شهدت الليلة الهادئة الأخيرة في العاصمة السودانية الخرطوم، عشاء ضم مبعوثين أجانب وكلاً من عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو "حميدتي"، قبل ساعات فقط من صباح شهد أعنف اشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وذلك بحسب ما كشفته صحيفة The New York Times الأمريكية، الأربعاء 19 أبريل/نيسان 2023، في أحدث معلومات عن ساعات الاشتباك الأولى وتفاصيلها التي يكتنفها الغموض وسط تبادل الاتهامات وغياب المصادر المستقلة.
بحسب الصحيفة الأمريكية، فقد شهدت ليلة الجمعة 14 أبريل/نيسان، جلسة مفاوضات بين الطرفين بحضور مبعوثين أجانب، قُطعت خلال ذلك وعود، وانتُزعت تنازلات، قبل أن يتناولا العشاء معاً في منزل أحد كبار القادة العسكريين، لكن الأمر كان مختلفاً في الشوارع، فقد كانت الآلات العسكرية تتأهب للقتال.
حيث في الليل، تدفقت القوات بهدوء على معسكرات الجيش التي سيتنازع الطرفان السيطرة عليها في جميع أنحاء العاصمة الخرطوم، وحدَّد كل طرفٍ الهدف الذي سيهاجمه لدى الطرف الآخر مثل فريقين متنافسين قبيل مباراة لكرة القدم.
حاصرت قوات الدعم السريع قاعدة كانت تؤوي طائرات حربية مصرية. وما إن حل صباح السبت 15 أبريل/نيسان، إلا وانطلقت أولى الأعيرة النارية، وتبدَّدت معها على الفور محاولات التظاهر بالحوار.
اندلعت الاشتباكات، فتبادلَ الطرفان اللوم والاتهامات حول البادئ منهما بالقتال وكيفية حدث ذلك.
يقول مراقبون إن المسؤولين الأجانب أذعنوا لعناد القائدين العسكريين وتهديداتهما المتوالية منذ الانقلاب على المدنيين والاستيلاء على السلطة في أكتوبر/تشرين الأول 2021، وقد أخذا يهمشان طوال الوقت القوى المؤيدة للديمقراطية في السودان المحاصر بالأزمات.
في هذا السياق، قالت خلود خير، المحللة السياسية السودانية، إن "القادة العسكريين لم يُساءَلوا عن أي شيء فعلوه"، ولم يُحاسَبوا على "عمليات الاختطاف، والإخفاء القسري، والمحاكمات الصورية، والاعتقالات غير القانونية؛ فقد تغاضى المسؤولون الدوليون عن كل ذلك بدعوى المضي قدماً في العملية السياسية التي آلت الآن إلى انحراف فظيع عن مسارها".
مفاجأة "فظة"
لم يكن القائدان العسكريان على خلاف دائم كما قد يبدو الآن، بل واقع الأمر أنهما خدما معاً تحت لواء عمر البشير. وفي أكتوبر/تشرين الأول 2021، جمعا قواهما للاستيلاء على السلطة، وأطاحا برئيس الوزراء المدني عبد الله حمدوك.
كان انقلاب أكتوبر/تشرين الأول 2021، مفاجأة فظة للمبعوث الأمريكي الخاص لشؤون منطقة القرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، الذي كان قد اجتمع بالبرهان وحميدتي قبل الانقلاب بعدة ساعات، وأكدا له خلال ذلك أنهما لا يسعيان إلى الاستيلاء على السلطة.
مع ذلك، لم يكلفهما خداع المبعوث الأمريكي والانقلاب على السلطة المدنية ثمناً كبيراً، فالمسؤولون الغربيون لم ينبذوهما، بل سارعوا بالتودد إليهما ومسايرة انقلابهما؛ أملاً في التمكن بعد ذلك من إبعادهما عن السلطة. وقال مسؤول أمريكي سابق مطلع على تلك المحادثات، إن العقوبات التي هددت الولايات المتحدة على استحياء بفرضها على مصالح حميدتي الاقتصادية في الخليج، لم تُفرض قط.
لكن الخلافات دبَّت بين البرهان وحميدتي بعد ذلك، فقد أعرب الأخير عن مخاوفه من اختراق الإسلاميين، وعلى رأسهم الموالون لنظام البشير، للجيش. وبدأت المخابرات العسكرية، التي يسيطر عليها البرهان، بإخبار المسؤولين الأجانب بأن منافسه حميدتي يحاول استيراد طائرات مسيرة مسلحة لتعزيز قوته العسكرية.
وفي الوقت نفسه، كان التنافس مرتبطاً بتوترات عميقة داخل الأجهزة التي يسيطر كل منهما عليها، فقد كان جنود الجيش يزدرون حميدتي وقواته شبه العسكرية، لأنهم يرونهم "حفنة من المجاهيل المدَّعين، وليسوا بجنود عسكريين حقيقيين"، على حد تعبير أحد السفراء الغربيين.
في المقابل، امتعضت قوات الدعم السريع من هذا التمييز الذي تصوروا أنهم يتعرضون له، ورأوا أن الوقت قد حان ليتولوا هم السلطة في الخرطوم. وقال محمد هاشم، وهو صحفي أجرى مقابلات مع قادة قوات الدعم السريع في الإذاعة الحكومية السودانية، إنهم "كانوا متلبسين بعقلية الضحية، التي تتعرض لتمييز الناس، وسخريتهم، واتهامهم بأنهم ليسوا سودانيين".
في ديسمبر/كانون الأول 2022، وافق القادة العسكريون السودانيون تحت ضغط من دول غربية وإفريقية وعربية، على إعادة السلطة إلى حكومة يقودها مدنيون. لكن التوافق استدعى أولاً الاتفاق على قضايا رئيسية، أبرزها اندماج قوات الدعم السريع في الجيش، وهو أمر كان من المتوقع أن يُفقد حميدتي كثيراً من قوته، لأنه يعني تفكيك قوات الدعم التابعة له.
على أثر ذلك، انفجرت التوترات بين الجانبين وانتقلت إلى العلن. وقال مسؤول غربي كبير إن حميدتي مُنع في وقت ما، من دخول اجتماع مهم كان يرأسه البرهان في القصر الرئاسي، ولم يُسمح بدخوله "إلا بعد إيقافه مدةً في الخارج، واضطراره إلى طرق الباب فعلياً".