رغم حلول موسم الصيف الشهير بخضراواته وفواكهه متوسطة السعر عادة، إلا أن هذا العام 2023، شهد أسعاراً مرتفعة بشكل كبير بالنسبة للمواد الغذائية في تركيا عامة، وفي القطاع الزراعي خاصة، بشكل لم يشهده المواطن التركي خلال أشهر الصيف منذ سنوات.
منتجات مثل الطماطم والفلفل والباذنجان، التي تعد وفيرة في موسم الصيف وبأسعار مناسبة مقارنة ببقية المواسم في تركيا، جاءت أسعارها مرتفعة هذا العام، رغم أن هذه المنتجات ساهمت على مدى السنوات الماضية في خفض نسب التضخم في البلاد خلال أشهر الصيف من كل عام.
لكنَّ بيانات التضخم عن شهر يوليو/تموز 2023، التي أعلنتها هيئة الإحصاء التركية فاجأت الجميع؛ بزيادة كبيرة في أسعار الخضراوات بنسبة 20.1%، فيما سجلت الفواكه الطازجة نسبة زيادة مقدارها 15.7% بين المنتجات الغذائية الأخرى التي شهدت زيادات في أسعارها خلال الفترة الماضية.
إلى جانب ذلك، بات من الصعب تحقيق استقرار في جودة الفواكه والخضراوات على رفوف المحال التجارية والأسواق هذا الصيف، ما أثار تساؤلات عن أسباب ارتفاع أسعار الفواكه والخضراوات التي كان يعول عليها لتقليل نسب التضخم في فصل الصيف؟
أنطاليا "كلمة السر"
كسرت أسعار الطماطم والفواكه والخضراوات هذا العام الرقم القياسي للزيادات منذ نحو 8 سنوات، بحسب الصحف المحلية التركية.
وتعكس بيانات الإنتاج الزراعي في ولاية أنطاليا واقع ارتفاع الأسعار في عموم البلاد؛ حيث تعد المدينة الساحلية جنوبي تركيا المرآة العاكسة لحال ولايات تركيا الـ81.
بحسب بيانات شهر يوليو/تموز 2023، التي أعلنتها بورصة السلع بولاية أنطاليا، كان هناك انخفاض قياسي في كمية الطماطم والخضراوات والفواكه في المحافظة وبقية أنحاء البلاد؛ بينما بلغت الزيادة في الأسعار أعلى مستوى من متوسط السنوات الثماني الماضية.
خلال شهر يوليو/تموز 2023، انخفضت كمية الطماطم في أسواق أنطاليا بنسبة 39.78% مقارنة بالشهر السابق، وبنسبة 31.35% مقارنة بالعام الماضي 2022؛ فيما ارتفع سعر الطماطم بنسبة 70% مقارنة بالشهر الماضي، وبنسبة 124.76% مقارنة بالعام الماضي.
وبينما انخفض محصول الخضراوات بنسبة 52.59%، ارتفع السعر السنوي بنسبة 89.83%، وانخفض الإنتاج السنوي للفاكهة بنسبة 44.15%، وارتفع السعر بنسبة 57.09% سنوياً، بحسب بيان بورصة السلع في أنطاليا.
أزمة المناخ تهدد الزراعة
على مدار الشهور الماضية، شهدت تركيا عامة موجات من المطر المفاجئ تبعتها موجات من البرد والصقيع؛ ثم ارتفاع شديد في درجات الحرارة لم تشهده البلاد منذ عقود؛ وتؤثر هذه التغيرات المفاجئة في درجات الحرارة بسبب أزمة المناخ، ما يؤثر سلباً على الإنتاج الزراعي.
يأتي ذلك على الرغم من أنه لا يمكن تفسير الانخفاض في الإنتاجية الزراعية فقط مع الظروف المناخية، إلا أن أزمة المناخ تشكل الآن تهديداً خطيراً للأمن الغذائي لتركيا، بحسب تصريحات من مسؤولين أتراك.
إذ ترى ميليسا توكجوز موتلو، رئيسة مجلس الزراعة لجمعية المصدرين والمنتجين الأتراك والمنتجين، أن التوقعات المناخية خلال العام الزراعي الماضي؛ خاصة خلال شهور موسم الربيع لم تتحقق؛ بما أثر بشكل كبير على الإنتاج الزراعي غير المخطط.
وتضيف موتلو في تصريحات لـ"عربي بوست"، أن "توقعات المناخ وهطول الأمطار في ذلك الموسم مهمة للغاية في عمليات الزراعة، وهناك مواسم يجب أن تظل فيها التربة جافة وتتلقى هطول الأمطار، ثم تبقى جافة مرة أخرى؛ ولكن في هذه الفصول تراجعت تماماً؛ وعند النقطة التي وصلنا إليها مع أزمة المناخ، لم نعد قادرين على التحكم في هطول الأمطار؛ ولا توقع مواسمه".
وتقول موتلو إنه بينما كان من المتوقع أن يكون هذا العام هو "عام الإنتاج"، فإن العكس تماماً هو الذي حدث، إذ واجهت العديد من المحاصيل مشكلات لا حصر لها بسبب تغير المناخ.
وتوضح رئيسة مجلس الزراعة لجمعية المصدرين والمنتجين الأتراك، أنه "كان لدينا مطر غزير في وقت غير متوقع، وكانت لدينا مشاكل مع حصاد العديد من المحاصيل خلال موسم الأمطار هذا، ولم يكن من الممكن الدخول إلى حقول البطاطس مثلاً خلال هذه الأيام بسبب الأمطار التي ضربت عموم البلاد في وقت غير معتاد فيه المطر".
وتضيف موتلو أنه "بينما كنا ننتظر ظهور فاكهة الكرز منتصف شهر مايو/أيار، فلم نرها إلا بعد منتصف يونيو/حزيران وفي بداية هذا الشهر أغسطس/آب 2023؛ وتعرض الكرز للكثير من الأمطار التي لا تصدق؛ وهو الأمر ذاته مع فاكهة المشمش التي تعرضت لموسم أمطار غير محدود".
الطماطم لم تسلم من المناخ
تُعد الطماطم هي العنصر الأول الذي يتبادر إلى الذهن في وجبات الصيف، وهي أيضاً حالياً واحدة من أغلى المنتجات في الأسواق.
الصحفي المتخصص في الشؤون الزراعية علي أكبر يلدريم، يشرح الوضع بقوله: "بعد زراعة شتلات الطماطم في الحقول هذا العام، تدهورت المحاصيل في العديد من الأماكن بسبب هطول الأمطار الغزيرة".
ويضيف يلدريم في تصريحاته لـ"عربي بوست"، أنه كان على المزارعين والمنتجين إعادة زراعة الشتلات من جديد، ما أدى إلى زيادة التكاليف؛ ثم أدت الحرارة الشديدة طوال شهر يوليو/تموز إلى حرق الطماطم قبل نضجها بالكامل، وهذا كله أدى إلى تراجع الإنتاج في تركيا بشكل كبير.
الجودة مختلفة
من جانبها، توضح نرجس كيلتش، إحدى المنتجين في سوق "أدا بازار"، والتي تعمل في شراء وتوزيع المنتجات الزراعية في عموم تركيا، أن إنتاج وجودة الطماطم قد انخفض هذا العام مقارنة بالأعوام السابقة.
وتضيف كيليتش في لقاء تلفزيوني، أن "الطماطم الجيدة لم تعد موجودة حالياً، وفي الماضي عندما كنت أذهب لشراء الطماطم من المزارعين والمنتجين، كنت أقول إن هذا الشخص يعطي طماطم جيدة النوعية وكنت أطلبها منه بالاسم؛ لكن الآن لا يمكنني الذهاب إلى أنطاليا وشراء المنتجات دون التوقف والتدقيق، فهناك احتمال كبير لوضع البضائع السيئة على الشاحنة، لأن هناك عدداً قليلاً جداً من السلع الجيدة الموجودة في السوق حالياً".
ارتفاع المحروقات
وفقاً لما تحدثت به ميليسا توكجوز موتلو، فإن أحد الأسباب الرئيسية لارتفاع أسعار الطماطم في تركيا هو الزيادة في تكاليف المدخلات.
بحسب أحدث البيانات الصادرة عن معهد الإحصاء التركي؛ ارتفع مؤشر أسعار المدخلات الزراعية بنسبة 33.2% على أساس سنوي في مايو/أيار، وفي الشهر الماضي فقط كان هناك ارتفاع بنسبة 51.9% في وقود الديزل، ما أدى إلى زيادة التكاليف ليس فقط في الإنتاج، ولكن أيضاً في تكاليف النقل.
إلى جانب ذلك، هناك التقلبات الكثيرة في أسعار العملات الأجنبية، التي أدت إلى ارتفاع أسعار الأسمدة بنسبة تصل إلى 33% خلال الشهر الماضي يوليو/تموز 2023.
وصرح شيمسي بايراكتار، رئيس اتحاد غرف الزراعة في تركيا، بأن أسعار المواد الغذائية ستتضاعف مع زيادة تكاليف النقل، وذكر بايراكتار في مقطع فيديو مصور له، أن دعم الديزل الممنوح للمزارعين قد ذهب مع الارتفاع الأخير في الوقود، موضحاً أن 75% من كل الدعم المقدم للزراعة يذهب لضريبة الديزل.
من جهة أخرى، يبتعد المزارعون بحسب رئيس غرف الزراعة في تركيا عن الإنتاج بسبب التكاليف المتزايدة والأجور اليومية للعمال التي تزداد بصورة يومية.
واتجه المزارعون، الذين لا يستطيعون توفير دخل مُرضٍ بسبب تغير المناخ، إما إلى تغيير المدن أو تغيير المهن.
الأسماك هي الأخرى
إضافة إلى ذلك، تواجه تركيا انخفاضاً في مخزون الأسماك كل عام بسبب أزمة المناخ والصيد الجائر والتلوث البحري، وتوصلت الأبحاث التي أجرتها كلية العلوم المائية في جامعة إسطنبول، التي بحثت تأثير أزمة المناخ على الأسماك في بحر مرمرة منذ عام 2016، إلى أن هناك انخفاضاً في كمية وأنواع الأسماك في منطقة مرمرة كل عام، وهو الأمر الذي لا يختلف كثيراً عن منطقة البحر الأبيض المتوسط.
وبحسب صيادين تحدثوا إلى "عربي بوست"، فإن التغيرات المناخية التي تضرب تركيا منذ بداية هذا العام أثّرت على مدة موسم الصيد وجميع ممارسات الصيد الأخرى.
يضيف الصيادون أن مواسم الصيد قد تأثرت بسبب التغيرات المفاجئة في درجات الحرارة؛ وظلت الأسماك التي كانت في يونيو/حزيران هي نفسها التي كانت موجودة في يوليو/تموز؛ حتى إن سمكة التونة، وهي من الأسماك المهاجرة في البحر الأبيض المتوسط، وصلت المياه التركية في أواخر هذا الصيف.
بالتالي، لم يعد وقت الصيد الذي تحدده الحكومة التركية يتزامن مع موعد وصول الأسماك إلى المياه التركية، ولهذا السبب، زادت تركيا فترة الصيد من 30 يوماً إلى 45 يوماً، لكن تغير درجة الحرارة آخذ في الازدياد بما يتعارض مع إجراءات الحكومة.
ما الذي يمكن فعله؟
يقول عضو هيئة التدريس بمعهد العلوم البيئية في جامعة بوغازيتشي "إرم دالوغلو تشيتين كايا" لـ"عربي بوست"، إن "تغير أنماط هطول الأمطار واختلاف درجات الحرارة، يعد من العوامل التي تؤثر بشكل مباشر على الإنتاج الزراعي وعلى ندرة الغذاء".
ويضيف "تشيتين كايا" أن الأمن الغذائي الذي تهدده أزمة المناخ هو المشكلة المشتركة للعالم كله؛ إذ عانت دول البحر الأبيض المتوسط مثل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا من موجات جفاف شديدة خلال العامين الماضيين، بالإضافة إلى هولندا وبولندا وباكستان، وهي من بين الدول الرائدة في الصادرات الغذائية، لكنها لا تزال سلبية في السوق الدولية نتيجة انخفاض الغلات بسبب أزمة المناخ.
ويرى عضو هيئة التدريس في معهد علوم البيئة بجامعة بوغازيتشي، أن كل هذه التطورات في أسواق الغذاء التركية والعالمية تُظهر أن أزمة المناخ ستهدد الأمن الغذائي أكثر فأكثر، إلى جانب زيادة عدد السكان.
ويشدد تشيتين كايا على أن أفضل ما يجب فعله حالياً لتفادي هذه الكارثة، هو القيام بالزراعة المخططة في عموم تركيا كاملة من خلال مراقبة المناخ بأحدث الوسائل، والعمل على الاستفادة من مواسمه لزيادة الإنتاج، وبالتالي ضمان انخفاض الأسعار.
يشار إلى أن البنك المركزي التركي سبق أن أصدر تحذيرات في يوليو/تموز من أن الأسعار ستزيد على نطاق واسع.
وأفاد معهد الإحصاء التركي، الخميس 3 أغسطس/آب 2023، بأن التضخم في تركيا تسارع في شهر يوليو/تموز الماضي إلى 47.8%، بزيادة نسبتها 9.6% عن شهر يونيو/حزيران 2023.