تراجع البيت الأبيض في وقت متأخر من الأربعاء، عن التصريحات الصادرة عن الرئيس جو بايدن، بشأن رؤيته صور أطفال إسرائيليين "قُطعت رؤوسهم على يد حماس".
ونقلت شبكة "سي إن إن" الإخبارية عن مسؤول في الإدارة الأمريكية، قوله إن هذه التصريحات كانت مبنية على "مزاعم" مسؤولين إسرائيليين وتقارير إعلامية محلية.
وأوضح المسؤول أن بايدن والمسؤولين الأمريكيين "لم يروا هذه الصور، ولم يتحققوا بشكل مستقل من أن حماس تقف خلف هذه المزاعم".
وجاء توضيح البيت الأبيض بعد ساعات قليلة من الكلمة التي ألقاها الرئيس الأمريكي خلال اجتماع لقادة الطائفة اليهودية، وقال فيها إن على الأمريكيين رؤية ما يحدث، وإنه "لم يتخيل رؤية إرهابيين يقطعون رؤوس أطفال".
وأضاف: "كان هذا الهجوم حملة من القسوة الخالصة، وليس فقط الكراهية، بل القسوة الخالصة، ضد الشعب اليهودي".
فمن هو هذا المستوطن المتطرف الذي أطلق هذه الإشاعة وأوصلها إلى أبرز وسائل الإعلام الأمريكية، إلى درجة جعلت بايدن يُمحور خطابه حولها؟
مستوطن متطرف يدعو لإبادة الفلسطينيين
اندلعت موجة من الغضب الدولي عندما أعلنت وزارة الخارجية الإسرائيلية أن المقاومة الفلسطينية من قطاع غزة المحاصَر قتلوا 40 "طفلاً" وقطعوا رؤوس العديد منهم أثناء توغلهم في كيبوتس كفار عزة على حدود غزة. وكرر الرئيس الأمريكي بايدن هذا الادعاء التحريضي خلال خطاب ألقاه في حديقة البيت الأبيض في 10 أكتوبر/تشرين الأول، في حين نقلت وسائل الإعلام الأمريكية والغربية هذه القصة دون أدنى قدر من التدقيق النقدي.
ووفقاً لمراسل شبكة سي إن إن، نيك روبرتسون، نقلاً عن مصادر عسكرية إسرائيلية على ما يبدو، نفذت المقاومة الفلسطينية "عمليات إعدام على غرار داعش"، حيث كانوا "يقطعون رؤوس الناس"، بمن في ذلك الأطفال والحيوانات الأليفة.
ووفقاً لموقع "غراي زون"، فإن المصدر الرئيسي لهذا الادعاء الزائف هو ديفيد بن صهيون، نائب قائد الوحدة 71 في الجيش الإسرائيلي، والذي يشغل أيضاً منصب زعيم مستوطنين متطرف حرّض على أعمال شغب عنيفة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتلة في وقتٍ سابق من هذا العام.
وفي مقابلة أُجريت معه في 10 تشرين الأول/أكتوبر مع المراسلة نيكول زيديك من شبكة i24، التي ترعاها الحكومة الإسرائيلية، قال بن صهيون: "لقد مشينا من بابٍ إلى باب، وقتلنا الكثير من الإرهابيين. إنهم سيئون للغاية. لقد قطعوا رؤوس الأطفال، وقطعوا رؤوس النساء. لكننا أقوى منهم". وأضاف: "نحن نعلم أنهم حيوانات -في إشارة إلى الفلسطينيين- لكننا وجدنا أن لا قلوب لهم".
وبعد ساعات من مقابلته مع i24 نشر بن صهيون فيديو له على صفحته على فيسبوك وهو يرتدي الزي العسكري الرسمي، وكان لا يزال في قرية كفار عزة.
في وقت سابق من ذلك اليوم، أعلنت مراسلة i24 زيديك خلال تقرير مباشر من كفار عزة أنه "أُخرج حوالي رضيع على نقالات.. كانت أسرّة الرضع مقلوبة، وتركت عربات الأطفال في الخلف، والأبواب مفتوحة على مصاريعها". شُوهِد تقرير زيديك عشرات الملايين من المرات على تويتر وروّجت لها وزارة الخارجية الإسرائيلية التي تدعم الشبكة الإخبارية.
عدّلت المراسلة أقوالها بعد عدة ساعات، لتصرّح: "أخبرني الجنود أنهم يعتقدون أن 40 طفلاً قتلوا. لا يزال عدد القتلى الدقيق غير معروف، حيث يواصل الجيش التنقل من منزل إلى منزل والعثور على المزيد من الضحايا الإسرائيليين".
ومع ذلك، فإن الحكاية التي لم يُتحقق منها سرعان ما شقت طريقها إلى أعلى مستويات القيادة. صرح المتحدث باسم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على نحوٍ قاطع أنه عُثِر على أطفال رضّع وصغار "مقطوعي الرأس"، في حين أشار الرئيس الأمريكي جو بايدن إلى "التقارير المثيرة للقلق عن مقتل أطفال رضع".
وبعدها، دخلت الكثير من القنوات الأمريكية على الخط، لتنقل القصة بلا هوادة، على الرغم من تراجع الجيش الإسرائيلي عن تأكيده الأولي.
من هو ديفيد بن صهيون؟
ديفيد بن صهيون، هو زعيم المجلس الإقليمي شمرون الذي يضم 35 مستوطنة غير قانونية في الضفة الغربية، وفقاً لما أورده موقع "غراي زون"، وقد دعا هذا العام إلى "محو" قرية حوارة الفلسطينية. وبحسب سيرته الذاتية على تويتر، هو أيضاً عضو مجلس إدارة الصندوق الوطني لإسرائيل، وهي وكالة شبه حكومية تعمل على حيازة الأراضي في فلسطين.
وقال بن صهيون في تغريدة على منصة إكس في 26 فبراير/شباط 2023: "كفى كلاماً عن بناء وتعزيز المستوطنات. يجب أن يعود الردع المفقود الآن، لا مكان للرحمة".
ونقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية عن ديفيد بن صهيون قوله بعد فترة وجيزة: "يجب محو قرية حوارة، هذا المكان هو وكر للإرهاب، ويجب أن يتناول العقاب الجميع"، وهي دعوة واضحة لإجراء العقاب الجماعي على جميع الفلسطينيين.
وقد حظيت تغريدة بن دافيد بالإعجاب على تويتر من قبل وزير المالية الإسرائيلي آنذاك بتسلئيل سموتريش، وهي خطوة دفعت 22 باحثاً قانونياً إلى دعوة النائب العام لفتح تحقيق مع المسؤول بتهمة "التحريض على جرائم حرب". وعندما ردد سموتريش في وقت لاحق صدى ديفيد، ودعا إلى "القضاء على" حوارة في الشهر التالي، أدانت وزارة الخارجية الأمريكية خطابه ووصفته بأنه "خطير".
وكانت حوارة في ذلك الوقت هدفاً لأعمال شغب عنيفة قام بها المستوطنون الذين يعملون تحت إشراف ديفيد بن صهيون. وفي أعقاب هجوم المستوطنين على البلدة، والذي أدى إلى إحراق عشرات المنازل والمركبات، فضلاً عن إصابة السكان المحليين، وصفت حماس الهجوم بأنه "إعلان حرب".
لم تكن دعوة ديفيد بن صهيون إلى العقاب الجماعي في حوارة هي الوحيدة من نوعها، فقد دعا مراراً وتكراراً للإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين. كما أنه استخدم حساباته على وسائل التواصل الاجتماعي للدعوة على نحو متكرر إلى ارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، فضلاً عن دعواته لـ"ترحيل الجماهير" الفلسطينية.
كتب ديفيد في عام 2016: "الشعب الفلسطيني عدو، لا يمكننا تغيير حمضه النووي الهمجي".
وخلال حملته الفاشلة لدخول الكنيست الإسرائيلي عام 2021 مع حزب البيت اليهودي المؤيد للاستيطان، وصف ديفيد مهمته على النحو التالي: "أنا ملتزم بمهمة استعادة البيت السياسي للصهيونية الدينية".
عضو قيادي في حركة الهيكل المروعة
يبدو أن ديفيد كان في طليعة التطرف الاستيطاني لسنوات، وقد صُوّر في عام 2015 وهو يحمل ميكرفوناً للمُنظِّر الاستيطاني المتعصب نوعام ليفنات، الذي يصف نفسه بأنه "مسيحاني يميني متطرف".
وبحسب كتاب "القتل باسم الله: مؤامرة قتل إسحق رابين"، فإن قاتل رابين، يغال عمير، "معجب بشكل خاص" بلفنات. وفي عام 2005، قادت ليفنات تمرداً شارك فيه 10 آلاف من جنود الجيش الإسرائيلي وجنود الاحتياط الذين تعهدوا برفض أمر رئيس الوزراء آنذاك أرييل شارون بإزالة المستوطنات غير القانونية من غزة.
يبدو أن ديفيد بن صهيون يشارك ليفنات اهتمامته المسيحانية. وفي عام 2018، اصطحب ابن أخيه إلى قاعدة المسجد الأقصى، ثالث أقدس موقع في الإسلام، والذي سعى المتطرفون اليهود إلى استبداله بهيكل ثالث. وقال: "لماذا لا يزال المسلمون يمشون فخورين على هذا الجبل؟" وكتب مضيفاً "هناك الكثير من العمل أمامنا".
وفي منشور آخر كتبه من الموقع المقدس، كتب ديفيد بن صهيون أن "جبل الهيكل ليس ماضي الشعب اليهودي فحسب، بل المستقبل أيضاً". ثم حث أتباعه على التبرع لمنظمة Beyadenu، وهي منظمة يحاول أعضاؤها ذبح الحملان للتضحية هناك.
ويبدو أن ديفيد بن صهيون يشارك أيضاً هوس نوعام ليفنات بتدمير غزة. بعد أيام من إطلاق إسرائيل عملية الجرف الصامد، وهي القصف الذي استمر 50 يوماً على غزة، والذي خلّف ما يقرب من 1500 قتيل من المدنيين الفلسطينيين، نشر بن ديفيد صورة على فيسبوك لنفسه وزملائه من جنود جيش الدفاع الإسرائيلي وهم يقفون أمام المدفعية، وعلّق أحد مستخدمي فيسبوك عنده: "أمة إسرائيل معك حتى نهاية (غزة) آمين"، التعليق الذي تفاعل معه بن صهيون بالإعجاب.
الخبر المفبرَك ينتشر في العديد من الوسائل الإعلامية
رغم أن الجيش الإسرائيلي أصدر بياناً بعدم تأكده من واقعة قتل الأطفال من قبل حماس، وبالرغم من تراجع البيت الأبيض عن تصريحات بايدن إلا أن القصة قد انتشرت في عشرات وسائل الإعلام الأوروبية والأمريكية.
إذا تبيّن أن المقاومة الفلسطينية لم تقطع رؤوس الأطفال الرضع، من المهم أن يعرف العالم أن أحد أفراد الجيش الإسرائيلي كذب على الصحفيين بشأن هذه الجريمة البشعة، وفي الأثناء، ساعد في خلق قصةٍ عالمية لا أساس لها من الصحة ولا مصدر وراءها إلا ادّعاء شخصٍ واحد يجب أن يوضع تاريخ مصداقيته تحت مجهر الشك العميق.
وبغض النظر عن موعد ظهور الحقيقة، فإن الضرر قد حدث. وكما هو الحال في العديد من الصراعات السابقة، في أوجِ اندفاع الحرب، يمكن أن تساعد التقارير الخاطئة والمعلومات المفبركة المتعمدة في الترويج والدفع نحو العواقب المميتة.