قبل أيام من انتهاء امتحانات الثانوية العامة في 13 يوليو/تموز الجاري، حاول "عربي بوست" تقييم "الماراثون" الذي انطلق قبل شهر تقريباً، باعتباره الحدث الأكبر الذي يهم ملايين المصريين الذين لهم أبناء أو أقارب في شهادة تقرير المصير.
كان أبرز ما شهدته هذه الامتحانات هو رصد حالات غش عديدة، سواء كان ذلك داخل لجان الامتحانات أو عبر المنصات الرقمية المختلفة، والتي جرى من خلالها تداول أسئلة الامتحانات وإجاباتها على نطاق واسع، بعد دقائق معدودة من بدء الامتحان، إلى جانب شبهات التسريب التي حدثت مرات عديدة، أبرزها في امتحان الفيزياء دون أن تعترف به الوزارة.
ففي إحدى لجان محافظة الشرقية، التي أعلنت فيها وزارة التربية والتعليم تسريب امتحان الكيمياء، تواصلنا مع الطالب الذي جرى ضبطه متلبساً بحيازة المحمول وتصوير ورقة الأسئلة ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وكشف لنا عن أن لجنته بالكامل كانت تصطحب أجهزة الهاتف المحمول، ومن لم يكن معه الهاتف فإن السماعات الذكية كانت بديلاً مناسباً، وأن ما دفعه للغش من خلال المحمول يرجع إلى أن جميع الطلاب كانوا يتداولون الامتحان فيما بينهم بمساعدة مراقبي اللجنة، على حدّ قوله.
جروب سري ومعلمون يُملون الإجابات
وأضاف الطالب أنه بمجرد فتح موقع التواصل الاجتماعي (التليغرام)، فإنه وجد إجابات جميع الأسئلة التي بحوزته، باستثناء سؤالين، وقام بتصوير ورقته وإرسالها على أحد الجروبات يُدعى "الجروب السري"، لكنه لم يلحظ أن "الباركود" الذي وضعته الوزارة موجوداً في الصورة، وهو ما ساهم في الوصول إليه، مشيراً إلى أنه يوجد على الهاتف المحمول الذي ضبطته وزارة التربية والتعليم لديه صور يحتفظ بها لمعلمين أثناء قيامهم بإملاء الإجابات للطلاب، والأكثر من ذلك أنهم كانوا يساعدونهم في عملية الكتابة أثناء لجنة الامتحان.
وبالرغم من إعلان وزارة التربية والتعليم عن وجود كاميرات مراقبة في جميع لجان الثانوية العامة، البالغ عددها 2100 لجنة امتحانية على مستوى الجمهورية، فإنها لم تلتزم بتركيبها. وبحسب الطالب ذاته، فإن لجنته لم يكن بها كاميرا للمراقبة، بالرغم من أنها شهدت حالات غش العام الماضي، وكانت هناك تأكيدات بتركيبها قبل بدء الامتحانات، إلا أن ذلك لم يحدث.
وأشار إلى أن "وجود ابن أحد القضاة داخل لجنته كان كفيلاً بأن تتحول إلى وكر للغش الجماعي، ولولا ضبط حالة الغش الإلكتروني لم يكن أحد سيتعرف بما يدور بها"، على حد قوله.
المشكلة الأكبر التي كشفها الطالب الذي ينتظر التحقيق معه عقب انتهاء الامتحانات، وقد يواجه عقوبة الحرمان لمدة عامين من دخول الامتحانات بحسب قانون الغش المصري، أن عملية الغش استمرت داخل لجنته حتى بعد أن جرى ضبطه، وأن الطلاب ما زالوا يدخلون اللجنة الامتحانية دون أن يتم تفتيشهم، وتبدأ عمليات الغش على نطاق واسع بعد نصف ساعة تقريباً من بدء الامتحان، وتستمر حتى نهايته.
حالات مضبوطة غير مُعلن عنها
لم تعلن وزارة التربية والتعليم سوى ضبط ما يقرب من 40 حالة غش حتى الآن، وقد يكون هناك حالات مضبوطة غير مُعلن عنها، ويمكن القول إن أبرز تلك الحالات ما جرى رصده أثناء خوض امتحان اللغة الأجنبية الأولى (اللغة الإنجليزية)، إذ ضبطت الوزارة طالبة قامت بتصوير ورقة الأسئلة مدون عليها رقم الجلوس و"الباركود" وهي علامة سرية تساعد على ضبط الغش الإلكتروني، داخل إحدى اللجان التابعة لإدارة الشروق التعليمية بالقاهرة، وجرى التحفظ على جهاز الهاتف المحمول المستخدم، وعمل محضر إثبات حالة بالوقائع المضبوطة.
الحالة الثانية كانت أثناء امتحان مادة التفاضل والتكامل، أمس الأحد، مع تداول صورة لورقة أسئلة بجوار إحدى بالوعات دورات المياه في مدرسة علي مبارك الابتدائية، التابعة لإدارة غرب الزقازيق التعليمية بمحافظة الشرقية، وقررت إحالة رئيس اللجنة في المدرسة ومراقب أول اللجنة إلى التحقيق العاجل بسبب مسؤوليتهم الكاملة عن الواقعة.
وصرّح وزير التعليم رضا حجازي، بأن الأجهزة المختصة ضبطت المسؤولين عن تصوير أسئلة امتحان مادة التفاضل والتكامل (الرياضة البحتة) للثانوية العامة، ونشرها على مواقع التواصل الاجتماعي، وإحالتهم إلى النيابة العامة لاتخاذ اللازم حيالهم، تطبيقاً لأحكام قانون مكافحة أعمال الإخلال بالامتحانات، الذي فرض عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنتين، ولا تزيد على 7 سنوات، لكل من طبع أو نشر أو أذاع أو روّج بأي وسيلة أسئلة الامتحانات وأجوبتها.
رشاوى وعروض مادية للتغاضي عن الغش
وبحسب ما أكده أحد رؤساء لجان امتحانات الثانوية العامة بمحافظة بني سويف، فإن هذا العام كان شاهداً على واقعة لم يتعرّض لها من قبل، إذ حاول أحد أولياء الأمور رشوته مقابل موافقته على تجاهل حالات الغش داخل اللجنة.
وأشار إلى أنه عرض عليه مبلغ 70 ألف جنيه مقابل السماح للطلاب بالدخول بالهاتف المحمول والسماعات والساعات الذكية، وتمرير الغش داخل لجنته، وأن هذا المبلغ قام أولياء أمور طلاب اللجنة الامتحانية بتجميعه لتسهيل الغش.
رفض المصدر الذي تحدّث بصعوبة لـ"عربي بوست"، خشية أن يتعرض لأي مسؤولية قانونية، الرشوة المقدمة له والأمر ذاته كان موقف بعض زملائه، لكنه شدد على أن آخرين لم يكن لديهم غضاضة في ذلك، وقبلوا عروضاً مثل تلك، وتفوق ذلك أيضاً.
وأوضح أن وزارة التربية والتعليم بدلاً من أن تتجه لتضييق الخناق على لجان أولاد الأكابر، ساهمت في انتشار الغش على نطاق أوسع، لأنها قبل الامتحانات قامت بتوزيع الطلاب الذين كانت المؤشرات تشير لأنهم يعقدون النية على الغش في الامتحانات وضبط حالات لمدارس قامت بتسكين أعداد هائلة من الطلاب عليها؛ رغبة منها في ضمهم إلى لجنة امتحانية واحدة، ومساعدتهم على الغش.
كاميرات لا تعمل وعصا إلكترونية تالفة
لفت المصدر إلى أن وزارة التربية والتعليم هذا العام قررت تفريق لجان أولاد الأكابر على لجان عديدة لوقف حالات الغش الجماعي التي انتشرت العام الماضي، لكن ما حدث هو أن الغش انتقل إلى لجان كثيرة بمساعدة نواب في البرلمان وقضاة وأبناء شخصيات مهمة في كل محافظة، وفشلت وزارة التربية والتعليم في ضبط الأمور إلى الدرجة التي شهدت فيها لجان وجدت فيها كاميرات مراقبة، حالات غش جماعي دون أن تتحرك الوزارة تجاهها.
ليس لدى رئيس اللجنة – الذي تحدث شريطة عدم الكشف عن اسمه – يقين من أن كاميرات المراقبة التي وضعتها وزارة التربية والتعليم في بعض اللجان تعمل أم لا، ولفت إلى أنها تكون في بعض الأحيان إجراء روتينياً لتخويف الطلاب والمراقبين، لكن من المؤكد أنها لا تعمل بفاعلية، كما أن العصا الإلكترونية التي من المفترض أن تساعد في ضبط الأجهزة الإلكترونية لم تكن تعمل هذا العام، وأغلبها تعرّض للتلف مع تعاقد الوزارة عليها منذ عدة سنوات دون أن تستبدلها بأخرى جديدة، أو تقوم بإجراء صيانة عليها.
وكان وزير التربية والتعليم المصري، رضا حجازي، أدلى بتصريحات قبل بدء امتحانات الثانوية العامة أمام البرلمان المصري، أكد فيها أنه "لن يكون هناك لجان أكابر بعد الآن، وسأحاسَب أمامكم إذا حدث لجان امتحانات تاني لولاد الأكابر".
انتشار الواسطة والمحسوبية أكبر من قدرة الوزارة
وأشار مصدر مطلع بوزارة التربية والتعليم لـ"عربي بوست"، إلى أن الجهات الحكومية سعت لإحداث حالة من الانضباط في امتحانات الثانوية العامة، لكن هناك عوامل مجتمعية أكبر من قدرة أي وزارة لضبط الأمر، مع هيمنة النزعات القبلية في المحافظات والأقاليم المختلفة، وانتشار الوساطة والمحسوبية على نطاق واسع في تلك المناطق، وهو ما يؤثر على انضباط اللجنة الامتحانية.
وأوضح أن الوزارة رصدت قبل بدء الامتحانات تجهيزات من جانب أشخاص وأصحاب مدارس وعدد من كبار أبناء القرى والمراكز المختلفة لتسهيل عملية الغش، وضبطت عدداً من رؤساء اللجان الذين حصلوا على رشاوى مقابل تسهيل عملية الغش، ويعد ذلك أكبر من حدود قدراتها.
كما أنها ضبطت مئات حالات الغش الأخرى، لكنها لم تعلن عنها، ومن المنتظر الإعلان النهائي عن عدد الحالات المحرومة من دخول امتحانات العام المقبل بسبب الغش عقب انتهاء التحقيقات.
ولفت إلى أن وزارة التربية والتعليم قامت بالإبلاغ عن صفحات الغش الإلكترونية، وهناك متابعة قوية من جانب مباحث الاتصالات لما يجري عليها وبالفعل جرى ضبط عدد من الطلاب المتورطين في تصوير أسئلة الامتحان، لافتاً إلى أن إغلاق تلك الجروبات ليس حلاً يمكن التعويل عليه لإنهاء الغش، لأن هناك عشرات الجروبات الأخرى التي تنتشر في نفس لحظة الإغلاق، وبالتالي فإن متابعة ما يحدث ورصد الطلاب الغشاشين يبقى الحل الأسلم بالنسبة لمباحث الاتصالات.
زيارات الوزير معروفة سلفاً
واتخذ وزير التربية والتعليم في مصر رضا حجازي قراراً قبل أيام بتصحيح أوراق الطلاب الذين جرى ضبطهم متلبسين أثناء الغش في الامتحانات واعترافهم بذلك داخل لجان خاصة، بعيداً عن باقي الطلاب، مشيراً إلى أن أي طلاب سيتم رصده خلال فريق مكافحة الغش الإلكتروني أثناء قيامه بالغش باستخدام الهاتف المحمول يتم التحفظ على جهاز الهاتف المحمول المستخدَم، وعمل محضر إثبات حالة بالوقائع المضبوطة.
ومنذ بدء امتحانات الثانوية العامة يقوم وزير التعليم المصري بعمل جولات على اللجان الامتحانية في المحافظات المختلفة، وهو أسلوب غير متبع من قبل، ويهدف من خلاله إلى ضبط منظومة الامتحانات، لكن، ووفقاً لأحد العاملين في مراكز توزيع الأسئلة، فإن زيارات الوزير تكون معروفة سلفاً، وأن المحافظة أو الإدارة التي يزورها يجري تجهيزها بشكل جيد لزيارة الوزير لضمان عدم وجود حالات غش أثناء زيارته.
وبحسب المصدر ذاته، فإن حالة من الارتباك تسود اللجان الامتحانية وعملية توزيع الأسئلة أثناء زيارة الوزير، وقد يكون الطلاب أكبر المتضررين من تلك الزيارات، التي تأخذ حيزاً من وقتهم أثناء أداء الامتحان، كما أن جولاته لم توقف حالات الغش، بل يمكن القول إنه بمجرد مغادرته يعود الوضع لما كان عليه سابقاً.
ويصف خبير تربوي الحالة الراهنة التي آلت إليها امتحانات الثانوية العامة في مصر، مشيراً إلى أن جذر المشكلة الرئيسية يرتبط بالتعليم العالي والبحث العلمي، لأن الثانوية العامة تُعد البوابة الوحيدة أمام الطبقة الوسطى والفقراء في مصر للالتحاق بالجامعة.
وتشير المعدلات العالمية إلى وجوب وجود جامعة لكل مليون مواطن، أي إنه من المفترض أن توجد بمصر 105 جامعات، في حين أن المتاح لا يتجاوز 60 جامعة، أغلبها بمصروفات دراسية لا يقدر عليها الكثيرون، ما يخلق مزاحمة على تلك الكليات ومزاحمة أكبر على كليات التي توصف بأنها "كليات قمة"، وفقاً لما أكده المصدر ذاته.
وشدد على أن وزارة التعليم المصرية تتعامل مع لجان أولاد الأكابر أو محاولات التسريب والغش منذ عقود على أنها سلوك مجتمعي، وأن المجتمع هو المتسبب فيها، بما فيه من عناصر فاسدة، في حين أن الحل الجذري يبدأ من زيادة الإنفاق على التعليم وتلبية الاستحقاقات التعليمية في الدستور المصري، والذي منح 4% من قيمة إجمالي الناتج القومي المحلي للتعليم قبل الجامعي، و2% للتعليم الجامعي، و1% للبحث العلمي، الأمر الذي لم يطبق على الأرض.
ولفت إلى أن وزارة التربية والتعليم المصرية بمفردها لن تستطيع مواجهة آليات السوق التي يتم فيها التعامل مع التعليم على أنه سلعة وليس خدمة، وبالتالي فهي تركت التعليم فريسة لآليات السوق غير المنضبطة، ما أفرز تعليماً حكومياً رديئاً، ينافسه تعليم خاص رديء أيضاً، ولكن بمعدلات أقل، وليس من المتوقع أن تشهد امتحانات الثانوية العامة تحسناً في الأداء مع تراجع مستوى التعليم بوجه عام، وعدم وجود آليات تساعد في كشف الفساد الموجود وفضحه بما يدفع لتحسين جودته.
ويعتقد الخبير ذاته أن المواجهة تستلزم وجود روابط طلابية قوية، ونقابة مستقلة للمعلمين، ورابط فاعلة لأولياء الأمور، ومجتمع مدني قوي يضغط على الوزارة للوصول إلى تعليم حكومي جيد، ينافسه أيضاً تعليم خاص أكثر كفاءة، وبالتالي فإن القضية أكبر من مجرد طالب يغش في الامتحانات، أو اختبار جرى تسريبه.