أثار التراجع المستمر في قيمة الجنيه مقابل الدولار بالسوق السوداء في مصر جدلاً واسعاً خلال الأيام الماضية، حول مستقبل العملة المحلية وإمكانية تعويم الجنيه في ظل ضغوطات عديدة تتعرض لها الحكومة المصرية من جانب هيئات دولية، مع المراجعة المتوقعة لقرض صندوق النقد الدولي خلال الشهر المقبل، وفي ظل وضع وكالة "موديز" للتصنيف الائتماني مصر قيد المراجعة بما يعد مقدمة لخفض التصنيف مجدداً.
ويتفق عدد من الخبراء، الذين تواصل معهم "عربي بوست"، على أن الحكومة المصرية أمام مأزق حقيقي في الوقت الحالي؛ لأن مراجعة صندوق النقد الدولي تتوقف على زيادة وتيرة تخارج هيئاتها ومؤسساتها من المشروعات الاقتصادية وخفض قيمة العملة، وهو الأمر الذي يرتبط بالتبعية بتصنيف "موديز" الائتماني.
وفي الوقت ذاته، فإن تراجع قيمة الجنيه مع صعوبات عديدة تواجهها الحكومة لتوفير العملة الصعبة سيكون بمثابة انتحار سياسي واقتصادي أيضاً، كما قال مصدر حكومي مطلع لـ "عربي بوست".
خطوة تعويم منتظرة
ويدلل على أن الوضع الراهن ومُضي الحكومة المصرية على قدم وساق في خطط بيع أصولها والتخارج من بعض المشروعات والشركات في محاولة لتوفير سيولة دولارية تساهم في الإقدام على خطوة التعويم المنتظرة، ولكنها حتى الآن غير قادرة على تهيئة الرأي العام لتقبل أي تخفيض جديد.
وما زالت تلميحات الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في مؤتمر الشباب قبل شهرين تقريباً، باستبعاد الإقدام على تلك الخطوة؛ لما من شأنه الإضرار بالأمن القومي، حاضرة في الأذهان.
وقال خبير اقتصادي كبير يعمل في الجهاز المصرفي لـ"عربي بوست" إن التكهن بتخفيض قيمة الجنيه يبقى صعباً، مؤكداً أنه لن يتم اتخاذ القرار سوى في حالة توفير سيولة دولارية تكفي لعدم حدوث فجوة جديدة بين السوقين الرسمية والموازية، وبما يدعم استمرار تسديد باقي دفعات قرض صندوق النقد وتحسين حالة الاقتصاد الكلية، وانعكاس ذلك على التصنيف الائتماني لمصر لمنح الثقة في جذب استثمارات أجنبية.
وأشار المصدر المطلع على كواليس ما يدور في الحكومة إلى أن الحكومة المصرية اتخذت خطوات أكثر سرعة خلال هذا الشهر لتوفير عوائد دولارية، واستطاعت أن توفر ما يقرب من ثلاثة مليارات دولار من برنامج الطروحات، ومثلها من برامج عديدة عمدت من خلالها إلى جذب العملة الصعبة، وتنتظر أن تحصل على قيمة دولارية أعلى من شهادات الإيداع الدولارية مع زيادة معدلات فائدتها السنوية.
وأشار المصدر ذاته إلى أن المستهدف هو توفير العملة الصعبة لسداد الديون والمستحقات الخارجية التي تصل إلى ثمانية مليارات دولار تقريباً مع نهاية هذا العام في حال جرى الإبقاء على الودائع والمنح الخليجية بالبنوك، وهو أمر متوقع حدوثه، إلى جانب تحقيق تأمين دولاري يدعم العملة المحلية في حالة التعويم، وأن الإقدام على تلك الخطوة سيكون خلال الشهر المقبل، في حال عدم التوصل مع صندوق النقد الدولي لإرجاء مراجعته مرة أخرى لمدة ثلاثة أشهر جديدة.
تشوهات الاقتصاد والأزمة الأصعب
وشهد الدولار في السوق السوداء المصرية تحركات ملحوظة خلال الأيام الماضية، وتجاوز حاجز الـ 40 جنيهاً في مقابل الدولار الواحد، لكنه استقر بالسوق الرسمية عند مستوى 30.95 جنيه مقابل الدولار، وذلك بالتزامن أيضاً مع ارتفاع الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري بالعقود الآجلة غير القابلة للتسليم، ليسجل مستوى 41.5 جنيه للدولار الواحد، وفقاً لبيانات وكالة بلومبرغ.
وأشار مصدر مطلع في البنك المركزي إلى صعوبة حصول القاهرة على موافقة بإرجاء جديد لمراجعة صندوق النقد، بعد أن توصلت لاتفاق مع الصندوق في مرتين سابقتين لحين توفر حصيلة مرتفعة من العملة الصعبة، إلا أن ذلك لم يحدث بالشكل الكافي حتى الآن، والتعويل على قدرتها على التخارج بشكل سريع من المشروعات العملاقة التي تنافس القطاع الخاص، وأن ذلك يحقق لها عوائد دولارية سريعة، كما أنه يلبي مطلباً رئيسياً لصندوق النقد للتعامل مع تشوهات الاقتصاد.
من وجهة نظر المتحدث ذاته، فإن مصر تمر بأزمة هي الأصعب منذ عقود طويلة، لأنها تخوض مغامرة قد لا تكون محسومة في حال أقدمت على تخفيض قيمة الجنيه على أسس غير سليمة، كما كان الحال في الثلاث مرات السابقة، وفي تلك الحالة، فإن الاقتصاد الذي يعاني من أزمة طاحنة سيكون قابلاً لمزيد من التراجع، كما أن ذلك سيؤدي إلى تبعات سياسية قد لا تجد الحكومة نفسها قادرة على التحكم فيها.
ولفت المصدر إلى أن الاقتصاد المصري مثقل بالديون، وسيكون على الحكومة ردها بفوائدها بالعملة الصعبة، وفي الوقت ذاته، فإنها لم تستطع أن تقدم بشائر على كونها أحدثت تحولات شاملة في رؤيتها الاقتصادية أو الإنتاجية، ورغم اتخاذها مجموعة من الإجراءات المهمة، لكنها بقيت إجراءات تأخذ الطابع الشكلي ولم ترفع يدها عن مسارات تواجد القطاع الخاص بعد، ويعد ذلك دليلاً على خطورة الوضع الراهن.
يعتبر المتحدث أن الوصول إلى المراجعة لقرض صندوق النقد بعد ما يقرب من عام على التوقيع عليه أمر ضروري، ويشكل متنفساً إيجابياً للاقتصاد في حالة استجابة الحكومة لما جاء في الاتفاق من اشتراطات، وأن مصر بحاجة للشريحة الثانية والثالثة من القرض المتوقعة بعد إتمام المراجعة، والتي تصل قيمتها إلى 700 مليون دولار، كما أنها بحاجة للحصول على التمويل الخاص ببرنامج الصلابة والاستدامة التابع للصندوق أيضاً.
خيارات القاهرة محدودة للغاية
وكانت القاهرة توصلت إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2022 للحصول على تمويل بقيمة 3 مليارات دولار يمتد إلى أربعة أعوام، وتسلمت الشريحة الأولى التي تصل قيمتها إلى نحو 350 مليون دولار على أن تحصل على القيمة نفسها بعد إنهاء المراجعة الأولى التي كانت مقررة في مارس الماضي قبل تأجيلها إلى سبتمبر/أيلول المقبل.
وفي حال استمر برنامج التمويل الحالي، فإن القاهرة سيكون من حقها الحصول على قرض جديد من صندوق النقد الدولي قبل نهاية العام الحالي بقيمة إجمالية تصل إلى 1.3 مليار دولار في إطار برنامج "الصلابة والاستدامة" الذي أطلقه الصندوق الدولي لدعم نحو 70 بلداً حول العالم تعاني ندرة في النقد الأجنبي، على أن تحصل على تلك القيمة خلال فترات زمنية مختلفة على مدار أربع سنوات.
ويتطلب قرض الصلابة والاستدامة أن تكون الدولة مرتبطة مع الصندوق ببرنامج تمويل قائم، وهذا الشرط ينطبق على القاهرة، وأن يكون سجل تعاملاتها مع الصندوق لا يتضمن تخلفاً عن سداد القروض أو الأقساط أو الفوائد. ويتوافق الشرطان مع القاهرة حتى الآن، إذ من المقرر أن تبدأ مصر خلال هذا الشهر في تسديد 847.9 مليون دولار موزعة على ثلاث دفعات لصندوق النقد حصلت عليها الحكومة المصرية في السابق في شكل قروض.
وتتوزع الدفعات الثلاث، وفق بيانات صندوق النقد، على 347.8 مليون دولار مستحقة في الأول من أغسطس، تمثل الفائدة على قروض المؤسسة المالية لمصر، ونحو 119.4 مليون دولار في الثالث من أغسطس/آب، تمثل قسطاً من اتفاق التسهيل الائتماني الممدد في 2016، و340.5 مليون دولار في 10 أغسطس، تمثل قسط برنامج التمويل الطارئ الذي حصلت عليه الدولة خلال فترة تعامل الحكومة المصرية مع تبعات انتشار وباء كوفيد-19.
وذهب مصدر مسؤول في وزارة المالية للتأكيد على أن خيارات القاهرة تبقى محدودة للغاية، وسيكون عليها خلال الفترة المقبلة الاتجاه نحو التخلص من المزيد من الأصول وتفعيل مبادراتها التي هدفت لجذب الدولار إلى البنوك الرسمية.
وأوضح أن مشكلات الحكومة تتمثل في كونها لا تستطيع جذب الاستثمارات الأجنبية لشراء تلك الأصول؛ إذ إن قيمة الجنيه في السوق الموازية تختلف عن نظيرتها الرسمية في البنوك، وهو ما يدفع كثيراً من المستثمرين للتراجع عن الشراء في الوقت الحالي رغم إقدام الحكومة على البيع بأسعار زهيدة مقارنة بأهمية الأصول والشركات التي طرحتها للبيع.
يرى المتحدث ذاته بأن الانفتاح على القطاع الخاص ليس كافياً حتى الآن بما يدعم الثقة في إجراءات الحكومة، كما أن وجود سعرين للصرف كان له سبب رئيسي في أن تتراجع تحويلات المصريين بالخارج بنسبة بلغت 26% مقارنة بالعام الماضي وهو ما يشكل خسارة غير متوقعة، كما أن البعض ينتظر اتخاذ خطوة التعويم حتى يقوم بإرسال تحويلاته عبر البنوك.
موجات عاتية
وسلط المصدر الضوء على مشكلة أخرى تتعلق بإمكانية تخفيض التصنيف الائتماني، الأمر الذي لن تكون خسائره فقط في عدم القدرة على جذب أي أموال أجنبية ولكن سيكون عاملاً محفزاِ لخروج بعض الاستثمارات الموجودة في الداخل، وأن ما صدر عن وكالة "موديز" مؤخراً والتي وضعت مصر تحت المراجعة تمهيداً لإمكانية تخفيض تصنيفها، يجعل الحكومة أمام موجات عاتية ستكون بحاجة إلى خبرات اقتصادية محنكة تساعدها على تجاوز محنتها.
في مايو/أيار الماضي وضعت موديز التصنيف الائتماني – الذي يقيس قدرة مصر على الوفاء بالالتزامات طويلة الأجل بالعملة الأجنبية والمحلية – قيد المراجعة بغرض الخفض، بعد عدة أشهر من تخفيضها للتصنيف الائتماني لمصر إلى B3 في فبراير/شباط 2023.
وقالت الوكالة يوم 10 أغسطس/آب الجاري، إنها مستمرة في مراجعة التصنيف الائتماني لمصر بغرض التخفيض، مشيدة بإعلان الحكومة الأخير بشأن الاتفاق على بيع أصول ومطالبة بالمزيد من الخطوات الإصلاحية، وأوضحت أن المراجعة سوف تركز على نتائج صفقات الخصخصة الأخيرة ومدى انعكاسها على السيولة الدولارية، سعر الصرف وتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر.
وأضافت الوكالة أنها تتوقع المزيد من التطورات الاقتصادية لتمكين صندوق النقد الدولي من إجراء المراجعة الأولى والثانية المتأخرين لتمكين مصر من الحصول على باقي التمويل والذي يعتبر بمثابة شهادة ثقة للمستثمرين.
وكانت مذكرة بحثية لوكالة "إس آند بي غلوبال – S&P Global" قد توقعت أن ينخفض سعر صرف الجنيه أمام الدولار خلال الفترة القادمة، لينهي العام الجاري عند مستوى 37 جنيهاً للدولار الواحد في السوق الرسمية.
وتُرهن المذكرة هذه التوقعات بمضي مصر قدماً نحو الانتقال إلى نظام سعر صرف مرن كما هو محدد في اتفاقها مع صندوق النقد الدولي، وتوقعت أن تنتهي مصر من المراجعة الأولى للصندوق في الفترة من سبتمبر/أيلول إلى أكتوبر/تشرين الأول المقبلين، على أن تشهد هذه الفترة تعديلاً جديداً في سعر صرف الجنيه.
وأشار أستاذ بكلية الاقتصاد بجامعة القاهرة إلى أن التصنيف الائتماني لمصر قابل للتخفيض مجدداً بعد أقل من ثلاثة أشهر، لعدم قدرة الحكومة على جذب الاستثمارات الأجنبية وبطء سير برنامج الطروحات، إلى جانب المخاطر التي تواجهها مصر بشأن قدرتها على سداد ديونها، وأن المؤسسات الدولية تنتظر تقييم الاقتصاد المصري بعد مراجعة صندوق النقد، وفي تلك الحالة سيكون الاقتصاد المصري أمام مشكلات أكبر تتعلق بثقة المستثمرين الأجانب فيه، مع التوقعات بزيادة غير مسبوقة في عجز الدين العام مقابل الناتج القومي.
وأضاف أن مصر تعاني أزمة أخرى ترتبط بعدم ثقة المواطنين أنفسهم في اقتصاد بلدهم، وهو ما يقود للاتجاه إلى تحويل المدخرات من الجنيه المصري إلى الذهب والدولار، كما أن الاتجاه لفتح مشاريع صغيرة يبقى مجازفة لا يحبذها الكثيرون في ظل الأوضاع الاقتصادية المضطربة.
وصعد المؤشر الرئيسي للبورصة المصرية بنسبة 23.53% منذ بداية العام الجاري، وبأكثر من نسبة 70% منذ أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي مع تحرير سعر صرف الجنيه أمام الدولار، ليصل إلى مستوى 18033 نقطة بنهاية تعاملات الأحد، في ظل الترويج للبورصة باعتبارها أحد الأوعية الادخارية المناسبة للمصريين لتحقيق أرباح مرتفعة، وأصبحت هي الأخرى أداة للتحوط من انخفاض سعر الصرف.