اصطدمت كليات الطب في مصر التي تواجه جملة من المشكلات خلال السنوات الماضية، بأزمة جديدة مؤخراً جراء الانخفاض الملحوظ في معدلات نجاح طلاب الفرق الأولى في عدد من الكليات الموزعة على محافظات الصعيد (جنوب مصر).
تفشي حالات الغش الجماعي في امتحانات الثانوية العامة وما ترتب عليها من وصول الفاشلين والغشاشين إلى رأس كليات القمة في مصر، هو ما يضاعف من المشكلات التي تواجه دراسة ومهنة الطب في مصر.
وقد أعلنت جامعة سوهاج عن رسوب ما يقرب من ثلثي طلاب الفرقة الأولى بنسبة نجاح بلغت فقط 39%، ووصل عدد طلاب الفرقة إلى 600 طالب وتقدم منهم للامتحانات 568، وبلغ عدد الطلاب الناجحين 222 طالباً.
وتكرر الأمر في كلية الطب بجامعة أسيوط التي أعلنت رسوب 70% من طلاب الفرقة الأولى هذا العام، وأرجعت إدارة الكلية السبب إلى انتشار حالات الغش الجماعي في لجان امتحانات العام الماضي.
واعتبرت الكلية أن ارتفاع نسبة الرسوب لم يكن معتاداً، ففي نتائج امتحانات الفرقة الأولى العام الماضي بلغ النجاح فيها 81%، وهي قريبة من النسب الطبيعية للنجاح في الكلية السنوات الماضية.
وفي جامعة جنوب الوادي بمحافظة قنا، والتي يلتحق بها عادةً أبناء محافظات الصعيد القريبة منها، تجاوزت نسبة الرسوب في الفرقة الأولى هذا العام 70%، وبلغت نسبة الرسوب في كلية طب الأسنان 81%.
نقص الإمكانيات وعدم جاهزية المستشفيات التعليمية
وقال عميد إحدى كليات الطب في حديثه مع "عربي بوست"، إن أزمة الدراسة بكليات الطب بدأت منذ ما يقرب ثلاثة أعوام، وفي ذلك الحين قررت وزارة التعليم العالي زيادة اعداد القبول بالكليات.
وأضاف المتحدث أن عدد الطلاب المسجلين بالجامعات الحكومية في كليات الطب ارتفع من 150 طالباً أو 200 طالب على أقصى تقدير، إلى 600 طالب في بعض الجامعات، وهو ما انعكس سلباً على جودة العملية التعليمية.
وتابع أن زيادة أعداد المقبولين لم تواكبها زيادة في الإمكانيات أو معامل التشريح أو في تجهيزات المستشفيات التعليمية التابعة للكليات، بل على النقيض، فإن الدراسة العملية تواجه مشكلات بسبب نقص الإمكانيات.
وحسب المتحدث فإن الجامعات المصرية الحكومية فتحت الباب أمام قبول الوافدين بمصروفات مرتفعة، وكان ذلك أحد الأسباب الأخرى التي أثرت سلباً على جودة دراسة الطب.
سعي الحكومة المصرية ضرب أكثر من عصفور بحجر واحد كان وراء القرارات الأخيرة، وفقاً للمصدر ذاته، إذ إن زيادة أعداد المقبولين تساعدها على سد العجز في المستشفيات الحكومية، مع ارتفاع معدلات هجرة الأطباء خلال السنوات الأخيرة.
وبدلاً من تشجيع الأطباء على البقاء وإصلاح أوضاعهم المادية والمهنية كان القرار الأسهل هو زيادة عدد الطلاب والكليات، كما أنّ فتح باب قبول الوافدين دعم حاجة جهات حكومية إلى العملة الصعبة، في ظل الإقدام على دراسة الطب في مصر، باعتباره يحظى بسمعة طيبة في الخارج، يقول المتحدث.
يشير المصدر ذاته إلى أن المستوى المعرفي والتعليمي لطلاب كليات الطب اختلف بشكل كلي بعد هذه الإجراءات، وأن أعضاء هيئة التدريس يجدون صعوبات عديدة في التفاعل مع الطلاب، والمدهش أن البعض ليس لديه أي معارف لغوية أو معرفية تدعم إمكانية نجاحه في سنوات الدراسة، واصطدمت كليات الطب بدخول طلاب لا يجيدون القراءة والكتابة من الأساس، بدءاً من العام قبل الماضي.
وفقاً للمصدر ذاته، الذي يتواجد في منصبه منذ عامين، فإن انتشار لجان الغش في محافظات سوهاج وأسيوط وقنا كان له أثر بالغ في تراجع مستويات الطلاب المقبولين.
وأشار المتحدث إلى أن بعض طلاب كليات الطب في مصر لم يكمل العام الدراسي بعد أن رسب في جميع مواد الفصل الدراسي الأول، وهو ما يعكس انخفاض عدد من دخلوا امتحانات الفصل الدراسي الثاني، وبدا أن هناك قناعة لدى أولياء الأمور والطلاب بأن الاستمرار في دراسة الطب سيكون مستحيلاً.
خطة حكومية دون النظر في مستوى دراسة الطب أو الدارسين فيه
وقبل أيام أدلى عميد كلية الطب بجامعة جنوب الوادي، علي عبد الرحمن غويل، بتصريحات إعلامية أشار فيها إلى أن عدد طلاب الفرقة الأولى بكلية الطب هذا العام بلغ 512 طالباً وطالبة، وأن نسبة 90% من الطلاب قدموا إليها من مراكز وقرى ومدارس بعينها، كانت معروفة بانتشار الغش الجماعي.
وأكد أن 77% من الطلاب لم يدخلوا امتحانات الفصل الدراسي الثاني بعد رسوبهم في الأول، ومعظم الراسبين لم يحققوا النجاح في أي مادة، مشيراً إلى أن الكلية لن تخضع لأي ضغوط لرفع النتيجة أو تحسينها، بما لا يؤثر على المنظومة الصحية بوجه عام.
ولا يستبعد أحد أعضاء هيئة التدريس بكلية الطب جامعة عين شمس، أن يكون ما يحدث في شهادة الثانوية العام المصرية أمراً مخططاً لخدمة أهداف حكومية، ويرى أن تأسيس 25 كلية طب حكومية وخاصة في غضون سنوات قليلة يأتي ضمن خطة حكومية للتعامل مع هجرة الأطباء.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن تشغيل تلك الكليات بحاجة لعدد كبير من الطلاب، وبالتالي فإن ترك عمليات الغش في مدارس الصعيد، والتوسع في قبول الوافدين، من المؤكد أنه ضمن خطة أوسع تضمن اتجاه أكبر عدد من الطلاب لكليات الطب في الجامعات الأهلية والخاصة.
ويفسر المصدر ذاته رؤيته بأن تراجع معدلات تنسيق القبول بالجامعات خلال السنوات الماضية، واستحواذ العدد الأكبر من الطلاب الحاصلين على مجاميع تفوق 90% عليها، أغلبهم حصل عليها عن طريق أساليب الغش المختلفة، يدفع الطلاب أصحاب المستويات العليا إلى الالتحاق بكليات طب خاصة، حتى وإن كان ذلك يضغط عليهم اقتصادياً.
بحسب تحليل المصدر ذاته، فإن الحكومة المصرية إذا أرادت بالفعل الحفاظ على جودة التعليم فإنها كانت ستحرص على إنشاء مستشفيات تعليمية تضاهي العدد الكبير من الكليات التي قامت بافتتاحها خلال السنوات الثلاث الماضية، لكنها مضت في خطتها دون أن تنظر إلى مستوى دراسة الطب أو الدارسين فيه، ويؤشر ذلك إلى أن المستهدف فقط شغل الكليات الجديدة بالطلاب.
وأشار المتحدث إلى أن وزارة التعليم العالي التي أدخلت آليات قبول جديدة بكليات الإعلام وعدد من الكليات العملية الأخرى، لم تفكر حتى الآن في تغيير معايير القبول بكليات الطب، رغم أن تراجع معدلات النجاح بدأ منذ العام الماضي في جامعة سوهاج تحديداً، في حين أن الجميع يدرك أنه تتعدد طرق التسريب والغش، والبحث عن هدف رئيسي يتمثل في الحصول على أعلى الدرجات، وبالتالي يصل ضعاف المستوى إلى كليات القمة.
والمهم من وجهة نظر المصدر أن تدفع الحكومة بآلاف الطلاب الجدد كل عام إلى المستشفيات الحكومية لسد العجز، في ظل تراجع أعدادهم بصورة تشكل تهديداً للأمن القومي، خاصةً أن ذلك يتسبب في اشتباكات واعتداءات متكررة بين الأهالي والأطباء.
ولعل ما يبرهن على ذلك أن المجلس الأعلى للجامعات المصرية قد أدخل تعديلاً على نظام تدريس الطب، لتصبح مدة الدراسة فقط 5 سنوات بدلاً من 7 سنوات، وأقر نظام الساعات المعتمدة الجديدة، حسب قدرات الطالب، يوجد حد أقصى للسنوات الدراسية في كلية الطب، فيمكن التخرج بعد 5 سنوات كحد أدنى، والتدريب لسنتين، وهي القرارات التي تدعم الدفع بالأطباء في المستشفيات الحكومية في أقل عدد من السنوات.
وفي أغسطس/آب من العام الماضي، أثارت نتائج طلاب الفرقة الأولى بكلية الطب جامعة سوهاج ضجة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد رسوب ثلث الطلاب، وأظهرت النتائج رسوب 229 طالباً بالفرقة الأولى بكلية الطب جامعة سوهاج، من إجمالي 671 طالباً مقيدين بالفرقة الأولى بالكلية.
وفي يناير/كانون الثاني من العام 2018، شهدت جامعة المنصورة أزمة كبرى، بعدما خرج طلاب الفرقة السادسة بكلية الطب، قسم الجراحة، الذين يزيد عددهم على 1200 طالب من امتحان الورقة الثالثة للمادة بدعوى صعوبة الامتحان، ما أدى إلى حدوث حالة من الهرج داخل اللجان.
وانتهت لجنة تقصي الحقائق التي شُكلت إلى توصية بحصول 1200 طالب بالسنة السادسة في الكلية على درجة صفر في مادة الجراحة، بعد رفض الطلاب الإجابة عن أسئلة الامتحان بحجة صعوبتها، وخروجهم من لجان الامتحان وتجمهرهم بالكلية مطالبين بإعادته.
الأزمة ستنال من سمعة مهنة الطب
مصدر مطلع بنقابة الأطباء المصرية قال في تصريح لـ"عربي بوست"، إن أزمة دراسة الطب في مصر ستلقي بظلالها على مهنة الطب، وإن السمعة الطيبة التي يحظى بها الأطباء المصريون في الداخل والخارج على المحك الآن، وإن النقابة تنوي التدخل لوقف هذه المهازل، وما يعرقل التحركات الآن استعداد الجميع لمعركة انتخابية لن تكون سهلة بعد أقل من شهر ونصف الشهر.
ويضيف المصدر لـ"عربي بوست"، أن ما يقلل من صدى الكارثة أن أعضاء هيئة التدريس في كليات الطب ما زال لديهم قدر كبير من المهنية، والرغبة في الحفاظ على المهنة، وبالتالي فإنهم يرفضون أن ينتقل أي طالب للمرحلة التالية في حال لم يكن مؤهلاً لذلك بنسبة 100%، مشيراً إلى أن أولياء الأمور الذين اعتادوا تقديم رشاوى لرؤساء لجان امتحانات الثانوية العامة حاولوا تكرار الأمر مع الأطباء في الجامعات، لكن فشلوا في المهمة.
وشدد على أن عوامل الانحراف التي طالت المراقبين في امتحانات الثانوية العامة لم تصل إلى أساتذة كليات الطب، بفعل التكوين الثقافي والمعرفي والتقاليد المعروفة، لكن ذلك لا ينفي أن فكرة توريث مهنة الطب تبقى من المشكلات الأزلية التي تواجهها كليات الطب في مصر، وأن تدخل أعضاء هيئة التدريس لتسهيل نجاح أبنائهم يبقى أمراً ملموساً، لكنه لم يصل إلى عامة الطلاب، ما يجعل الأمر بحاجة إلى تدخل حكومي سريع.
ويرى أن كل هذه العوامل تؤثر في النهاية على قناعات الأطباء الخريجين، الذين يرون أن فرصهم لاستكمال تعليمهم في الخارج، ومن ثم عملهم في جهات حكومية أو خاصة هناك، يبقى سبيلاً آمناً بعيداً عن الأجواء الملبدة بالغيوم في الداخل، وهو ما يفاقم مشكلات المستشفيات الحكومية.
دراسة الطب معرضة للتراجع خلال السنوات المقبلة
وسجلت أعداد الأطباء المستقيلين في مصر زيادة جديدة، ليصبح إجمالي عددهم 11 ألفاً و536 طبيباً خلال 3 سنوات، منذ أول عام 2019 وحتى مارس/آذار 2022، حسب تقرير تابع للجنة الإعلام بنقابة الأطباء، رغم تبني وزارتي التعليم العالي والصحة تنفيذ توصيات دراسة كان قد تم إصدارها قبل 3 سنوات، تتعلق بدراسة احتياجات الأطباء البشريين، فإن ذلك لم يحل الأزمة، وفق ما نشرته النقابة.
ويقول خبير تربوي إن أزمة التعليم الطبي في مصر مركبة، لأن معايير القبول بالجامعات تعاني اختلالاً واضحاً منذ سنوات طويلة، ويبقى التخوف من دخول الواسطة والمحسوبية سبيلاً للارتكان إلى التنسيق وحده كمعيار للقبول.
كما أن عملية تقويم امتحانات الثانوية العامة تعاني هي الأخرى خللاً واضحاً، لأن طبيعة الأسئلة الموضوعية القائمة على (اختيار من متعدد)، رغم أنها تعد أسلوباً متطوراً، لكن لا يمكن تطبيقها في لجان امتحانية تعاني حالة من التسيب والفوضى في بعض الأحيان.
ويشير إلى أن دراسة الطب داخل الكليات ما زالت تحافظ على قدر من الجودة، لكنها معرضة للتراجع خلال السنوات المقبلة إذا ما استمرت الأوضاع كما هي عليه الآن، وأن الأمل في أن يُحدث أساتذة كلية الطب عملية فلترة للطلاب الغشاشين، وممن ليست لديهم القدرات العملية التي تؤهلهم لأن يصبحوا أطباء في المستقبل القريب.
وأحيطت نتائج الثانوية العامة بمصر خلال العامين الماضي والحالي بضجّة كبيرة، بعد الكشف عن حصول الطلاب المنتمين إلى خمس عائلات شهيرة في محافظة سوهاج، على مجاميع مرتفعة بلغت 97% في المتوسّط للشعبة العلمية، و91% للشعبة الأدبية، بما يضمن التحاقهم جميعاً بكليات القمّة، وانتشرت هذا العام كشوف لمدراس بعينها في محافظة سوهاج أيضاً، حصل غالبية طلابها على مجاميع أكثر من 90%.
وكان الدكتور طارق شوقي، وزير التربية والتعليم والتعليم الفني السابق، قد أكد في تصريحات له، أن نسبة الغش في الامتحانات وصلت إلى 85% نظراً إلى فقدان الرغبة في التعلم، موضحاً أن الدولة تتكلف ملياراً و300 مليون لمواجهة ظواهر الغش.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”