من الأنفاق التي تُعرف باسم "مترو غزة" لنقل المقاتلين والأسلحة دون رصدها، وتدرّبت على القتال في المناطق الحضرية.
سادت قناعة داخل جيش الاحتلال الإسرائيلي بأنه على علمٍ كامل بحجم ابتكارات حماس التي لا تتوقف. حيث أنفق الاحتلال مليارات الدولارات على أجهزة الاستشعار لرصد التحركات تحت الأرض، وبنى حاجزاً لمنع وجود أنفاق تصل إلى داخل الأراضي الفلسطينية التي تحتلها إسرائيل.
الاحتلال قريب من اجتياح قطاع غزة
الآن، مع حشد 300 ألف جندي على حدود غزة ودكّ طيران الاحتلال الإسرائيلي لكل شيء في غزة دون أن يفرق بين المدنيين ومقاتلي حماس، يبدو أن الاحتلال صار على مشارف غزو بري لم يسبقه مثيل منذ غزو لبنان عام 1982.
حيث قال المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلي، الرائد نير دينار: "حماس مستعدة جيداً، لكننا نعرف ذلك أيضاً. وقد طوّرنا أدواتنا ونعمل على تطوير أساليبنا. وهذه حرب نفسية مزدوجة. فأنا أعلم أنهم يعلمون، وهي يعلمون أنني أعلم".
لا شك في أن الحرب الجديدة ضد حماس ستشهد مواجهة بين منهجين مختلفين في الحرب، بينما قال نتنياهو إنها ستكون حرباً "مُطوّلة ومؤلمة". ويترك هذا غزة في حالة استعداد لهجوم أكثر تدميراً هذه المرة، حيث فرضت إسرائيل حصارها وقطعت الماء والكهرباء عن القطاع بالفعل.
سيخوض جيش الاحتلال الإسرائيلي حرباً ضد عدو يتطلع إلى استغلال كل مزايا الدفاع الحضري، بدايةً بالأفخاخ المتفجرة ومواقع القناصة وصولاً إلى الثكنات المحصنة، فضلاً عن مجموعة من التكتيكات منخفضة التقنية التي ستحد من جدوى التفوق التكنولوجي لإسرائيل.
لطالما ردعت شبكة الأنفاق الاحتلال عن شن عمليات برية مكثفة داخل غزة وفقاً لشمعون أراد، عقيد قوات الاحتلال المتقاعد.
خطة الاحتلال الإسرائيلي لغزو القطاع
لهذا سيعتمد جيش الاحتلال الإسرائيلي على تطبيق "عقيدة النصر" المزعومة، التي تتطلب من القوات الجوية تدمير مجموعة كبيرة من الأهداف المدروسة مسبقاً وبسرعةٍ كبيرة.
وقد بدأ تطبيق تلك العقيدة بالفعل، حيث تقصف المقاتلات النفاثة مساحات شاسعة من غزة، دون التوقف إلا من أجل التزود بالوقود، وهو ما يحدث في الجو في كثير من الأحيان.
تستهدف هذه الحملة تجاوز قدرة حماس على إعادة ترتيب صفوفها، وذلك "لتحقيق أكبر قدر من الأهداف قبل أن يضغط المجتمع الدولي سياسياً من أجل تهدئة الوتيرة"، بحسب شخص مطلع على المحادثات التي أسفرت عن إنشاء تلك العقيدة عام 2020.
فيما قال جون سبينسر، الرائد الأمريكي السابق الذي يرأس دراسات حرب المدن في معهد الحرب الحديثة بالأكاديمية العسكرية الأمريكية: "ستكون الحرب دمويةً للغاية. لا يمكن تغيير طبيعة حروب المدن. وستقع الكثير من الأضرار الجانبية".
تدريبات خاصة
حسب الصحيفة البريطانية، فلقد طور الاحتلال الإسرائيلي واحدة من أكثر الدورات المتطورة للتدريب على حرب المدن في العالم، وذلك استعداداً لصراعات كهذه.
إذ تجري التدريبات في معسكر "بلدية" الممتد على مساحة 5000 فدان جنوب الأراضي الفلسطينية المحتلة، والذي بُني عام 2005 ليبدو أشبه ببلدات الشرق الأوسط التقليدية. ويحتوي المعسكر على 600 بناية مرتبة حول شوارع ضيقة، كما يضم عدة مساجد وقصبة.
يعتمد أحد التكتيكات العسكرية على اقتحام البنايات من الجدران الجانبية؛ لتفادي الأبواب المفخخة. وبمجرد الدخول، يبدأ الجنود في التقدم بتفجير الجدران الداخلية لتفادي نيران القناصة على السلالم، كما يتفادون الحركة في المساحات المفتوحة بالشوارع.
هناك استراتيجية أخرى تعتمد على استخدام جرافات مدرعة بارتفاع ثلاثة طوابق لإخلاء الطريق أمام الوحدات المقاتلة على الأرض.
إذ قال أنثوني كينغ، أستاذ دراسات الحرب في جامعة إكستر، إن خطوة الاحتلال الإسرائيلي المحتملة الأولى ستتضمن بناء ما وصفه بـ"أسطوانة متعددة الطبقات من القوة الجوية على ارتفاع 18 كيلومتراً فوق سماء المعركة".
كما أوضح كينغ: "ستحلّق المسيّرات الصغيرة والمروحيات الهجومية على أقرب مستوى من الأرض، ومن فوقها مسيّرات المراقبة والمسيّرات الانتحارية، ثم تأتي المقاتلات النفاثة فوق تلك المسيّرات، بينما تحلّق على قمة ذلك كله طائرات الاستطلاع الاستراتيجية. علاوةً على أن جميع تلك الطائرات ستكون متصلةً ببعضها البعض".
أضاف قائلاً: "ستشهد الخطوة التالية تحرك المدرعات عبر الشوارع، وقذائف المدفعية التي ستفتح الطريق. سيكون الهجوم مدمراً للغاية".
قبل أن تصل قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى معاقل حماس الحضرية، سيتعين عليها اختراق سلسلة من الخطوط الدفاعية التي ستشمل الألغام ومواقع الكمائن وأهداف قذائف هاون، بحسب مراجعةٍ نشرها المستشار الأمني الإسرائيلي السابق ناداف موراج مؤخراً.
حيث ستكون قذائف هاون الثقيلة، والرشاشات الآلية، والأسلحة المضادة للدبابات، والقناصة، وربما عدد من الاستشهاديين في انتظار قوات الاحتلال على مشارف غزة. كما أن اختراق الأنفاق سيحتاج إلى اشتباكات قريبة مكثفة واستخدام "القنابل الإسفنجية"، وهي عبارة عن مركب كيميائي يُغلق المداخل الصغيرة.
فيما أوضح موراج: "لن تدمر تلك القنابل الأنفاق، لكنها ستسمح للقوات بالتقدم دون الاضطرار إلى القضاء على قوات العدو في كل نفق".
مهمة مستحيلة
بينما ستكون مهمة تفكيك حماس، وإنقاذ الأسرى الإسرائيليين، وتقليص الخسائر في صفوف المدنيين مهمةً شديدة التعقيد بالنسبة لقوات الاحتلال الإسرائيلي، بل يقول البعض إنها مستحيلة.
لهذا حذر أولمرت من أن نتنياهو وجيش الاحتلال يواجهون معضلةً أخلاقية. حيث إن استخدام القوة الجوية لمهاجمة حماس يزيد خطر وقوع ضحايا في صفوف المدنيين، بينما سيكون استخدام القوات البرية أكثر دقة، لكنه يزيد الخطر على قوات الاحتلال.
كما أردف أولمرت: "تتلخص المعضلة في أمر واحد: هل نحن مستعدون لاتخاذ خطوة تشكل خطراً أكبر على الجنود الإسرائيليين، أم هل سنختار الاستراتيجية التي ستسبب مقتل عدد أكبر من الأشخاص غير المتورطين بشكلٍ مأساوي؟ إن معرفتي بوضع الرأي العام الإسرائيلي الآن تُشير إلى أنه سيضغط من أجل تقليل المخاطر".