تعد قصبة دلس التاريخية واحدة من بين أهم المعالم التاريخية في الجزائر عامة وفي محافظة بومرداس شرق العاصمة الجزائرية خاصة، كأقدم المدن في البلاد على مر تاريخها
صُنفت تراثاً وطنياً منذ عام 2007، إلا أنها تعاني من تآكل بناياتها الفريدة بفعل الزلزال العنيف الذي ضرب محافظة بومرداس عام 2003 وعوامل طبيعية أخرى، ولكن دون ترميم.
"عربي بوست" انتقل إلى هذه المدينة الضاربة في عمق التاريخ، ونقل عبر هذا التقرير ما يميزها عن قصبات الجزائر، ليسلط الضوء على حالتها ويثير الانتباه إلى الاهتمام بها.
أمير ألمرية في الأندلس وتأسيس قصبة دلس
على بعد 105 كيلومترات شرق العاصمة الجزائرية، تقع مدينة دلس التاريخية التي مرت عبرها العديد من الحضارات، التي جعلت منها قطباً سياحياً لدى الجزائريين الذين يتوافدون عليها من ولايات الجمهورية الـ58، بغرض التمتع بتاريخها، والغوص في أحداثه التي بدأت منذ عهد القرطاجيين ولا زالت.
يقول مسؤول الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحلية في دلس، فريد قريمش، لـ"عربي بوست"، إن قصبة دلس تأسست على يد أمير إمارة "ألمرية" في الأندلس يدعى معز الدولة بنو صمادح عام 1068 ميلادي أو عام 1102 ميلادي. وألمرية مدينة أندلسية إسبانية.
يشير قريمش إلى أن التاريخ الأقرب للصحة هو عام 1102، موضحاً: "بنو صمادح الأندلسي فرّ من المرابطين إلى بجاية ولما وصل إلى مدينة بجاية التي كانت عاصمة الدولة الحمادية، استقبله حافظ الدولة الحمادية في بجاية وأعطاه حرية الاختيار، الذي اختار دلس وقام ببناء النواة الأولى للقصبة".
ولأن القصبتين العليا والسفلى قريبتان من البحر المتوسط، ذكر المسؤول الثقافي المحلي أنهما كانتا كتلة واحدة وقصبة واحدة قبل دخول الاستعمار الفرنسي إلى مدينة دلس سنة 1844، إلى أن تقرر تقسيمها بغرض شق طريق في الوسط، وهو ما يعرف اليوم بالطريق الوطني رقم 24.
عمد الاحتلال الفرنسي إلى إزالة كل المباني التي كانت موجودة في الجهة الجنوبية بما فيها الجامع، وتم بناء منشآت عسكرية فرنسية مكانها، إلى جانب استحداث مبان جديدة وسط القصبة.
طابع معماري خاص
الدويرات بنايات ذات طابع خاص، ظلت شامخة رغم الزلزال المدمر الذي ضرب محافظة بومرداس سنة 2003 في الجزء العلوي والسفلي.
يوجد للدويرات مميزات خاصة، ولها معالم دينية وتاريخية في داخلها.
بهذا الخصوص، يشير قريمش، إلى أن دويرات قصبة دلس يوجد فيها طابع معماري فريد من نوعه، لكونه خليطاً ومزيجاً من الطوابع المعمارية.
فسّر هذه النقطة بالقول: "نجد الطابع المحلي البربري، والطابع الأندلسي؛ لأن مؤسس هذه القصبة أمير أندلسي. دون أن ننسى الطابع المعماري العثماني؛ لأنه بعد دخول العثمانيين سنة 1515-1516 مدينة دلس، وجدوا القصبة قائمة بذاتها، لكنهم أضافوا طابعهم المعماري في منازل وأرجاء القصبة".
إلى جانب ذلك، يبرز كذلك طابع البحر الأبيض المتوسط الذي يتجلى في الأزهار والنباتات التي تغرس في البيوت.
في إجابة عن سؤال متعلق بالفرق بين الطابع المعماري بين قصبة دلس والجزائر، يوضح قريمش أنه يوجد بعض التشابه بين منازل القصبتين، في حين أن الفرق يكمن في أن منازل قصبة دلس تحتوي على قرميد، بينما قصبة الجزائر تحتوي على سطوح.
وأهم فرق بين دويرات قصبة دلس والجزائر، هو "الرياض" الذي تمتاز به قصبة دلس الأندلسية، وهي عبارة عن بساتين في المنازل تلجأ إليه العائلات بغرض الزراعة، أو تلتقي فيه النسوة من أجل تبادل أطراف الحديث.
في سرده للفروق أشار محدثنا إلى أن قصبة دلس كلها منازل بسيطة، أما قصبة الجزائر ففيها قصور وفيّات ذات طابع عثماني خاص، بالإضافة إلى أن قصبة دلس أكبر من قصبة الجزائر عمراً، ولكنها أصغر منها مساحة.
خير الدين بربروس
وسط سيرنا في الأزقة المزينة بالأزهار المختلفة والعريش (نوع من العنب ينمو في البيوت)، قابلنا بيتاً مهجوراً قريباً من الواجهة البحرية للقصبة، يقال إن مالكه كان خير الدين بربروس، أشهر البحارين العثمانيين الذي حكموا في الجزائر إبان حقبة الخلافة العثمانية.
يلفت مسؤول الديوان الوطني لتسيير واستغلال الممتلكات الثقافية المحلية دلس إلى أنه بعد دخول العثمانيين لمدينة دلس سنة 1515، أضحت العاصمة الشرقية لأيالة الجزائر تحت قيادة وحكم البحار العثماني خير الدين بربروس، الذي استقر فيما يسمى الآن القصبة السفلى المطلة على الميناء.
ويضيف أن مدة إقامة بربروس في دلس غير معروفة، في حين أن البيت الذي يقال إنه كان ملكه "يبقى حديثاً متداولاً منذ القدم بين سكان المدينة التاريخية".
يشدد في هذا السياق على أنه "لا يوجد أي دليل علمي أو تاريخي يؤكد ذلك، لكن عند العودة إلى طبيعة المنزل، نجد أنه مبنيّ خلال الفترة الاستعمارية الفرنسية، لذلك فإن الفرضية الأقرب للصواب هي أن بربروس سكن في ذلك المكان لكن في منزل آخر بني عليه المنزل الحالي، بعدما هدم منزله".
الأمير عبد القادر وأهل قصبة دلس
مكث الأمير عبد القادر بن محيي الدين (الجزائري) مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، في دلس أياماً عدة عام 1840، لتجنيد سكان المنطقة في صفوف المقاومة لمواجهة الاحتلال الفرنسي الذي احتل البلاد سنة 1830.
استغل الأمير عبد القادر معاهدة التافنة عام 1837 (هي معاهدة جرت بين الأمير عبد القادر والجنرال توماس روبير بوجو من الجيش الفرنسي بعد تعرض الأخير لخسائر فادحة) ليركز على تنظيم الدولة، وجمع كلمة الجزائريين، حينها رافقه إلى دلس خليفته أحمد طيب بن سالم، الذي خلفه في المنطقة، وقاد معارك ضارية مع سكانها ضد المحتل الفرنسي، قبل أن يغادر إلى الشام رافضاً إغراءات المحتل بعد هزيمة مقاومته، بحسب ما ذكره أستاذ الآثار الإسلامية إسماعيل بن نعمان.
ويشير بن نعمان في تصريح لـ"عربي بوست" إلى أن "الأمير عبد القادر أوصى سكان المدينة ببث العيون وتشديد الحراسة وعدم الوثوق في العدو، استعداداً لمواجهة زحفه، قبل أن ينتقل الأمير بعدها إلى استكمال سفره، ويلتحق بسيدي أعمر الشريف (رجل دين جزائري) في جبل بوبراك (شمالاً)".
دلس وزلزال 2003
هذا المعلم الشاهد على عراقة المدينة، تضرر كثيراً عقب زلزال 21 مايو/أيار 2003، حينها انهارت مساكن عدة لا سيما الأسوار الداخلية والخارجية، وواجهات المباني، بشكل أثر على جمالية القصبة.
باتت القصبة بعد الزلزال شبه مهجورة، وقلت فيها الحركة، وأثرت على حيويتها، وإن عَمِدت السلطات في وقت لاحق إلى ترميمها.
تهدمت كذلك معالم عدة ذات بعد روحي في المنطقة، على غرار ضريحي سيدي إبراهيم وسيدي عبد الله، الموجودين في المقبرة.
كما تضرر ضريح سيدي منصور، حيث غطته الأنقاض.