كشف مصدر مطلع بمجلس الوزراء لـ"عربي بوست"، أن السبب الحقيقي وراء إطلاق الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي مبادرة لتأسيس المجلس الوطني للتعليم والتدريب، يستهدف وضع استراتيجية شاملة للتعليم بجميع أنواعه، هو تقارير أمنية تم رفعها مؤخراً.
ورصدت هذه التقارير وجود حالة من عدم الرضا والسخط المجتمعي بسبب تراجع مستويات التعليم الحكومي في المدارس والجامعات، وفقدان بوصلة التطوير التي تسببت في "إهالة التراب" على خطط كان يفترض استكمالها خلال السنوات المقبلة مع إقالة وزير التربية والتعليم السابق طارق شوقي.
وأضاف المصدر المطلع على هذا الملف، أن هناك توصيات بأن ورقة تدهور التعليم ليست في مصلحة النظام المقبل على انتخابات رئاسية، لأنه سيتم استغلالها سلبياً، كاشفاً أن الفترة المقبلة ستشهد المزيد من التحركات في ملفي التعليم والصحة لاسترضاء الطبقات الفقيرة والحصول على دعمها وتأييدها.
وأوضح المصدر أن التقارير رصدت أن التعليم الحكومي والعلاج بالمستشفيات الحكومية أصبح الخيار الوحيد لملايين المصريين، الذين تدهورت حالتهم الاقتصادية بعد انخفاض قيمة الجنيه وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل غير مسبوق، وأن هؤلاء يشكلون كتلة تصويتية لا يمكن الاستهانة بها.
ويحدد المجلس الوطني للتعليم المزمع تأسيسه بتشريع يتم إقراره من البرلمان، الجهة المنوط بها وضع استراتيجيات تطوير التعليم. ووفقاً للقانون المقترح فإن المجلس يعمل على توحيد سياسات التعليم والتدريب، وتحقيق التكامل بين المؤسسات التعليمية المختلفة، والإشراف على تنفيذها، بهدف ربط مخرجات التعليم مع متطلبات سوق العمل المحلي والدولي، والعمل على النهوض بالبحث العلمي.
وفقاً للمقترح الذي قدمته الحكومة إلى الحوار الوطني، سيعمل المجلس المجلس الوطني للتعليم على إعداد التوصيات المتعلقة بالأطر الفنية والإدارية والقانونية والاقتصادية اللازمة لتطوير منظومة التعليم والتدريب، ووضع مخطط قومي لتطوير البنية التحتية لمدارس التعليم الفني، بما يتوافق مع توزيع الجامعات والمعاهد التكنولوجية، والمناطق الصناعية والمشاريع القومية، ومتابعة تنفيذ هذا المخطط مع الوزارات والجهات المعنية، وإعداد التوصيات الخاصة بالتشريعات ذات الصلة بمجالات التعليم والتدريب المختلفة.
وسيكون المجلس الوطني للتعليم أمام مهمة إصدار تقرير دوري شامل عن تطور منظومة التعليم والتدريب، بجميع أنواعه ومراحله، كل عامين، بالتعاون مع الهيئات المختصة بضمان الجودة والاعتماد، يقدم إلى مجلس الوزراء ومجلس النواب، وسوف يختص أيضاً بإقرار استراتيجية خاصة بالبحث العلمي، بهدف دعم بيئة الابتكار ونقل التكنولوجيا وإنتاج المعرفة والتعاون مع المؤسسات والمنظمات الدولية والأجنبية العاملة في مجال التعليم، وعمل الشراكات اللازمة لتطويره.
المجلس الوطني للتعليم.. التخفيف عن كاهل الحكومة
مصدر مطلع بوزارة التربية والتعليم قال لـ"عربي بوست" إنها ليست المرة الأولى التي تتجه فيها مصر لإنشاء مجالس تستهدف وضع سياسات لتطوير التعليم، فهناك المجلس الأعلى للجامعات، والمجلس الأعلى للتعليم قبل الجامعي.
وسبق أن عين الرئيس عبد الفتاح السيسي مستشاراً لشؤون تطوير التعليم، والذي شغله من قبل الوزير السابق طارق شوقي، وفي ذلك الحين دخل في خلافات مع وزير التعليم آنذاك الهلالي الشربيني، قبل إقالة الأخير وتعيين شوقي على رأس الوزارة.
ويحظى المقترح بموافقة واسعة من جهات ومؤسسات تعليمية عديدة، غير أن الأزمة تكمن- وفقاً لمصدر مطلع شارك في جلسات النقاش الخاصة بإقراره داخل أروقة الحوار الوطني- في أن الحكومة التي تقدمت بالمقترح ليست لديها رؤية واضحة بشأن آليات عمله وضمان استقلاليته، وكيفية توفير الموارد المالية اللازمة لكي يحقق أهدافه وخططه المستقبلية.
وأضاف المصدر ذاته: "يبقى المقترح كأحد أدوات التخفيف عن كاهل الحكومة التي تتحمل فشل سياسات التعليم وإلصاقها بهيئة أو مؤسسة جديدة، والدوران من جديد بدوائر مفرغة دون الوصول إلى مهمة تطوير التعليم، تحديداً وأن هناك رؤيتين سبق أن تم إقرارهما بقدر من التوافق المجتمعي حول التطوير، لكن لم يتم تنفيذهما لأسباب مختلفة.
كانت الخطة الأولى واضحة، وتتعلق بالوصول إلى نهاية مراحل التطوير في العام 2030، ووضعها وزير التعليم الأسبق محمود أبو النصر في العام 2015. أما الخطة الثانية، بحسب المصدر، فإنها تتمثل في الإجراءات العملية التي اتخذها الوزير السابق طارق شوقي، وبدأت من منظومة تطوير الصفوف الأولى، وشملت أيضاً تطوير الثانوية العامة، وكان من المفترض استكمالها أو إدخال تعديلات بسيطة عليها لإصلاح بعض الأخطاء التي ظهرت أثناء تنفيذها، لكن ذلك لم يحدث على الأرض.
وكشف المصدر لـ"عربي بوست" أنه بمجرد إقالة الوزير جرى الانقضاض على خطته، وكان من الممكن أن تُسهم الحكومة في ضبط بوصلة الوزير الحالي رضا حجازي، حتى لا تكون مضطرة للبدء من أول الطريق مجدداً إذا ما جرى تأسيس مجلس وطني للتعليم، ووضع خطط مغايرة عن التي يتم تنفيذها حالياً.
واتَّخذت وزارة التربية والتعليم في مصر مجموعة من خطوات التطوير التي بدأت في العام 2018 بتطوير منظومة الصفوف الأولى من مرحلة رياض الأطفال، ووصولاً إلى الصف الثالث الابتدائي، وفي ذلك الحين جرى وضع فلسفة جديدة، ومناهج مبتكرة، وهدم المنظومة القديمة بأكملها، وواجهت تلك الخطة صعوبات على المستوى المادي بشأن تدريب المعلمين وتوفير أماكن لتوصيل فلسفة المناهج الجديدة إلى الطلاب، والآن يتم تطبيق المنظومة حتى الصف الخامس الابتدائي.
كما أقرت وزارة التربية والتعليم استخدام "التابلت" في العملية التعليمية وإجراء الامتحانات به بالنسبة لطلاب المرحلة الثانوية، غير أن تلك التجربة واجهت مشكلات على مستوى توفير الإمكانية التقنية والبنية التكنولوجية التي تساعد على إجراء الامتحانات إلكترونياً.
لكن الوزارة ابتكرت أسس تقويم متقدمة بدلاً من الاعتماد الكامل على الحفظ في السابق، وبحسب العديد من الخبراء فإن التجربة يمكن إدخال تعديلات عليها حتى تكون أكثر فاعلية.
الحوار الوطني.. أشرف الشيحي عن سياسات التعليم: ياريت نكمل وبلاش كل مرة نقطع ونرجع من أول السطر
— Shorouk News (@Shorouk_News) May 31, 2023
التفاصيل
https://t.co/PLUY0FwjV3 pic.twitter.com/TLmgXr7eJ8
تجاهل الالتزام الدستوري باستحقاقات التمويل
وواجه قانون تشكيل المجلس الوطني للتعليم والتدريب اعتراضاً من جانب عدد من الأكاديميين، بينهم وزير التموين السابق وأستاذ الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة جودة عبد الخالق، الذي أشار إلى أن مشروع قانونه تجاهل الالتزام الدستوري باستحقاقات التمويل التي تصل في التعليم العادي والجامعي والبحث العلمي إلى 7% من إجمالي الناتج المحلي، في حين تشير أرقام مشروع الموازنة العامة للدولة لعام 2023-2024، إلى أن المخصص للتعليم بكل مراحله أقل من 2%.
ويوضح قائلاً: "مهما أتقنا صياغة مجالس، ومهما تجادلنا حول التسمية الصحيحة، ومهما جادلنا في الاختصاصات، سنصطدم بصخرة عاتية جداً، ألا وهي صخرة نقص التمويل. وبالتالي هذا الجزء لا بد أن نتوقف عنده، لماذا هذا التباطؤ في توجيه الموارد؟ أما النقطة الثانية فهي تتعلق بحرية البحث العلمي، حيث لا تستطيع كلية الاقتصاد والعلوم السياسية تنظيم مؤتمر ولا سيمينار، ولا حتى محاضرة لضيف من خارج الجامعة له وزنه في مجاله، إلا بعد إجراءات طويلة يهيمن عليها الأمن".
تكرار تجربة الهيمنة على الجامعات في الستينيات
وتساءل أحد وزراء التعليم السابقين عن الهدف الرئيسي من المجلس الوطني للتعليم، وهل يرتبط برسم السياسات، أم توحيد السياسات بين وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي والبحث العلمي، وما إذا كانت مهمة المجلس بالأساس رقابية أم تنفيذية؟
ولفت إلى أن مجالس التعليم المستقلة تتواجد في كثير من دول العالم، لكن نجاحها في مصر يرتبط بمدى قدرة الدولة على مجاراة الشروط التي تتبعها تلك الدول لتطوير التعليم، وفي القلب منها إبعاد التعليم عن السياسة بشكل كامل، بمعنى أن يكون المجلس مستقلاً ولا يتبع لأي جهة تنفيذية، حتى وإن كان رئيس الجمهورية، وإلا سيكون إعادة لتجربة المجلس الأعلى للجامعات، الذي دشنته السلطة المصرية في ستينيات القرن الماضي للهيمنة على الجامعات.
خلال ندوة "مصر الحديثة" عن التعليم في ظل مقترحات الحوار الوطني ..
— حزب مصر الحديثة Masr EL-hadytha (@masrelhadisa) June 8, 2023
رفعت فياض : نموذج ألمانيا يستحق الدراسة.. والأسرة المصرية تنفق 136 مليار على الدروس الخصوصية#حزب_مصر_الحديثة pic.twitter.com/GREi44yr4a
وأكد الوزير السابق لـ"عربي بوست" أن نجاحه يرتبط أيضاً بتشكيله من خبراء في مجال التعليم، متفرغين وليس قيادات وزارية أو مستشارين لجهات سيادية، حتى لا يكون المجلس شكلياً يعتمد بالأساس على عقد اجتماعاته على فترات متباعدة، كما أن المجلس سيكون عليه أن يعرض تقريره بشكل سنوي إلى البرلمان لعرض ما حدث على أرض الواقع من تطور، وأن يتزامن مع ذلك إجراء حوارات مجتمعية بشأن خطط التطوير، حتى تكون ملزمة لجميع الوزراء.
وما دام المجلس الوطني للتعليم سيتم تشكيله في ظل وجود خطط سابقة للتطوير ما زالت تنفذ على الأرض، فسيكون عليه أولاً إجراء تقييم موقف ودراسة وافية لأوضاع التعليم الحالية، وفقاً للقيادي التنفيذي السابق، الذي شدد على أنه سيكون بحاجة لتحديد هدفه الرئيسي من التطوير ومدى جودته وتكلفته، والأمر هنا لا يتعلق فقط بالتكلفة المادية، لكن الأهم من ذلك التكلفة البشرية واختيار الكفاءات من المعلمين، مع ضرورة وضع خريطة جغرافية للتعليم في مصر.
غياب التعليم الحكومي الأساسي
وتختفي المدارس الحكومية من بعض المناطق الجديدة والكمبوندات التي تنتشر على أطراف القاهرة الكبرى، ويتم الاكتفاء فقط بالمدارس الدولية أو الخاصة، ما يعني غياب التعليم الحكومي الأساسي. ووفقاً للوزير السابق فإن المنتجع الذي يقطنه لا توجد به مدرسة حكومية، في حين أن ذلك حق يفرضه الدستور للأغنياء والفقراء معاً، وأول مدرسة تبعد عن منزله ما يقرب من 10 كيلومترات.
ومن المقرر أن يتشكل المجلس الوطني للتعليم من 27 عضواً، ويرأسه رئيس مجلس الوزراء، ولديه 12 اختصاصاً، ويضم الوزير والخبير وشخصيات من القائمين على العملية التعليمية ذاتها وجودتها، وسيكون من مهامه أيضاً وضع خطة توسيع القاعدة الإنتاجية للدولة، وتقليل الواردات برفع كفاءة العمالة الفنية، وتشجيع الشباب على أنشطة التعليم الفني، وإعداد الكوادر لتلبية تغيرات قطاع العمل الجديدة، خاصةً مع إشراك القطاع الخاص ورجال الأعمال.
وتطرّقت المناقشات حول تشكيل المجلس الجديد، ليتضمن أيضاً وجود هيئة تابعة له تضم أصحاب المصلحة المعلمين والطلاب وأولياء الأمور، وممثلين عن الشركات والمصانع للتعليم الفني، والمزارعين للتعليم الزراعي، وبذلك يمثل كل أطراف المجتمع، إلى جانب تمثيل أولياء الأمور من خلال اختيار من مجلس الآباء، واتحادات الطلاب ترشح واحداً، والنقابات ترشح، كل طرف يرشح ممثلاً عنه، وأن يكون تابعاً لرئيس الجمهورية فقط، وعدم دخول موازنته مع موازنة التربية والتعليم، وتكون قراراته ملزمة للجهات المعنية.
التعليم ليس من أولويات السلطة الحاكمة
وقال خبير تربوي، إن مصر بحاجة إلى مجلس أعلى يضع السياسات والتصورات الخاصة بتطوير التعليم، على أن يبقى قانون ذلك المجلس مرتبطاً بقانون أشمل لتطوير التعليم، تلتزم بتنفيذه الوزارات والهيئات التعليمية في مصر، مع إنهاء تداخل الاختصاصات في تلك الجهات التي تتولى عملية وضع السياسات وتنفيذها والرقابة عليها.
واقترح أن يشارك في المجلس عدد من الوزراء والخبراء ونواب البرلمان الممثلين عن الشعب، ممن لديهم دراية بمسألة تطوير التعليم إلى جانب نقابة المعلمين، بما يُسهم في وضع تصورات لا تتجاهل رؤية المجتمع للتطوير، على أن يعرض المجلس سياساته على البرلمان ورئيس الجمهورية، مع ضرورة تدشين هيئة رقابية تابعة له أو مستقلة، تتولى عملية متابعة ما يحدث على أرض الواقع من تطور.
لا يتوقع المصدر نجاح المجلس المزمع تشكيله، موضحاً أن وضع رؤى التطوير يرتبط بمدى وجود إرادة سياسية، تضع التعليم على رأس أولويات السلطة الحاكمة في مصر، وهذا ليس متوفراً، فضلاً عن نقص الاعتمادات المالية اللازمة للتطوير، وكالعادة سيكون هناك وزراء تنفيذيون لعرقلة مهامه، سواء أكان ذلك على مستوى توفير التمويل اللازم الذي سيواجه اعتراضاً من وزير المالية، أو ما يتعلق ببعض سياسات التطوير التي تواجه معارضة من وزراء التعليم.
وشهدت الجلسة النقاشية التي عقدتها لجنة التعليم في الحوار الوطني هذا الأسبوع، توافقاً حول مشروع قانون إنشاء المجلس الوطني الأعلى للتعليم والتدريب، المُحال من مجلس الوزراء إلى الحوار الوطني، لمناقشته قبل إحالته لمجلس النواب.
وقال المنسق العام للحوار الوطني، ضياء رشوان، إن مجلس أمناء الحوار يرفع كافة الاقتراحات التي من شأنها أن تتبلور في قوانين تلبي الأغراض المنوطة بها إلى رئيس الجمهورية، لاتخاذ قراره فيها، سواء بإرسالها إلى جهات التشريع أو غيره، للتنفيذ، وكان قرار إنشاء المجلس الأعلى للتعليم والتدريب، هو أول المشاريع المحالة من الحوار الوطني للحكومة المصرية.