يمعن الاحتلال الإسرائيلي بسياسة تهجير الفلسطينيين والاستيطان، لا سيما منذ تسلم الحكومة اليمينية برئاسة بنيامين نتنياهو مهامها مطلع العام الجاري 2023، لتعتمد الأخيرة نمطاً جديداً يقوم على مبدأ استخدام الضرائب مظلة لإجبار الفلسطينيين على مغادرة منازلهم، وإحلال المستوطنين مكانهم، وهذه المرة في المناطق التابعة إدارياً للسلطة الفلسطينية أو ما يعرف باسم المناطق "ب".
ضريبة "الأرنونا"، أو ما يعرف بضريبة الأملاك، هي أحد أنواع الضرائب التي تقوم سلطات البلديات التابعة للاحتلال بجبايتها سنوياً عن كل مواطن أو مقيم داخل المناطق الخاضعة لها مقابل "خدمات النظافة"، وتشمل مبلغاً سنوياً يدفعه كل صاحب عقار أو أرض أو مستأجر داخل نطاق بلديات الاحتلال أو مناطق "أ".
وتقسم مناطق الضفة الغربية إلى ثلاثة أقسام وفق اتفاقية أوسلو الثانية عام 1995، هي:
مناطق (أ): وتكون تحت سيطرة مدنية وأمنية كاملة من السلطة الفلسطينية، وتمثل حوالي 3% من الضفة الغربية.
مناطق (ب): تحت السيطرة المدنية الفلسطينية والسيطرة الأمنية الإسرائيلية الفلسطينية المشتركة، وتمثل حوالي 25% من الضفة.
مناطق (ج): تحت سيطرة مدنية وأمنية إسرائيلية كاملة، ما عدا على المدنيين الفلسطينيين، وتمثل أكثر من 70% من الضفة.
سعى الاحتلال الإسرائيلي منذ احتلاله للضفة الغربية في عام 1967، لفرض واقع استيطاني هدفه تقليص الحيز الجغرافي للفلسطينيين عبر سياسات وإجراءات مختلفة، من خلال سياسات التهجير القسري، وإحلال التجمعات الاستيطانية على أنقاض المناطق الفلسطينية، تمهيداً لتحقيق حلمه بضم الضفة الغربية كجزء سيادي يتبع له.
لجأت إسرائيل لأدوات متعددة في إطار هذه السياسة، منها تشييد جدار الفصل العنصري، والاستيطان الرعوي الذي تقوده جمعيات الاستيطان، كما أنها استعانت بالجيش الإسرائيلي من خلال إقامة ثكنات عسكرية في قلب القرى والأحياء الفلسطينية لتتحول مع مرور الوقت لتجمعات استيطانية.
إلى جانب هذا كله، فرض الاحتلال حديثاً ضريبة الأرنونا على عقارات الفلسطينيين في المنطقة "ب" غير الخاضعة له إدارياً بالأساس.
عن احتساب هذه الضريبة، يتم تقديرها عبر إجراء مسح للعقار أو المبنى أو الأرض، إذ يدفع كل مستفيد مبلغ 300 شيكل (90 دولاراً) سنوياً عن كل متر مربع من المنشآت التجارية، ونصف هذا المبلغ للمنشآت السكنية.
اللافت بهذا الإطار، أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي فرضت هذه الضريبة بأثر رجعي على الفلسطينيين داخل المناطق التابعة للسلطة الفلسطينية.
قرية "النعمان" في دائرة الاستهداف
منذ أسابيع، تفرض سلطات الاحتلال حصاراً على قرية "النعمان"، إحدى القرى الفلسطينية الواقعة بين مدينتي بيت لحم والقدس، بعد أن سلمت سلطات بلدية القدس التابعة للاحتلال إخطاراً لأهالي القرية بدفع ضريبة "الأرنونا" بأثر رجعي للسنوات العشر الأخيرة، أو رهن منازلهم لبلدية القدس في حال لم يسددوا قيمة هذه الضريبة.
تقع القرية إلى الشمال الشرقي لمدينة بيت لحم، وتصنف إدارياً ضمن المناطق "ب" التابعة للسلطة الفلسطينية، وفقاً لاتفاق أوسلو، بالتالي يسجل هذا الإجراء "سابقة خطيرة" في استخدام إسرائيل لأسلوب فرض الضرائب على مناطق خاضعة لحكم السلطة الفلسطينية، بحسب ما صرح به فلسطينيون لـ"عربي بوست".
جمال الدرعاوي رئيس المجلس المحلي لقرية "النعمان" أكد في حديث خاص لـ"عربي بوست" أن "الحصار المفروض على القرية يدخل أسبوعه الخامس، إذ تنتشر سلطات الاحتلال على مداخلها ومخارجها، وتحظر على أي مواطن ليس مدرجاً في كشوفات القرية دخولها".
زاد الاحتلال الإسرائيلي من إجراءاته بحق القرية، عبر منع العمال الفلسطينيين من التوجه لأماكن عملهم في الداخل.
أضاف الدرعاوي: "تفاجأنا منذ منتصف فبراير/شباط 2023 بقدوم عناصر من مصلحة الضرائب التابعة لبلدية القدس الإسرائيلية، التي قامت بإجراء مسح شامل للعقارات والممتلكات شمل أيضاً أثاث المنازل".
على إثر ذلك، تم تقدير مبلغ ضريبي لصالح بلدية القدس لكل عقار داخل القرية يتراوح من 7 آلاف لـ15 ألف شيكل (2000-4000 دولار) عن كل عام للسنوات العشر الأخيرة، بحسب المتحدث ذاته، ما يعني أن المبلغ المطلوب عن كل عقار قد يصل ما بين 20 ألفاً- 40 ألف دولار.
حاول "عربي بوست" التواصل مع سكان القرية لإيضاح ما جرى، إلا أنهم رفضوا التعليق خشية تعرضهم للملاحقة الإسرائيلية كونهم يقبعون تحت حصار مشدد.
لكن المحامي إسحاق الشكعة الذي يتولى مهمة الدفاع عن القرية أمام بلدية القدس صرّح لـ"عربي بوست" بأن "الإخطار الإسرائيلي لسكان القرية بدفع ضريبة الأرنونا، يتضمن منحهم مهلة 6 أشهر لتسديد الاستحقاق الضريبي المزعوم، وفي حال تخلفوا عن ذلك يمكن لسلطات الاحتلال اتخاذ سلسلة إجراءات، منها منع أي عملية بيع أو شراء أو استئجار".
إلى جانب ذلك، يمنع الاحتلال في حال الامتناع عن دفع هذه الضريبة أي عملية بناء داخل القرية، إلا بإذن من سلطات بلدية القدس التابعة له.
وأضاف الشكعة: "من المتوقع أيضاً أن تقوم سلطات البلدية في القدس برفع دعوى قضائية ضد سكان القرية أمام المحكمة المركزية في القدس، ما يعني صدور قرارات متوقعة قد تتضمن رهن واحتجاز كل الأموال والأصول لسكان القرية، حتى تتم تسوية مستحقاتهم لصالح البلدية".
تواصل "عربي بوست" مع مسؤولين في السلطة للتعليق على الإجراءات الإسرائيلية داخل مناطقها الإدارية بحسب اتفاقية أوسلو، واكتفوا بالتنديد بما يجري.
عن التحركات التي تقودها السلطة الفلسطينية بما يتعلق بقرية النعمان، قال مدير مكتب هيئة مقاومة الجدار والاستيطان في بيت لحم حسن بريجية، لـ"عربي بوست" إن "التقسيم الجغرافي الحاصل والانتهاكات الأخرى التي تمارسها إسرائيل في قرية النعمان، ستجري مناقشتها مع مفتشي وقضاة محكمة العدل الدولية، الذين نأمل أن تسمح لهم إسرائيل بزيارة وتوثيق القرى المستهدفة".
كشف أيضاً عن أنه "من المتوقع أن يصل مفتشو ومراقبو محكمة العدل بعد شهر يونيو/حزيران 2023".
وأضاف بريجية مدير مكتب اللجنة التابعة رسميا للحكومة الفلسطينية: "نعمل على رصد كل الخروقات والانتهاكات الإسرائيلية التي من شأنها تغيير الوضع القائم في المناطق الفلسطينية وتحديدا المناطق المصنفة (ب، ج) التي يتركز النشاط الاستيطاني فيها بشكل كبير".
لكنه قال: "نواجه صعوبات في مسألة رفض إسرائيل السماح للسفراء الأجانب بزيارة الأماكن المستهدفة، وهذا ما يفسر ضعف التفاعل الدولي مع مثل هذه القضايا".
وتابع: "من الناحية القانونية، فإن ما يجري على الأرض في قرية النعمان يمثل انتهاكاً صارخاً لقواعد القانون الدولي، والقانون الدولي الإنسان، وحقوق الإنسان، بالإضافة للتعدي على المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة، التي حظرت النقل القسري الجماعي والفردي للسكان، أو نفيهم من مناطق سكناهم لمناطق أخرى".
إجراءات قانونية بهدف التهجير
إلا أن الإجراء الأخطر وفقاً للمتحدث ذاته، يكمن في "التسوية المتوقعة، بأن تقوم سلطات البلدية على اعتبار أنها المالك الحقيقي للعقارات، بتخيير المواطنين الفلسطينيين بالبقاء داخل القرية ضمن فئة المستأجرين، أو بيع العقارات التي كانوا يمتلكونها بعد خصم مبلغ الضريبة المستحق، ما يعني خسارة نصف قيمة المبنى لصالح بلدية الاحتلال في القدس".
تتبع القرية إدارياً لمجلس قرى بيت لحم، ولكن سلطات الاحتلال تدعي أنها في نطاق المجلس البلدي لبلدة صور باهر في القدس المحتلة.
إسرائيل بهذا الادعاء، تضع سكان القرية أمام خيار تهجير قسري، فإما أن يرضخوا للقوانين الإسرائيلية بدفع مبالغ ضخمة، أو يغادروا القرية.
معاناة قرية النعمان لا تقف عند ذلك، فهي مستهدفة منذ سنوات، فحتى عام 2006، كانت تزيد مساحتها عن 3 آلاف دونم، إلا أن جدار الفصل العنصري قلص مساحتها لتصل الآن إلى نحو 1200 دونم.
تراجع كذلك عدد سكان القرية من 570 نسمة في عام 2007، إلى أقل من 200 نسمة بسبب المضايقات الإسرائيلية المتكررة.
أحد موظفي المجلس البلدي لقرية النعمان، أكد لـ"عربي بوست"، أن عدد العقارات والمباني في القرية يقدر بنحو 126 وحدة سكنية.
أضاف "منها مبنيان لرياض الأطفال ومدرسة مشتركة للمرحلة الابتدائية والإعدادية، ومبنى وحيد للمجلس البلدي، و18 منشأة تجارية، ومصنعان للرخام ومعصرة لزيت الزيتون".
عزل وسط الضفة عن جنوبها
في قراءة منه للسياسة الإسرائيلية التي تستهدف قرية النعمان، قال غسان دغلس الخبير والمختص في شؤون الاستيطان لـ"عربي بوست"، إن "المشروع الاستيطاني الذي يستهدف القرية يستطيع الاحتلال من خلاله عزل وسط الضفة الغربية عن جنوبها، بشريط استيطاني يمتد لمسافة 40 كيلومتراً من الشرق للغرب منها".
أوضح كذلك أن هذه الضريبة معمول بها منذ عام 1997، بهدف توسعة الرقعة الجغرافية لمستوطنة "أبو غنيم" التي تبعد عن القرية نحو 8 كيلومترات، ولكن ما يجري يشكل سابقة خطيرة في المناطق التابعة إدارياً للسلطة.
حذر دغلس من فرض الاحتلال سياسة الأمر الواقع وتثبيت معادلات على الأرض، من خلال سياسات الاستيطان الجديدة، "ففي نظر الحكومة اليمينية الحالية، فإنها ترى أن الفرصة مواتية أمامها لتحقيق إنجاز أمام مؤيديها لضم الضفة الغربية"، وفق قوله.
جرت العادة أن تستخدم إسرائيل أسلوب فرض الضرائب في مناطق شرق القدس وتحديداً في البلدة القديمة، وأدت إلى إجبار مقدسيين على ترك منازلهم ليحل مكانهم مستوطنون في سياق المعركة الديموغرافية التي تنظر إليها إسرائيل على أنها تهديد مركزي يجب العمل عليه بأدوات وسياسات مختلفة، نظراً لوجود ميزة التفوق الديموغرافي الذي يصب في صالح الفلسطينيين.
يشار إلى أنه وفقاً لدائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية يعيش في شرقي القدس 323 ألف فلسطيني بصفة "مقيم وليس مواطناً" ويشكلون 37% من عدد سكان المدينة المحتلة.