تعيش الحكومة العراقية مواجهة مع البرلمان الذي يُسيطر عليه الإطار التنسيقي الشيعي، وذلك بسبب الطعون التي تقدم بها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني على بعض مواد الموازنة العراقية 2023، والتي تُعتبر أضخم موازنة في تاريخ البلاد.
وقال مسؤول حكومي عراقي لـ"عربي بوست"، إن "الحكومة العراقية تقدمت بالطعن على 15 مادة من قانون الموازنة، وحتى الآن سيتم وقف عمل هذه المواد المطعون بها، وهي المواد الخاصة بالتوظيف الحكومي والتعاقدات والتعيينات التي أصر عليها الإطار التنسيقي الشيعي".
وأضاف المصدر ذاته، أنه "من المحتمل أن تتسبب هذه الطعون في مزيد من الجدل السياسي بين الحكومة والبرلمان، على الرغم من أن هذه الطعون من الحقوق الدستورية للحكومة، لكن هذا يعني احتمالية اندلاع أزمة سياسية بين الحكومة والبرلمان بسبب هذه الطعون".
على الجانب الآخر، يقول زعيم سياسي شيعي من الإطار التنسيقي، لـ"عربي بوست": "سنقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة إذا استمرت الحكومة في تقديم الطعون على هذه المواد"، لكنه لم يوضح ما هي هذه الإجراءات.
فيما يقول مصدر حكومي مقرب من رئيس الوزراء العراقي لـ"عربي بوست"، إن "هناك قلقاً لدى السوداني من أن يستخدم قادة الإطار التنسيقي وبالتحديد نوري المالكي، علاقته القوية بالمحكمة الاتحادية الفيدرالية من أجل تعطيل الطعون المقدمة من الحكومة على مواد التعيينات".
وبعد شهور من الاقتتال الداخلي العنيف داخل وخارج البرلمان، أقر مجلس النواب العراقي قانون موازنة تمتد لثلاث سنوات (2023، 2024، 2025)، وهي الموازنة الأضخم في تاريخ العراق، حيث جرت العادة بأن يُقر العراق موازنة لعام واحد فقط.
وقدرت الموازنة العراقية لحكومة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني، بنحو 197.8 تريليون دينار عراقي، أي ما يعادل 153 دولار أمريكي سنوياً، حتى عام 2025.
في هذا الصدد، يقول أحد مستشاري محمد شياع السوداني، لـ"عربي بوست"، إن "الموازنة الضخمة التي تمتد لثلاث سنوات، صُممت لتعكس البرنامج الحكومي الذي يسعى إلى تحقيق العديد من الإنجازات التي من شأنها أن تحقق الاستقرار الاقتصادي للعراق على المدى الطويل".
لكن هناك من يرى أن هذه الموازنة الضخمة التي تمتد لثلاث سنوات، لا تضمن حل مشاكل العراق المتفاقمة مثل انقطاع التيار الكهربائي، وتنويع مصادر الدخل، وتقليل إنفاق القطاع العام.
تمرير الموازنة على "مضض"
في جلسة متأخرة من الليل، وبعد خمسة أيام من الاقتتال الداخلي بين الكتل البرلمانية المتنوعة العراقية، صوَّت البرلمان العراقي في يونيو/حزيران الماضي، على مشروع قانون الموازنة الذي قدمته حكومة محمد شياع السوداني في مارس/آذار 2023، أي بعد خمسة أشهر تقريباً.
زعيم سياسي من الإطار التنسيقي الشيعي، الداعم لحكومة السوداني منذ توليه منصبه، يقول في حديثه لـ"عربي بوست"، إن "أغلب قادة الإطار كانوا يرفضون فكرة التصويت على موازنة تمتد لثلاث سنوات، لكن في النهاية وافقوا على مضض".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "إقرار موازنة لمدة ثلاث سنوات يعني تحقيق الاستقلال السياسي لحكومة السوداني، إضافة إلى تقليل سلطة نواب البرلمان على عمل الحكومة، وهذا ما يريده السوداني بالضبط".
لكن لماذا وافق الإطار التنسيقي الشيعي، الذي يمثل الكتلة البرلمانية الأكبر في البرلمان العراقي الآن، على تمرير موازنة ضخمة لحكومة السوداني؟
يجيبنا عن هذا التساؤل، زعيم سياسي شيعي ثانٍ من الإطار التنسيقي الشيعي، قائلاً لـ"عربي بوست": "إن حكومة السوداني هي الأمل الوحيد للإطار التنسيقي للسيطرة على العملية السياسية، وضمان عدم قدرة مقتدى الصدر على العودة مرة أخرى".
مصدر سياسي ثالث من الإطار قال لـ"عربي بوست"، إن "كل ما يهم قادة الإطار الآن حتى وإن كانوا منقسمين أو بينهم خلافات، أن تنجح حكومة السوداني في تحقيق الاستقرار الاقتصادي والسياسي للعراق؛ تجنباً لاندلاع أي احتجاجات، من الممكن أن يستغلها مقتدى الصدر".
زيادة إنفاق القطاع العام
كان رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، قد أعلن في مارس/آذار 2023، أن مشروع قانون الموازنة العراقية الذي قدمته حكومته، انعكاس للبرنامج الحكومي، لكن يقول الخبراء إن برنامج الحكومة يهدف إلى تقليل إنفاق القطاع العام، وهذا البند لم يتحقق في قانون الموازنة التي تمتد لثلاث سنوات.
في هذا الصدد، يقول الخبير الاقتصادي العراقي، سعدون جواد، لـ"عربي بوست"، إن "قانون الموازنة العراقية الجديد يشمل زيادة في إنفاق القطاع العام قدرها 26 مليار دولار أمريكي، مقسمة بين رواتب القطاع العام والإعانات والرعاية الاجتماعية، وهذا عكس ما طالب به الخبراء الاقتصاديون في العراق وخارجه".
وأضاف المتحدث قائلاً: "في الموازنة الجديدة، تم تخصيص أكثر من 50 ألف وظيفة حكومية جديدة، ستشكل عبئاً هائلاً على الموازنة الجديدة، وتزيد من البيروقراطية والفساد المستشري في العراق منذ سنوات طويلة".
في السياق نفسه، يقول نائب برلماني من الإطار التنسيقي الشيعي، لـ"عربي بوست": "الإطار التنسيقي لم يوافق للسوداني على هذه الموازنة الضخمة إلا بعد أن تعهد بمنح مئات الآلاف من الوظائف الحكومية لأنصار الإطار".
وقال المتحدث إنّ "منح الوظائف الحكومية الذي يشكل عبئاً على الحكومة العراقية، كان صفقة بين الحكومة والإطار التنسيقي الشيعي لضمان تمرير مشروع قانون الموازنة الممتدة لثلاث سنوات، والسوداني كان غاضباً من هذه المسألة، لكن كان لا يملك خيار الرفض".
الدولار وسعر النفط وزيادة العجز
تعرض العراق في الفترة الأخيرة لهزات اقتصادية عنيفة بسبب ارتفاع سعر الدولار الأمريكي أمام الدينار العراقي، بعد الإجراءات الصارمة التي اتخذها البنك الفيدرالي الأمريكي المقيدة لعمل البنوك العراقية بالدولار الأمريكي.
الآن وصل سعر صرف الدولار الأمريكي إلى 1300 دينار عراقي في السوق الرسمية، ووصل إلى 1550 ديناراً عراقياً لكل دولار أمريكي واحد، في الأسواق المالية الموازية.
في هذا الصدد، يقول مسؤول بوزارة المالية العراقية، وواحد من المنتقدين لقانون الموازنة الجديد، لـ"عربي بوست"، إن "وصول الدولار إلى 1300 و1550 مقابل الدينار العراقي، سيزيد من عجز الموازنة العراقية".
وقال المتحدث إنه "وفقاً للموازنة الجديدة وسعر الدولار، ستتكبد الحكومة العراقية نحو 7 مليارات دولار أمريكي، لكن مستشاري السوداني الاقتصاديين يقولون إن الأمر لن يتخطى الـ2 مليار دولار".
وأضاف المتحدث: "بالطبع بعد الإجراءات الأمريكية الجديدة الصادرة منذ أيام، سيزيد حجم الدولار في السوق السوداء، وهذا سيؤدي إلى زيادة سعر الصرف الرسمي، و سيتخطى العجز في الميزانية الـ2 مليار دولار التي تتحدث عنها الحكومة".
هناك معضلة أخرى أمام الموازنة العراقية الجديدة، وهي سعر برميل النفط، ففي الموازنة التي تمتد لثلاث سنوات تم تحديد سعر 70 دولاراً أمريكياً لبرميل النفط الواحد، مع الأخذ في الاعتبار، أن اقتصاد العراق يعتمد بشكل أساسي وبنسبة تصل إلى 90% على عائدات النفط.
يقول الخبير الاقتصادي العراقي سعدون جواد، لـ"عربي بوست": "من الممكن أن تحصل كوارث جسيمة في الموازنة الجديدة، بسبب تحديد سعر 70 دولاراً أمريكياً لبرميل النفط الواحد، من أين أتت الحكومة العراقية بهذا اليقين؟ ومن أين علمت أن أسعار النفط لن تنخفض عن 70 دولاراً؟".
المسؤول البارز بوزارة المالية العراقية انتقد المسألة نفسها، قائلاً لـ"عربي بوست": "لا أحد يستطيع التنبؤ بأسعار النفط، فكيف للحكومة العراقية أن تتوقع أن سعر البرميل سيكون في أسوأ تقدير، 70 دولاراً على مدار ثلاث سنوات".
وأضاف متهكماً: "العراق لا يملك أي تأثير على قرارات ارتفاع أو انخفاض أسعار النفط، على الرغم من أنه من أكبر البلدان المنتجة للنفط، لا أعلم من أين جاءوا بهذه الثقة؟".
لكن على الجهة المقابلة، يقول أحد مستشاري السوداني الاقتصاديين، لـ"عربي بوست": "لن ينخفض سعر برميل النفط عن 70 دولاراً ونحن واثقون بذلك، بالعكس هناك احتمالات بأن يصل سعر البرميل إلى 85 دولاراً، حينها يمكن سد عجز الموازنة بكل سهولة".
غياب المشاريع الحكومية الاستثمارية
في دفاعهم عن قانون الموازنة الجديدة، قالت المصادر الحكومية المقربة من محمد شياع السوداني، والتي تحدثت لـ"عربي بوست"، في هذا التقرير، إن الموازنة العراقية الحالية تضمن تمويل العديد من المشاريع الاستثمارية الحكومية، واستكمال ما توقف من مشاريع البنية التحتية.
في هذا الصدد، يقول مسؤول حكومي لـ"عربي بوست": "السوداني حريص على زيادة حجم الاستثمارات الحكومية لزيادة فرص العمل، وحريص على تشجيع القطاع الخاص بالعمل مع الحكومة لإنجاز مشاريع البنية التحتية، هذا هو جوهر البرنامج الوزاري لحكومة السوداني".
لكن في المقابل هناك من يرى عكس ذلك تماماً، مسؤول حكومي آخر منتقد لقانون الموازنة الحالي، يقول لـ"عربي بوست"، إن "الموازنة الجديدة تفتقر إلى أي تخطيط استثماري في مجال الصناعة والزراعة، وهما من المجالات الضرورية للعراق وتقليل اعتماده على النفط".
وقال المتحدث إن "هناك أيضاً مشاكل في مخصصات الموازنة الجديدة لقطاع الكهرباء، الموازنة لم تتضمن أي بنود لتخصيصات استيراد الطاقة وتوليدها، خاصة في أوقات زيادة الطلب على الكهرباء".
لكن مؤيدي الموازنة الجديدة يجادلون بأن هناك بعض البنود في الموازنة يمكن استخدامها لزيادة الاستثمارات الحكومية، كمسؤول حكومي عراقي مقرب من السوداني تحدث لـ"عربي بوست"، قائلاً: إن "المادة الخامسة من الموازنة مخصصة لجلب الاستثمارات الأجنبية مقابل إعادة الإعمار على سبيل المثال، كما أن مخصصات صندوق تنمية العراق من الممكن أن يشارك في كثير من المشاريع الحكومية التي ستحقق الفوائد على المدى الطويل".
الموازنة وأزمة النفط مع حكومة إقليم كردستان
من الجوانب الإيجابية التي اتفقت عليها أغلب المصادر التي تحدثت لـ"عربي بوست" في هذا التقرير، فيما يخص الموازنة العراقية الضخمة الجديدة، كانت البنود الخاصة بحكومة إقليم كردستان العراق.
الخبير الاقتصادي العراقي سعدون جواد، قال لـ"عربي بوست": "من الجيد في هذه الموازنة أنه تم إدراج عائد النفط من المنطقة الكردية في الموازنة العامة لأول مرة في تاريخ العراق من بعد الغزو".
بحسب هذا البند غير المسبوق، من المفترض أن تقوم حكومة إقليم كردستان العراق بتسليم 400 ألف برميل من النفط الخاص بها، إلى شركة النفط الوطنية العراقية، بحسب الاتفاق الموقع بين أربيل وبغداد، بعد أزمة وقف الحكومة المركزية في بغداد تصدير النفط من الشمال الكردي بعد أحكام نهائية من المحكمة التجارية الدولية.
ومن المفترض أن يتم إيداع عائدات الـ400 ألف برميل الآتية من حكومة إقليم كردستان، في بنك عراقي رسمي، ويكون الحساب تحت سيطرة الحكومة الفيدرالية، لكن حتى هذا الجانب الإيجابي قد تعرض للانتقاد، سواء من جانب بغداد أو أربيل.
نائب برلماني كردي قال في حديثه لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم ذكر اسمه: "مخصصات حكومة إقليم كردستان في الموازنة الجديدة أقل مما تم الاتفاق عليه من قبل إقرار الموازنة، نواب الإطار التنسيقي قد تدخلوا لتقليص نصيب كردستان من الموازنة الفيدرالية".
جدير بالذكر أن مخصصات حكومة إقليم كردستان من الموازنة الفيدرالية تبلغ 12.4% من إجمالي الموازنة العامة، وهذا ما انتقده نائب برلماني من الإطار التنسيقي، قائلاً لـ"عربي بوست": "هذا أكثر مما تستحقه حكومة إقليم كردستان، لأنها ستحصل أيضاً على أموال من صندوق تنمية العراق، إضافة إلى أنه من غير المؤكد إن كانت ستُسلم بغداد 400 ألف برميل أم لا، إضافة إلى أنها تبيع نفطها بطرق أخرى دون الرجوع إلى حكومة بغداد".
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”