كان أحد أبرز المشاهد اللافتة خلال افتتاح مسجد ومركز مصر الثقافي الإسلامي في العاصمة الإدارية الجديدة، هو الحضور اللافت لمستشار رئيس الجمهورية للشؤون الدينية، الشيخ أسامة الأزهري، على حساب ظهور شيخ الأزهر أحمد الطيب.
هذا الأمر أثار تساؤلات عديدة حول المغزى من إنشاء المركز والترويج له، باعتباره نافذة للمعرفة والخطاب الديني المستنير، إذ ارتبط هذا التوصيف بمؤسسة الأزهر على مدار تاريخها الذي يتجاوز الألف عام من الزمان.
لم تتعدَّ خطبة شيخ الأزهر إلا دقائق معدودة خلال الاحتفال الذي استمر 3 ساعات فجر اليوم الأول من رمضان، قبل دقائق معدودة من الأذان داخل مسجد مصر، مما بعث مؤشرات على أن الخطبة كانت بمثابة حدث هامشي، وتسببت في تأخير رفع أذان الفجر، وظهر على شيخ الأزهر، أحمد الطيب، بوادر عدم الارتياح، خصوصاً أنه قال كلمته التي لم تخلُ من رسائل سياسية على عجل.
فقد أكد شيخ الأزهر أن "العلم النافع في الإسلام، الذي ينجي صاحبه يوم القيامة هو العلم الذي قُصد به وجه الله ونفع الإنسان، وكل ما خرج عن هذه الغاية ضلالة وضياع، كما أن العبادة التي لا ترتبط بهذا الهدف النبيل هي هباء في مهب الريح".
وتماشى المغزى من الحديث حول جدال واسع في المجتمع المصري حول أهداف المركز وتكلفته الباهظة التي بلغت 800 مليون جنيه، في وقت تعاني فيه البلاد أزمة اقتصادية طاحنة.
"عربي بوست" حاول تتبع قصة هذا المركز، والهدف الحقيقي من إنشائه، والأهم إذا ما كان سيلعب دوراً على حساب الأزهر الشريف.
رغبة حكومية في تحييد الأزهر عن قضايا المجتمع
كشف نائب برلماني مطلع على هذا الملف لـ"عربي بوست" أن هناك توجهاً حكومياً بالفعل نحو تنحية دور الأزهر جانباً.
وقال النائب إن إنشاء مركز مصر الثقافي يهدف إلى تعزيز دور مصر في خدمة المسلمين بالمنطقة العربية والشرق الأوسط، من خلال نشر التعاليم الدينية الوسطية؛ ليكون امتداداً للدور الذي تلعبه مصر منذ تأسيس الأزهر الشريف، وأن المركز سيتولى مهام مرتبطة بدعم مسألة تجديد الخطاب الديني، ليكون بمثابة منارة ثقافية دينية متطورة تتماشى مع الحداثة التي تمثلها العاصمة الإدارية الجديدة.
وأوضح أن المركز يُعد أكبر صرح إسلامي في المنطقة العربية، وأن القصد من ذلك ليس في حجم المبنى فقط، ولكن أيضاً في قيمة الجهود الدينية التي سيقدمها من خلال الخدمات الدينية والثقافية والاجتماعية.
إذ من المقرر – بحسب النائب – أن يجذب العقول المستنيرة التي لديها قدرة على تقديم صحيح الدين، بما يتماشى مع التطورات الحياتية وتعريف شعوب العالم أجمع بحقيقة الدين الإسلامي الوسطي، إلى جانب تحول المركز إلى بؤرة جذب سياحي لمن لديه الشغف بالاستمتاع بالعمارة الإسلامية التي تزخر بها جنبات المركز.
ويُعد الأزهر الشريف أقدم وأهم مؤسسة دينية في مصر- تأسس عام 972 ميلادية – ويتولى الأزهر الشريف بالفعل مهمة نشر الثقافة الإسلامية داخلياً وخارجياً من خلال المعاهد الأزهرية الموجودة في كل أنحاء مصر.
وينص الدستور في مادته السابعة على أن "الأزهر الشريف هيئة إسلامية علمية مستقلة، يختص دون غيره بالقيام على كل شؤونه، وهو المرجع الأساسي في العلوم الدينية والشؤون الإسلامية، ويتولى مسؤولية الدعوة ونشر علوم الدين واللغة العربية في مصر والعالم، وتلتزم الدولة بتوفير الاعتمادات المالية الكافية لتحقيق أغراضه، وشيخ الأزهر مستقل غير قابل للعزل، وينظم القانون طريقة اختياره من بين أعضاء هيئة كبار العلماء".
لذلك جاء الحديث عن هيئة جديدة تتمثل في مركز مصر الإسلامي؛ لتتولى نشر سماحة الدين الإسلامي على المستوى الخارجي، لتأكيد هذا التوجه نحو تنحية أو تهميش دور الأزهر الشريف.
"الافتتاح الأخير بمثابة خطوة سيتبعها مزيد من القرارات الأخرى التي تسير على هذا النهج"، بحسب البرلماني المصري.
ويستكمل المصدر أن الغرض الرئيسي هو إضعاف الأزهر وتحييده عن قضايا اجتماعية ودينية تزامناً مع اتجاه البرلمان المصري لإقرار قانون جديد للأحوال الشخصية، يأخذ في الاعتبار توثيق الطلاق الشفوي للاعتداد به.
وسبق ذلك محاولات عديدة لـ"قصقصة أجنحة" المؤسسة الدينية الأكبر في مقدمتها مساعي تعديل قانون الأزهر بما يتيح لرئيس الجمهورية إقالة شيخ الأزهر من منصبه، إلى جانب فصل دار الإفتاء عن وزارة العدل ومنحها الاستقلالية، وأصبح اختيار المفتي من اختصاص الرئيس بدلاً من هيئة كبار العلماء التابعة للأزهر.
إبعاد الأزهر عن خطوات تأسيس المركز الإسلامي تثير الشكوك
وقال مصدر مطلع بمشيخة الأزهر لـ"عربي بوست" إن المعلن هو أدوار المركز الجديد تتكامل مع مهام مؤسسة الأزهر التي تُعد الهيئة الدينية الأكبر في البلاد، وأن مرجعيته الرئيسية تتمثل في نشر مبادئ الإسلام الوسطي، وأن إدارة المركز منبثقة من المشيخة، لكنها تخضع لإشراف الرئاسة المصرية من خلال الشيخ أسامة الأزهري.
وأوضح أنه في الظاهر يبدو أن المركز لا ينتقص من دور الأزهر، لكنه كشف أن الباطن ليس كذلك، مدللاً على ذلك بأنه جرى إبعاد الأزهر عن خطوات تأسيسه.
"العبرة ليست بالمساحة أو الزخارف المنتشرة على جدرانه، لكن الأهم القيمة العلمية التي تجذب رواد الأزهر من كل بقاع العالم، وأن الوضعية القانونية والدستورية الحالية للأزهر لا تسمح بأن ينازعه أحد في الاختصاصات"، على حد قول المصدر.
ولفت إلى أن كل ما يهم الأزهر هو عدم المساس بالثوابت الدينية، وإذا قام المركز الإسلامي بدوره في نشر صحيح الدين، فإن ذلك يدعم أدوار المؤسسة الدينية، وكذلك أدوار القوى الناعمة المصرية في الخارج، والتي تشكل أداة مهمة لتعريف العالم بالمنارات الإسلامية على الأراضي المصرية.
وأضاف "لا يمكن القول إن هناك خصومة بين النظام والأزهر؛ لأن الأول لا يمكنه الاستغناء عن المؤسسة الدينية التي ما زالت تلعب أدواراً مهمة لدعم الأنظمة المصرية المتعاقبة".
وبحسب المصدر ذاته، فإن مساعي النظام الحالي بوضع منهجية دينية جديدة أو استبدال الأزهر بأي مؤسسات أو هيئات أخرى أمر غير منطقي، لأن التاريخ شاهد على أدوار الأزهر، وهو أمر لا يمكن محوه حتى وإن كانت هناك رؤى تستهدف تحييد المؤسسة الدينية عن كثير من القضايا الاجتماعية، ووضعها في إطار السير الأعمى في ركاب السلطة، على حد تعبيره.
ولا ينظر بعض مشايخ الأزهر إلى المركز الجديد باعتباره مجرد رمزية ترتبط بالانتقال إلى الجمهورية الجديدة؛ وهو أمر يتكرر تاريخياً مع تأسيس المدن المصرية التي كانت جديدة في وقت تدشينها، والتي ارتبطت بجوامع ومراكز إسلامية.
ولعل ما يجعل تلك الرؤية محل شك من جانب البعض هو أن العاصمة الإدارية تضم مسجداً آخر، هو مسجد الفتاح العليم، المقام على مساحة 106 أفدنة، بتكلفة 200 مليون جنيه، وتم افتتاحه مطلع عام 2019، وبالتالي فإن النظام ليس بحاجة لرمزية دينية جديدة، خاصة أنه روج في ذلك الحين لأن العاصمة الجديدة تحمل لواء المواطنة، إذ تزامن افتتاح مسجد الفتاح العليم مع افتتاح كاتدرائية "ميلاد المسيح" الأكبر من نوعها في الشرق الأوسط.
وبدأ الخلاف يأخذ في الاتساع بين الأزهر والنظام المصري حينما قاد أحد النواب الموالين للحكومة تياراً داخل البرلمان لإدخال تعديلات على قانون الأزهر، لكنه لم يتمكن من مناقشته في ظل اعتراضات عديدة على إدخال تعديلات قانونية أو دستورية تمس الأزهر، وخدمت مساعي النظام المصري لإدخال تعديلات دستورية تسمح بتمديد فترات الرئيس في العام 2019، لأن تظل المادة الخاصة به دون تعديل لضمان تمريرها دون مزيد من المشكلات السياسية.
صدامات متكررة بين السيسي وشيخ الأزهر
وخلال السنوات الأخيرة وقعت العديد من الصدامات بين شيخ الأزهر، أحمد الطيب، والرئيس عبد الفتاح السيسي حول عدد من القضايا كان أبرزها قضية الطلاق الشفهي، والذي تمسك به الأزهر وسعى السيسي لإدخال تعديلات تشريعية لأن يكون التوثيق شرطاً لوقوع الطلاق، إلى جانب الخلاف حول قضية التراث والتجديد، وفصل الإفتاء عن مؤسسة الأزهر.
وأعاد الرئيس المصري الخلاف مع الأزهر إلى الواجهة مرة أخرى بتأكيده أن مسألة إلغاء الطلاق الشفهي واستبداله بالطلاق الموثق أصبحت أمراً لا مفر منه، في تحدٍّ واضح وصريح لآراء هيئة كبار العلماء التي أدلت برأيها في تلك القضية خلال العام 2017، ومنح السيسي مجلسَ النواب الضوء الأخضر لتمرير قانون الأسرة المصرية الذي يتضمن إلغاء الطلاق الشفهي، وذلك خلال مشاركته في احتفالية المرأة المصرية قبل أسبوع.
ويتضمن القانون المقترح بنوداً حول الاعتراف فقط بالطلاق الموثق، وعدم الاعتراف بالطلاق الشفهي ما لم يتم توثيقه، وهو ما رفضه الأزهر مراراً، مؤكداً دعمه لتوثيق الطلاق لكن مع الاعتراف أيضاً بالطلاق الشفهي وفقاً للضوابط الشرعية.
السيسي يزيح الأزهر عن مشهد تعديل قوانين الأحوال الشخصية
وقال مصدر حكومي مطلع بوزارة الأوقاف إن الرئيس المصري أزاح الأزهر عن تصدر مشهد تعديل قوانين الأحوال الشخصية ذات الارتباط المباشر بالأسرة خلال الاحتفالية التي غاب عنها شيخ الأزهر أحمد الطيب، وكان فاعلاً فيها مفتي الديار المصرية شوقي علام، وأن تأكيده على أنه سيتحمل الذنب إذا جرى تمرير القانون يعد بمثابة مطلب مباشر من الأزهر؛ لأنه يبتعد عن القضية، بعد أن وقف الأزهر ضد قانون حاولت الحكومة تمريره في البرلمان منذ عامين وأظهر تحدياً واضحاً للسلطة.
ويؤكد المصدر أن جهات حكومية رأت حتمية إنشاء المركز لوضع حد لنفوذ الأزهر بعد أن وقف في وجه مساعيها لوضع قانون عصري للأحوال الشخصية، وترى أنه بات معرقلاً لمحاولة مسايرة التطورات الاجتماعية، وترفض أن يتحول الأزهر إلى سلطة موازية في المسائل المرتبطة بالنواحي الاجتماعية وتوظيف الفتوى لتحقيق مزيد من النفوذ والتغلغل بشكل يحقق أهدافه الفكرية.
وتوقع أن يكون هناك صدام مباشر بين السلطة والأزهر، لكنه سوف يحمل هذه المرة أبعاداً دينية حساسة، ولن تكون في مواجهة الأزهر فقط، لكنها سوف تصطدم برفض مجتمعي دائماً ما ينحاز إلى رؤية الأزهر التي تعبّر عن مخاوفهم من توظيف الدين لخدمة السياسة، كما الصراع المكتوم حالياً يوسع الفجوة بين السلطة والأزهر، ما يعيد الاستقطاب الديني إلى الواجهة من جديد، في وقت تواجه فيه الحكومة المصرية حالة من الغضب المجتمعي جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة.
وفي عام 2018 تابع المصريون مبارزة كلامية غير مباشرة بين السيسي والطيب حول السنة النبوية والتراث الإسلامي التي انحاز لها الطيب، بينما بدا أن السيسي يفتح الباب أمام مناقشتها بدعوى التجديد.
لكن تظل أبرز العبارات التي وردت على لسان السيسي، عتابه الشهير قبل 6 سنوات لشيخ الأزهر على الهواء مباشرة، قائلاً "تعبتني يا فضيلة الإمام"، بعد رفض الأخير توثيق الطلاق وإلغاء الطلاق الشفوي.
ويشير باحث في علم الاجتماع السياسي، إلى أن المنازعة تبقى قائمة بين الأزهر والسلطة في مصر منذ تأسيسه، لكن في الأغلب نجحت الأنظمة المتعاقبة في أن تجعل المؤسسة الدينية تدور في فلكها، دون أن تصل المناطحات إلى حد الخلاف القائم حالياً، الذي وصل إلى حدود التصادم العلني، مشيراً إلى أن الأنظمة السابقة حاولت انتزاع بعض المكاسب من الأزهر، لكنها لم تصل إلى الفجاجة الحالية في الترصد المستمر بالمؤسسة الدينية على مدار ما يقرب من عشرة أعوام.
ويلفت إلى أن الحكومة المصرية ليس لديها رغبة حقيقية في تجديد الخطاب الديني الذي يعبر عن جوهر الخلاف الحالي، لأن ذلك يكون بحاجة إلى مناخ عام يمكن فيه إثراء نقاشات حقيقية، وهو أمر لا يتوفر في الحالة المصرية الراهنة، لكن يتم توظيف التجديد والإصلاح كأداة ضغط على الأزهر، ودائماً ما تعول الحكومة على أن الأزهر مؤسسة دينية ليس لها علاقة بالسياسة أو تجيد ألاعيبها لتمرير رؤيتها، لكنها تصطدم في كل مرة بسلوك قوى يُفقدها القدرة على استمرار الضغط ويجبرها على التراجع.
لذلك اقترحت مصادر حكومية محاصرة الأزهر من جوانب عديدة، فهي من ناحية تهدده بوجود منابر دينية أخرى قوية وتروّج لقدرتها القيام بدوره، سواء كان ذلك عبر توظيف وزارة الأوقاف ودعم سيطرتها على المساجد أو من خلال دار الإفتاء التي استقلت عن الأزهر ونهاية بالمركز الثقافي الإسلامي الجديد، كما أن الأزهر يجد نفسه في معركة أخرى لا تقل ضراوة ترتبط بتنحيته عن تعديل قوانين الأحوال الشخصية.
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة.
نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”