قالت صحيفة New York Times الأمريكية في تقرير نشرته السبت 26 أغسطس/آب 2023 إن عدداً من الأحياء التاريخية القديمة، بجانب المقابر القديمة، تم تدميرها بالكامل، في العاصمة المصرية، بالإضافة إلى أن حدائق القاهرة وأشجارها اختفت بشكل كامل، وسُلِّمَت أماكنها لمُطوِّرين عقاريين لتشييد مبانٍ خرسانية شاهقة، بينما تُدفَع العائلات التي عاشت هناك لأجيال إلى أطراف العاصمة المصرية مترامية الأطراف.
الصحيفة قالت كذلك إنه ليس هناك الكثير من المدن التي تتنفس عبق العصور الوسطى مثل القاهرة، وهي مدينة مُحاطة بالصحراء وتغمرها الشمس ويخنقها اكتظاظ المرور ويتكدس بها ما يقرب من 22 مليون شخص. لكن الرئيس عبد الفتاح السيسي يعمل على تحديث هذه المدينة العتيقة بسرعة.
السيسي يحاول تحويل القاهرة إلى مدينة أخرى
يحاول السيسي تحويل القاهرة إلى مدينةٍ أخرى، حيث السيطرة على حركة المرور، والترويج لنهر النيل كمنطقة جذب سياحي، وتنظيف الأحياء الفقيرة وإعادة إسكان سكانها في شقق حديثة. ويعتبر البناء أحد الإنجازات الرئيسية في فترة ولايته.
تتموج الطرق السريعة المرتفعة الجديدة فوق المقابر القديمة، وتُشيَّد دعاماتٌ نحيفة مثل أفعوانياتٍ رمادية عملاقة. يمتد ممشى حديث البناء تصطف على جانبيه مطاعم الوجبات السريعة على طول نهر النيل، ورسوم الدخول ليست في متناول العديد من المصريين، حيث يبلغ معدل التضخم الاستهلاكي حوالي 38% سنوياً.
تُنشَأ الجسور والطرق الرئيسية والجانبية الجديدة بسرعة كبيرة بحيث لا يتمكن سائقو سيارات الأجرة ومتتبعو الخرائط على حد سواء من مواكبة تحديثها. لم تُجدَّد القاهرة فحسب، بل إنها تُستبدَل، فالسيسي يبني عاصمةً جديدة ضخمة، بأبراجٍ عالية وفيلات فاخرة، في الصحراء خارج القاهرة مباشرة.
السيسي يبني عاصمة جديدة
تبلغ التكلفة التقديرية للعاصمة الجديدة وحدها 59 مليار دولار، مع إنفاق مليارات أخرى على مشاريع البناء الأخرى، بما في ذلك الطرق والقطارات عالية السرعة التي تهدف إلى ربط العاصمة الجديدة بالعاصمة القديمة. وقد دُفِعَت معظم هذه المليارات عن طريق الديون، التي شلَّت كتلتها الهائلة قدرة مصر على التعامل مع الأزمة الاقتصادية العميقة الناجمة عن الغزو الروسي لأوكرانيا.
قبل بضعة أسابيع، وصلت جهود التحديث إلى الفسطاط، أقدم منطقة في المدينة، والتي تأسست كعاصمة لمصر قبل قرونٍ من ظهور القاهرة.
طرق أحد مسؤولي المنطقة باب الفنان معتز نصر الدين وطلب منه البدء في إخلاء "درب 1718″، المركز الثقافي الشعبي الذي أسسه في الحي قبل 16 عاماً. وقال نصر الدين، 62 عاماً، إن الحكومة ستقوم بتوسيع الطريق خلفه لتمهيد طريق سريع مرتفع.
سوف تختفي "درب"، إلى جانب بعض ورش الفخار القريبة التي يديرها حرفيون محليون منذ عقود، وبعض المساكن القريبة، من الوجود.
وكما يحدث غالباً هذه الأيام في مصر، حيث تكثر القصص عن ظهور الحفارات والجرافات الحكومية على الممتلكات الخاصة دون أي إشعار تقريباً، كانت المعلومات حول القرار شحيحة. قال نصر الدين وأصحاب ورش الفخار إن المسؤولين المحليين لم يقدموا أمر هدم مكتوباً أو أي أوراق أخرى.
في أغلب الأحيان، يذعن المصريون لذلك ببساطة، ولا حول لهم ولا قوة أمام الدولة. لكن ليس نصر الدين، الذي رفع دعوى لوقف التدمير وأثار ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي. وقالت المحافظة إنها تعيد النظر في الخطط، لكنها لم تذكر متى سيُتَّخذ القرار النهائي أو من سيتخذه.
الجيش المصري يبني الجسور والمشاريع الكبرى
عادةً ما يشرف الجيش المصري القوي على بناء الطرق والجسور والمشاريع الكبرى مثل العاصمة الجديدة. وكان الجيش هو الذي رفع السيسي، الجنرال السابق، إلى السلطة في عام 2013 وسط احتجاجات حاشدة تطالب بإطاحة أول رئيس منتخب ديمقراطياً في البلاد، والذي تولى منصبه بعد انتفاضة الربيع العربي في البلاد عام 2011.
ويقول أهل القاهرة الذين اتصلوا بالمسؤولين الحكوميين للرد على هذا التطوير، إن المسؤولين يميلون إلى تجاهل نصيحة الخبراء وتجاهل مخاوف السكان المحليين. فقط في حالات معزولة تمكَّن دعاة الحفاظ على الآثار التاريخية من إنقاذها فعلياً.
أدى انتشار المشاريع التي تقودها المؤسسة العسكرية إلى ظهور عبارة ساخرة، "ذوق الجنرالات"، مما يعني ضمناً قدراً معيناً من الرتابة المكررة، وهي رتابة ممزوجة أحياناً بالوهج والأضواء.
يتجسد هذا الأسلوب في المتحف الوطني الجديد للحضارة المصرية، الذي لا يبعد كثيراً عن "درب"، حيث توجد المومياوات الملكية الأكثر شهرة في مصر القديمة. وتجوب الجرافات والآليات الثقيلة المنطقة المحيطة منذ سنوات، وتهدم المساكن في الأحياء الفقيرة لإفساح المجال على ما يبدو لبناء جديد.
قطع الأشجار في القاهرة
هناك مطعم جديد على ضفاف البحيرة بجوار المتحف يحمل الاسم الفرنسي "Le Lac du Caire". وبينما يستمتع رواد المطعم بالمساحات الخضراء حول المياه، فقد قُطِّعَت الأشجار في أماكن أخرى.
قد يكون من المبالغة وصف القاهرة بأنها مدينة خصبة. لكن حكام مصر في القرن التاسع عشر زيّنوا عاصمتهم بالحدائق العامة، واستوردوا الأشجار التي تبدو الآن وكأنها جزء لا يتجزأ من المدينة نفسها، مثل أشجار اللهب التي تتوهج بأزهار حمراء زاهية كل ربيع.
اختفت العديد من تلك الحدائق والأشجار في السنوات القليلة الماضية، مما أدى إلى تقليص المساحة العامة الضئيلة التي كان سكان القاهرة يتمتعون بها في السابق -عادةً دون أي مراجعة بيئية، وغالباً في تجاوزٍ لاعتراضات السكان المحليين.
حلَّت محلَّها أكشاك الوجبات السريعة والمقاهي، والطرق الجديدة ومحطات الوقود المملوكة للجيش، على طول ضفاف النيل التي كانت خضراء في السابق والأحياء التي عجَّت بالأشجار مثل الزمالك وهليوبوليس.