ما زالت التهم التي تُوجه لحركة "النهضة" التونسية مستمرة، مرة من الرئيس قيس سعيّد، ومرة أخرى من بعض أعضاء البرلمان الذين يريدون تصنيفها "منظمة إرهابية".
وتزامنت هذه الاتهامات مع تعيين قيس سعيّد لأحمد الحشاني رئيساً للحكومة عوض نجلاء بودن، التي أقالها الرئيس التونسي في خطوة مفاجئة فجر الأربعاء 2 أغسطس/آب 2023.
وربط متابعون للشأن التونسي اختيار رئيس الحكومة الجديد، الذي قيل عنه إنه معروف بمواقفه المعادية للإسلام السياسي، بالحملة القائمة ضد حركة النهضة في تونس.
وترى مصادر تواصل معها "عربي بوست"، أن قيس سعيّد يُحاول تطويع مجموعة من الجهات، آخرها تعيين رئيس حكومة ليس لديه برنامج سياسي، ومعروف بعدائه لنظام بورقيبة، خاصةً أنه يعتبر سليل عائلة البايات التي حكمت إلى غاية 1957.
منفذ أوامر الرئيس
قال الباحث والأكاديمي زهير إسماعيل إن "السياق الذي وُضع فيه أحمد الحشاني وقبل به، هو أنه وزير أول عند قيس سعيّد، وهذا سيجعله في مواجهة الحركة الديمقراطية، والنهضة من بين قواها الرئيسية".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "الحشاني لن يخرج عن مشروع قيس سعيّد في شطب كل الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظمات، في سياق أزمة مالية متفاقمة تجعل البلاد متوترة بين خطر الانهيار المالي والانفجار الاجتماعي".
وفي رده على كون الحشاني معادياً للإسلام السياسي، قال المحلل السياسي إن رئيس الحكومة التونسي ليس كذلك ولا دليل عليه، وما استُنسخ من تدويناته السابقة على صفحته بـ"فيسبوك" يشير إلى حنين الرجل إلى دولة البايات وما سماه بالملكية الدستورية.
وتابع أن "رئيس الحكومة الجديد لا يكنّ العداء للإسلام السياسي، ولكن عداءه واضح لبورقيبة، وقيس سعيّد تحدث أكثر من مرة عن زمنهم القبيح".
واعتبر إسماعيل أن "رئيس الحكومة الذي لم نسمع كلمة عن برنامجه سيكون أداة تنفيذية لبرنامج قيس سعيّد ومنه "تطهير الإدارة" بعد "تطهير القضاء"، وذلك في مقاربة يائسة تنكر عجز أصحابها عن مواجهة الأزمة المالية الاقتصادية التي تحولت تحت عنوان "تصحيح المسار"، إلى نكبة وطنية.
ورأى الباحث أن "تعيين أحمد الحشاني لن يضيف جديداً إلى علاقة سعيّد بالنهضة، فهو لا يستهدفها إيديولوجياً على طريقة بن علي، وإنما باعتبارها نواة للقوى المدافعة عن الديمقراطية والمناهضة لمشروعه".
وأشار المتحدث إلى أن "سعيّد ذكر في حديثه مع مديرة القناة الوطنية الأولى، جهتين من اللصوص (التجمع وبقايا المنظومة القديمة)، والخونة (النهضة)؛ في محاولة لشق طريق ثالث بين الحركة الديمقراطية والنوفمبرية (فترة حكم بن علي)".
هل تمت التعيينات في عهد بن علي؟
طالب الرئيس التونسي قيس سعيد، في أول لقاء جمعه برئيس الحكومة الجديد أحمد الحشاني، بضرورة تطهير الإدارة ممن تسللوا إليها وتحولوا إلى عقبة أمام إنجاز أي مشروع.
وسبق أن تحدث سعيّد في أكثر من مرة، عن ملف التعيينات خلال السنوات العشر الأخيرة، داعياً إلى حملة "تطهير"، في إشارة واضحة، حسب مصادر مقربة منه، إلى مراجعة التعيينات التي تمت خلال فترة حكم حركة النهضة.
وطغى ملف التعيينات بشدة في تونس، وأصبح قضية رأي عام، خاصة بعد أن قامت وزارة التربية بفتح بحث في عدد من المندوبيات التربوية، وكشفت الأبحاث عن وجود موظفين دون شهادة تؤهلهم لذلك.
ورغم أن التجاوزات قد حصلت بالأساس في فترة ما قبل الثورة، أي مع نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وفي السنة الأولى ما بعد الثورة بحسب مصادر مطلعة، فإن الاتهام تم توجيهه لحركة النهضة.
ويتهم قيس سعيّد والموالون له حركة النهضة بإغراق الإدارات بتعيينات تابعة لها، واستولت على مفاصل جميع الإدارات.
المحلل السياسي زهير إسماعيل قال لـ"عربي بوست"، إن مراجعة التعيينات لا تخرج عن القرارات العشوائية التي لا يحسن الانقلاب غيرها، وهذا إذا تم فسيحدث توتراً كبيراً في الإدارة في السنة السياسية والإدارية الجديدة، ينضاف إلى التوترات السابقة، وتعيين أحمد الحشاني لا يخرج عن سياق الصراع بين الانقلاب والديمقراطية.
وتابع محدثنا أن "المقصود الأول بالتطهير هم من تم إدماجهم في الوظيفة العمومية بقانون العفو التشريعي العام، ونسبة منهم من مناضلي حركة النهضة، وهذا مدعاة لفوضى عارمة في الإدارة ولن يكون طريقاً إلى التخفيف من أسباب البطالة المتصاعدة".
آلاف التعيينات.. اتهام سياسي
وفي ردها على اتهام سعيّد بإغراق الإدارات بالتعيينات الموالية لها، قال الناطق الرسمي السابق باسم حركة النهضة فتحي العيادي، إن "سعيّد مستمر في توليد الخطاب الشعبوي، وتوزيع الاتهامات من أجل التغطية على فشله".
وقال العيادي في تصريح لـ"عربي بوست"، إن الإعلام خلال فترة حكم الحركة توافرت له كل الفرص من أجل النفاذ إلى المعلومة، فكيف يمكن لـ"النهضة" مع كل ذلك أن تغرق الإدارة بالتعيينات دون أن يعلم أحد.
وأضاف العيادي: "إذا أراد المنقلب أن يراجع التعيينات التي حصلت، فلماذا لا يكشف أولاً التعيينات التي قام بها في الوزارات والولايات وغيرها من مؤسسات الدولة، وفي بعض منظماتنا الوطنية التي انقلب على قيادتها الشرعية".
وتساءل المتحدث: "هل يمكن لقيس سعيّد أن يكشف لنا معاييره في التعيينات، التي لم تكن على أساس الكفاءة بقدر ما هي ترضية لتنسيقياته؟ هذه التعيينات التي تُعتبر استباحة للدولة وتحويلها إلى غنيمة له".
وأشار إلى أن "النهضة تحملت مسؤولية الحكم مع غيرها من الأحزاب الوطنية، تحت مراقبة كاملة من منظمات المجتمع المدني، على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل".
من جهته يرى الأستاذ الجامعي مهدي مبروك أن "كل الديمقراطيات التي تؤمن بالانتخابات، وكل الحكومات التي تفرزها صناديق الاقتراع تعمد إلى تعيين من تراه مناسباً على قاعدة احترام الشروط والكفاءة".
وفسر الدكتور مبروك في حديث خاص لـ"عربي بوست"، قائلاً: "أتحدث عن المديرين العامين بالمؤسسات والوظيفة العمومية، ففي فرنسا وإيطاليا مثلاً بعد كل انتخابات هناك تعيينات جديدة في المسؤولين الكبار".
ورأى مبروك أن "ما يقوم به النظام حالياً هو اجتثاث سياسي على غرار ما وقع في العراق مع البعث"، قائلاً: "إنها محاكم تفتيش منافسة تماماً لما ينص عليه قانون الوظيفة العمومية من حياد المرفق العام".
وأشار المتحدث في تصريحه لـ"عربي بوست"، إلى أن "تعيينات الرئيس قيس سعيّد، منذ 25 يوليو/تموز، للمعتمدين والولاة قائمة على الوفاء الشخصي له".
تضخيم الأرقام
من جهته، قال كمال العيادي، الوزير السابق للوظيفة العمومية ومكافحة الفساد، إن "الحديث عن 120 ألف انتداب بشهادة مزورة كلام غير مسؤول لعدة أسباب".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "الموضوعية العلمية تقتضي الاستناد إلى مصدر موثوق قبل تقديم أي تقدير لحجم أي ظاهرة كانت، والمصدر الوحيد في هذه الحالة هو هياكل الرقابة والتفقد، دون ذلك فالكلام يظل من التخمينات".
وأوضح الوزير السابق أن "التقرير الرقابي الذي تعهد بالتدقيق في هذه التجاوزات هو الذي أنجزته محكمة المحاسبات، والذي تطرق للاختلالات في الوظائف الاستثنائية بوزارة التربية، وقد أشرفت شخصياً على متابعة رفع الإخلالات".
من جهته، كشف الوزير السابق للوظيفة العمومية ومكافحة الفساد كمال العيادي، أن "الإدارة التونسية تعاني العديد من الاختلالات، لكن لا بد من الإقرار بأنها حافظت على الحد الأدنى من الثوابت".
لائحة تنظيم إرهابي
ولم تتوقف الاتهامات لحركة النهضة في حدود تعيين الموالين لها في الوظائف، بل وصلت إلى توجه عدد من النواب بالبرلمان الحالي إلى جمع إمضاءات لتمرير لائحة سياسية لتصنيف حركة النهضة "تنظيماً إرهابياً".
النائب في البرلمان الحالي، طارق المهدي، قال في تصريح للإذاعة الرسمية، إن اللائحة تأتي على خلفية "ملفات تسفير الشباب التونسيين إلى مناطق القتال في سوريا والعراق".
وفي رد على اللائحة، قال فتحي العيادي إن "هذه اللائحة استمرار لمسار الاتهامات للنهضة، وذلك بعدما فشل سعيّد في اتهام النهضة بالتسفير، دفع بقيادات الحركة ورئيسها لجلسات تحقيق متتالية، وطوع بعد ذلك القضاء لاعتقال قيادات".
وأضاف العيادي في حديثه مع "عربي بوست"، أن "القضاء الذي طوّعه الرئيس لم يستطع أن يثبت تهمة واحدة عن حركة النهضة في قضية التسفير إلى حدود الساعة".
وتساءل العيادي: "فماذا سيسجل التاريخ لهذا البرلمان غير هذه اللائحة المهزلة، التي فشلت في أن تجد الحد الأدنى من إمضاءات النواب".
هذا، وقد اتصل "عربي بوست" في العديد من المرات للحصول على تصريح من أحد النواب بخصوص فحوى اللائحة وعدد الإمضاءات التي وصلت إليها ولكن لم يجد رداً.
وبحسب مصادر موثوقة لـ"عربي بوست"، فإن التكتم مرده تدني مستوى الإمضاءات على اللائحة، وعدم تفاعل النواب معها، مؤكدين أن القضاء وحده مخول له إصدار الأحكام.