طور أهالي غزة مع كل عدوان إسرائيلي على القطاع بعض العادات والممارسات التي تقلل من الضرر النفسي والجسدي الواقع عليهم، جراء قصف الاحتلال الذي من الممكن أن يصيب أياً منهم في أي وقت دون سابق إنذار.
منذ فجر الثلاثاء، تنفذ طائرات إسرائيلية هجمات على غزة أسفرت عن مقتل 33 فلسطينياً، بينهم 6 من قادة "سرايا القدس"، فيما بدأت الفصائل الفلسطينية، الأربعاء، بالرد برشقات صاروخية وصلت إلى تل أبيب ومدن إسرائيلية في الأراضي المحتلة.
وإذ يدرك الفلسطينيون إمكانية استهدافهم أو استهداف جيرانهم في أي وقت، فإنهم يحتفظون بمقتنياتهم الثمينة وأوراقهم الرسمية في مكانٍ واحد، حتى يتمكنوا من أخذها معهم سريعاً في حالة الإخلاء، كما يُبقون أطفالهم بجانبهم طوال الوقت.
تقول نورا وحيدي لموقع Middle East Eye البريطاني، الجمعة 12 مايو/أيار 2023، إنها تعيش في حالةٍ من التوتر كبقية الفلسطينيين مع تحليق المقاتلات الإسرائيلية في الأجواء فوق قطاع غزة المحاصر كل مساء، وبالتزامن مع شن عمليات قصف مدمرة على المناطق المكتظة.
وأوضحت نورا: "نضع كل الأشياء في حقيبة واحدة أُطلق عليها اسم حقيبة الطوارئ. ونحتفظ داخلها بكل أوراقنا الرسمية ومقتنياتنا مثل بطاقات الهوية، وشهادات الميلاد، والعقود، والذهب، والنقود".
بينما يختار آخرون الاحتفاظ بوثائقهم ومقتنياتهم الثمينة في أماكن آمنة أخرى خارج المنزل، وذلك عندما يشعرون بأن حيهم معرض للتهديد.
حيث تحتفظ هالة السقا (31 عاماً)، المتزوجة وتعيش بعيداً عن أهلها، بكل ذهبها ووثائقها الرسمية في منزل والديها.
وأوضحت السقا: "تعرّض حيي للاستهداف عدة مرات خلال الهجمات السابقة. كما تعرض برج سكني قريب للقصف في عام 2021. لهذا أشعر بأنني مهددة طوال الوقت وأن بنايتنا والبنايات المجاورة قد تتعرض للقصف في أي لحظة".
عادات للصمود
تعلّم الفلسطينيون أن إبقاء النوافذ والأبواب مفتوحةً أثناء القصف يساعد في تخفيف ضغط الهواء ويقلل فرص تحطُّم الزجاج، وذلك عندما أصبح القصف الإسرائيلي حدثاً متكرراً.
وقالت دينا باسل (33 عاماً)، إنها عايشت الغارات الجوية للمرة الأولى كطفلة في التسعينيات. لكن القصف المشابه يحدث أيضاً منذ الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين عام 1967، وقد مررت لها جدتها بعض النصائح الحكيمة في هذا الصدد.
وأوضحت: "كانت تقول لنا كلما بدأ الهجوم: (أطفئوا الأنوار وافتحوا النوافذ والأبواب). إذ كانوا يظنون أن إظلام البنايات والأحياء سيزيد صعوبة استهدافها بواسطة الطائرات الحربية. وقد لا تنفع هذه الحيلة اليوم في وجود الأسلحة المتطورة للغاية لدى الاحتلال، لكننا نفعل ذلك أحياناً".
أضافت دينا: "لن يشعر أحدٌ بالأمان إذا ترك بابه مفتوحاً دون أن يوصده. لكن علينا إبقاء الباب في هذا الوضع أثناء الهجوم، حتى نتمكن من الفرار بسرعةٍ وسهولة في الأساس، وحتى نسهل على فرق الإنقاذ دخول منزلنا إذا تعرضنا للقصف في أي وقت. وهذا الأمر إلزاميٌّ حتى في الليالي الأكثر برودة".
وفي محاولةٍ لتجنب الخسارة المؤلمة لأفراد العائلة، تميل العائلات الغزاوية إلى عزل أنفسها داخل غرفةٍ واحدة أثناء القصف.
وتقول دينا: "نجتمع داخل غرفة واحدة عندما يبدأ القصف. وإذا كنا محظوظين بما يكفي للبقاء على قيد الحياة، فسنعيش معاً. أما إذا متنا، فسنموت معاً دون أن يشعر أحد بمرارة الفقدان. هذه هي ثقافتنا".
وتؤكّد هذه المشاعرَ إيمانُ البشير، مُعلِّمة اللغة الإنجليزية في مدرسةٍ تابعة لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بمدينة غزة.
حيث قالت للموقع البريطاني: "أول شيء أفعله هو ما تفعله كل عائلةٍ في غزة، بغض النظر عن خلفيتها أو موقعها. إذ نبحث عن غرفة آمنة ونجتمع داخلها معاً. إذ يساعد تجمع العائلة في تخفيف التوتر، ولا شك في أن لدينا تلك الفكرة المشتركة التي تقول إننا إذا متنا؛ فسنموت معاً".
عادات ما قبل النوم
نظراً إلى الخوف من الموت أو الاضطرار إلى الفرار في أي لحظة، تميل العديد من نساء غزة إلى ارتداء "إسدال الصلاة" أثناء النوم، ليتحول الإسدال إلى "زي حرب" يغطي الرأس والجسم معاً. وتحتفظ النساء بالإسدال في متناول أيديهن إذا لم يرتدينه في السرير.
وأوضحت نادية سعيد، الموظفة في إحدى منظمات المجتمع المدني: "أرتدي إسدال الصلاة استعداداً للإخلاء عندما أشعر باقتراب القصف. وأحاول أن أرتديه في معظم أوقات اليوم، لأن المرء لا يعلم متى سيتم استهدافه. وعندما أرغب في النوم أثناء توتر الأوضاع، فسوف أنام مرتديةً إسدال الصلاة حتى لو كان الجو حاراً جداً. لا أريد أن أموت أو أغادر منزلي مرتديةً الملابس القصيرة".
بينما قالت إيمان بشير إن عاداتها أثناء القصف تغيرت كثيراً بعد الأمومة.
وأوضحت والدة الأطفال الثلاثة: "أصبحت الحقيبة التي اعتدت إعدادها أكبر حجماً اليوم، وتحتوي على شهادات الأطفال، والحفاضات، وحليب ريتا، والملابس".
لكن إيمان ذكرت أن المهمة الأصعب تتمثّل في العثور على إجابات لتساؤلات أطفالها المُلحة.
وأردفت: "أقول: (إنها ألعاب نارية)، ولا يصدقونني دائماً. إذ يسألون: (حسناً، بم يحتفلون؟) أو (لماذا لا تتمتع الألعاب النارية بألوان متعددة؟) أو (لماذا لا تسمحين لنا بمشاهدتها من النافذة؟)".
وأضافت: "لا بد أن تعثر على أكاذيب مقنعة إذا خانك واقعك"، وقد عثرت دينا باسل على طرق أخرى لتشتيت انتباه أطفالها أثناء المواقف المتوترة.
حيث قالت: "نحن نحتفل بالقصف. وكلما سمعنا صوت انفجار قوي، نبدأ في الهتاف والتصفيق كأنه حدث مبهج. ولا نريد أن نبدو خائفين أو قلقين؛ حتى لا يشعر الأطفال بالتهديد والقلق. ولهذا نحول الموقف إلى عكسه".
وعندما تُعلن السلطات الإسرائيلية بدء عملية عسكرية في القطاع المحاصر، يسارع السكان إلى متاجر السوبر ماركت والمخابز القريبة لشراء ما يصفونها بـ"بقالة الحرب".
تشمل بقالة الحرب المواد الغذائية الأساسية كالخبز، والطعام المعلب، والأرز، والمعكرونة، والبقوليات. وإذا كانت المخابز مغلقة، فسوف تخبز العائلات خبزها بنفسها. ولهذا يحرصون على تخزين كميات كبيرة من المكونات الضرورية.
بينما يتعين على من لديهم أطفال أن يوفروا منتجات أخرى مثل الحفاضات، والحليب، والأدوية.
إذ قال أحمد سالم، وهو أبٌ لطفلتين، للموقع البريطاني: "تحتل الأدوية الخافضة للحرارة وأدوية السعال رأس قائمتي. ويجب على الآباء الذين يعاني أطفالهم من أمراض مزمنة أن يوفروا لهم أدويةً تكفي للأسابيع أو الأشهر المقبلة".
ويحاول الفلسطينيون العثور على طرق لتخفيف التوتر وخلق روتين جديد إذا اضطروا إلى البقاء في المنزل، خاصةً إذا كانوا من المعتادين على قضاء غالبية وقتهم في الخارج.
حيث تشتري نادية سعيد كميات كبيرة من رقائق البطاطس والمقرمشات، وتشاهد المسلسلات التلفزيونية؛ لإبعاد تركيزها عن صوت القصف.
وقالت للموقع البريطاني: "أعثر على مسلسلٍ جديد على الإنترنت وأحاول أن أشغل نفسي بمشاهدته طوال اليوم. وأرتدي سماعات أذني لأعزل نفسي عن الواقع. لا بد أن نعثر على طريقةٍ ما حتى لا نموت من التوتر".