اختار هشام، مواطن جزائري، الذهاب لسوق "سكوار"، وسط العاصمة الجزائرية، إلى أحد تجار العملة الصعبة في السوق السوداء في الجزائر، لتحويل مبلغ مالي من الدينار الجزائري إلى اليورو، يكفيه في رحلته السياحية التي سيقضيها في أوروبا.
ذهاب هشام إلى السوق السوداء لم يكن اختيارياً لكنه مجبر عليه، رغم أن سعر الصرف في السوق السوداء في الجزائر أغلى من السوق الرسمي في البنك، إلا أن هذا الأخير لا يسمح لك بتحويل أكثر من 100 يورو (15 ألف دينار جزائري)، وهذا هو القانون في الجزائر.
ولا يُعطي القانون في الجزائر للمواطنين الحق في تحويل أكثر من 100 يورو، إذا كانوا راغبين في السفر إلى خارج البلاد، هذا المبلغ الذي يراه المواطن قليلاً جداً ولا يتناسب مع حاجات الجزائري في الخارج، الأمر الذي يدفعه للجوء للسوق السوداء.
"عربي بوست" سعى إلى معرفة أسباب اعتماد الجزائر على هذا المبلغ الصغير، رغم أن الجزائر لديها احتياطي لا بأس به من العملة الصعبة، نتيجة تصديرها للغاز إلى الخارج.
منحة غير كافية.. ولكن!
وبغرض التعمق في الموضوع أكثر، تواصل "عربي بوست" مع النائب وعضو اللجنة المالية في المجلس الشعبي الوطني الجزائري (البرلمان الجزائري)، عبد القادر بريش، الذي يشير إلى أن الجميع يتفق على أن منحة السفر التي تُعطى للسائح الجزائري في الخارج غير كافية.
ويذكر بريش أن مبلغ 100 يورو (15000 دينار جزائري) مبلغ قليل لا يلبي احتياجات السائح الجزائري في البلدان التي يزورها، ليضيف: "ربما المنحة هذه تنتهي في يومين أو 3 أيام على الٱكثر".
وكشف بريش أن "هذا الإجراء الذي اتخذته الحكومة منذ 3 سنوات، ساهم في تقليص فاتورة الواردات ومحاربة ظاهرة تحويل الأموال للخارج وتضخيم الفواتير، بالإضافة إلى رفع الصادرات خارج المحروقات الذي يعد سبباً مهماً في رفع احتياطي الصرف الجزائري الذي بلغ 64.63 مليار دولار".
ويوضح عضو لجنة المالية أن هذا المستوى من الأمن المالي من الأسباب التي حققت القرار السياسي واستقلالية القرار السيادي الاقتصادي؛ حيث أضحت الجزائر قوية في الساحة الدبلوماسية، ومؤهلة إلى أن تكون فاعلاً رئيسياً في مجموعة "البريكس" مع الكبار.
ويؤكد محدثنا أنه "لا يمكن التضحية بكل ما تم ذكره من إنجازات في الجانب المالي والاقتصادي بغرض تنفيذ قرارات شعبوية تضر بالاقتصاد على كافة الأصعدة، والواجب العمل به التريث قبل إقرار رفع قيمة منحة السفر من الجهات الوصية".
ويضيف قائلاً: "أرى أن هذا الموضوع ينبغي أن يكون متوازناً بحيث ترفع المنحة إلى مستوى يحصن كرامة السائح الجزائري، وفق منطق الدولة الذي يقتضي المحافظة على استقلاليتنا وأمننا المالي بالمحافظة على احتياطي الصرف".
وبمقابل ذلك، يلفت عضو اللجنة المالية في الغرفة السفلى للبرلمان الجزائري، إلى أن موضوع المنحة تدرسه السلطات المعنية والبنك المركزي ووزارة المالية بتأنّ وعلى كافة المستويات، ولا يمكن الحكم عليه من جانب واحد فقط.
ويتابع في السياق: "الموضوع ينظر له من زاويتين، زاوية طلبات المجتمع حقيقة، وهي واقع يجب معالجته، ومن منظور إدارة الدولة والحفاظ على الأمن المالي للدولة الجزائرية، وهذا مهم جداً".
من جهته، قال وزير المالية لعزيز فايد، خلال مناقشة القانون النقدي والمصرفي من طرف نواب المجلس الشعبي الوطني، أبريل/نيسان الماضي، إنه "فيما يتعلق برفع منحة السفر فهناك دراسة يقوم بها بنك الجزائر في هذا المجال".
وأضاف المتحدث أن "بنك الجزائر بصدد وضع النصوص التطبيقية المُتعلقة بتأسيس وسير مكاتب الصرف"، في حين لم يتم تحديد تفاصيل العملية.
سوق "السكوار".. نقطة سوداء
وغير بعيد عن غرفتي البرلمان وبالقرب من قصبة الجزائر توجد ساحة بورسعيد بالجزائر العاصمة، حيث يصطف عشرات الأشخاص وبأيديهم كل أنواع العملات الصعبة بغرض عرضها على المارين من هناك.
وتعد هذه السوق السوداء في الجزائر سوقاً موازية لبيع العملات الصعبة وقبلة للراغبين في السياحة خارج الجزائر حيث يقومون بتغيير الدينار إلى العملة التي يحتاجونها في وجهتهم السياحية، وتعرف هذه السوق السوداء لدى الجزائريين باسم "السكوار".
ويرى الخبير في شؤون المالية، نبيل جمعة، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن "سوق السكوار نقطة سوداء للاقتصاد الجزائري، ويؤثر كثيراً في التقدم في هذا المجال؛ ما يوجب على السلطات الوصية القضاء عليه نهائياً مع توفير البديل للراغبين في تغيير العملة بغرض السفر".
ويشير جمعة إلى ضرورة بيع العملة الصعبة بنسبة واحدة مع ما هو عليه في البنك المركزي الجزائري، حيث تتفاوت النسبة بين السوق السوداء والرسمية بـ35 بالمئة، وهذا بغرض الحفاظ على العملة الصعبة لتمويل البنوك ولو بطريقة غير مباشرة بالسيولة المالية الموجودة في "السكوار".
ويدعو الخبير الدولي في الشؤون المالية إلى تأسيس مؤسسة مالية تختص بتنقيط جدوى منح الأموال للمؤسسات الراغبة في الاستثمار، خاصة أن البعض منها لا يقوم بشيء سوى الاستفادة من التسهيلات المالية التي أقرها الرئيس تبون لصالح الراغبين في إنشاء مؤسسات خاصة.
ويوضح جمعة هذه النقطة بقوله: "الغاية من إنشاء هذه المؤسسة المالية تتمثل في تحديد مستحقي هذه الأموال بمعدل توزيع عادل مع استعمال مفاتيح التوزيع".
المتعاملون الاقتصاديون في انتظار الانفراج
من جهته، يبرز المستشار في الاستثمار السياحي، محمد سعيود، أن ضعف منحة السفر خلّف عدة انعكاسات على بعض المتعاملين الذين يجدون أنفسهم مضطرين للتعامل مع السوق السوداء التي تنهش جيوبهم بفعل ارتفاع قيمة التحويل على مستواها.
ويوضح سعيود في تصريح لـ"عربي بوست" أن أمل مراجعة منحة السفر من شأنه أن يضع هذه الفئة في أريحية من أمرهم، ذلك أن سفرياتهم للدول الأجنبية تتطلب لقاءات عديدة مع مختلف الشخصيات في عالم المشاريع وإقامات، خاصة من أجل البحث عما يناسب استثماراتهم ومشاريعهم.
وهو ما يتطلب مصاريف كبيرة يكون قدرها مضاعفاً كلما قلت منحة السفر وارتفعت كمية التحويلات التي يتم إجراؤها في السوق الموازية، يضيف المتحدث ذاته.
من جهته، قال أستاذ القانون، عامر رخيلة، إن الجزائر تبنت نظام "منحة السفر"، بعد انتهاج سياسة الانفتاح، إلا أن المبلغ المسموح بصرفه بالعملة الصعبة على مستوى البنوك يبقى ضعيفاً نوعاً ما.
بالمقابل، يوضح المتحدث لـ"عربي بوست" أن المسافر يحق له إخراج مبلغ في حدود 7000 يورو بعد التصريح به وإثبات مصدره، كشرط لتفادي عمليات تهريب العملة الصعبة.
ونفس الأمر بالنسبة للمتنقل للجزائر، حيث يتعين عليه التصريح بما يحمله من العملة الصعبة، وإلا عدت مخالفة جمركية تكون عقوبتها دفع 3 أضعاف المبلغ غير المصرح به.
انتعاش الوضع الاقتصادي
ويعرف الوضع الاقتصادي في الجزائر انتعاشاً فيما يتعلق باحتياطي الصرف الذي بلغ 64.63 مليار دولار بداية السنة الجارية، وفق بنك الجزائر الذي توقع تواصل ارتفاع هذا الرقم في ظل استقرار أسعار النفط من جهة، ونمو التصدير خارج المحروقات من جهة ثانية.
ويُواصل التصدير خارج المحروقات تسجيل منحنى متصاعداً، إذ ارتفع من 1,7 مليار دولار سنة 2019 إلى 5 مليارات دولار في 2021، ثم 7 مليارات دولار سنة 2022، بارتفاع سنوي مقدر بـ 30 بالمئة، حسب توضيح الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون.
أما بالنسبة لميزان المدفوعات، فتكشف آخر المعطيات التي تعود إلى نهاية سبتمبر/أيلول 2022 أن الرصيد الإجمالي لميزان المدفوعات سجل خلال السنة الماضية فائضاً بـ 11,83 مليار دولار مقابل عجز بـ 2,477 مليار نهاية سبتمبر 2021.
كما سجل الميزان التجاري فائضاً بـ 18,06 مليار مقابل عجز بـ 790 مليون دولار خلال نفس الفترة من سنة 2021.
وأوضح تقرير بنك الجزائر أن الأمر يعكس وضعية الاقتصاد الكلي للبلاد، حيث تراهن الجزائر على بلوغ 13 مليار دولار من الصادرات خارج المحروقات خلال السنة الجارية.