"المرعوب"، هو الاسم الدارج بالعامية في الجزائر للغاز المستخدَم في المنازل للطبخ والتدفئة، لكونه لا لون له ولا رائحة ولا صوت، ويتربّص بضحاياه بصمت، وسط مخاوف يثيرها تكرار الحوادث المرتبطة بتسرّبه داخل البيوت، الأمر الذي يودي بحياة أعداد كبيرة في البلاد.
تثير حصيلة ضحايا تسرّب غاز المنازل في الجزائر هلعاً كبيراً وسط المواطنين، لا سيما أن "الحماية المدنية" (الدفاع المدني) سجلت سقوط وفيات شبه يومية منذ بداية العام الجاري 2023، خاصة في الأيام شديدة البرودة، التي تتصاعد فيها وتيرة ضحايا القاتل الصامت، الذي يطال في بعض الحالات عائلات بأكملها.
تعمل الهيئات الرسمية ومنظمات المجتمع المدني على الحد من استفحال هذه الحوادث، من خلال حملات توعية دورية، إلا أن الجهود لم تفلح في وضع حد لهذه الظاهرة حتى الآن.
حصيلة وفيات كبيرة
بغرض كشف ملابسات ملف ضحايا تسرب غاز أحادي أكسيد الكربون، تواصل "عربي بوست" مع المتحدث باسم الحماية المدنية الجزائرية، النقيب نسيم برناوي، الذي أشار إلى أن وحدات الحماية سجلت منذ 1 يناير/كانون الثاني إلى 1 مارس/آذار 2023، ما يقرب من ألف تدخل في حوادث تسرّب الغاز على مستوى ولايات الجمهورية في الجزائر.
يقول برناوي، إن عناصر الحماية المدنية الجزائرية تمكنوا من إنقاذ 1228 شخصاً من الموت المحقق، في حين سُجلت 90 حالة وفاة جراء استنشاقهم غاز أحادي أكسيد الكربون خلال الفترة ذاتها.
عن تفاصيل متعلقة بالحصيلة قدمها لـ"عربي بوست"، أبرز النقيب برناوي، أنه تم تسجيل 56 حالة وفاة خلال شهر يناير/كانون الثاني، و34 حالة وفاة في شهر فبراير/شباط 2023، جراء استنشاقهم للغاز.
وأرجع سبب هذه الحصيلة الكبيرة في الوفيات التي وقعت خلال شهرين فقط، إلى بعض الأجهزة الموجودة في المنازل، منها المدافئ وسخانات الماء وبعض أجهزة الطبخ كالطابونات (مواقد النار) وغيرها، وكثير منها قديم ومتهالك.
خلال العام الماضي 2022، أي قبل فصل الشتاء الحالي، "تم تسجيل 111 حالة وفاة بغاز أحادي أكسيد الكربون، مقابل إنقاذ 2532 شخصاً"، وفق برناوي.
أسباب تكرار حوادث الغاز في الجزائر
ينقل برناوي لـ"عربي بوست" بعض ما عاينته عناصر الحماية المدنية ميدانياً، خلال عمليات التدخل، في معرض حديثه عن أسباب تكرار حوادث الغاز في الجزائر، موضحاً أن "السبب الرئيسي لهذه الحوادث الكارثية يتمثل في سوء استخدام أدوات الغاز، ما يتسبب بانبعاث غاز أحادي أكسيد الكربون، الذي ينتج عن غياب عامل رئيسي، وهو الأكسجين في البيت والتهوية".
يشدد كذلك على أن تسجيل مثل هذه الحوادث في البيوت، يرتبط بشكل مباشر بعدم تهوية المواطنين لمنازلهم.
سوء استخدام سخانات الماء يُعد سبباً آخر رئيسياً بحسب برناوي، الذي يشير إلى أن الكثير من العائلات تقوم بوضعه في داخل الحمام، ما يسفر عن تسجيل اختناقات تصل في بعض الأحيان إلى الوفاة.
من المسببات القاتلة أيضاً، التي يراها الناطق باسم الحماية المدنية الجزائرية: "تركب بعض العائلات سخانات الماء بدون أنابيب صرف الغازات المحترقة، ولا تقوم كذلك بإغلاق جميع منافذها. في المقابل لا يقوم البعض أيضاً بصيانة المدافئ دورياً قبل بداية استعمالها عند حلول فصل الشتاء، الذي تكثر فيه مثل هكذا حوادث".
موجهاً رسالة إلى المواطنين، حيث يدعو برناوي إلى ضرورة الالتزام بعملية تركيب المدافئ والسخانات، والاتصال بذوي الخبرة والكفاءة المهنية لمؤسسات أو فنيين معتمدين ومحترفين في المجال، وليس بأشخاص أو معارف يقومون بالتركيب في البيوت باجتهاد شخصي.
كاشف تسريبات الغاز
للاطلاع على الجهود المبذولة من السلطات الجزائرية، لوضع حد لهذا القاتل الصامت، تواصل "عربي بوست" مع خليل هدنة، الناطق الرسمي لمجمع "سونلغاز" المكلف بتزويد المواطنين بالكهرباء والغاز.
يؤكد هدنة من جهته، تنظيم عمليات توعوية دورية للمواطنين، وتحذيرهم من الاستعمالات الخاطئة للأجهزة المتعلقة بالغاز.
في هذا الصدد، شدد على أن الشركة تنظم، إلى جانب العمليات التوعوية، حملات ميدانية لمراقبة وضعية تركيب المعدات في المنازل مجانا، وذلك من خلال تواصل المواطنين الراغبين في فحص منازلهم بالشركة عبر الرقم المحلي 3303.
إلا أن هدنة قال إنه رغم مجانية العملية وأهميتها في حماية المواطنين، فإن من بين 7 ملايين زبون لـ"سونلغاز"، فإن الطلبات لم تتعدّ 1000 طلب فقط، واصفاً ذلك بـ"الإقبال الضعيف، رغم عمليات التوعية والومضات الإعلامية (برامج توعوية معلوماتية) عبر 58 محافظة".
يضيف لـ"عربي بوست" أن العاملين في"سونلغاز" يعمدون لقطع عملية التزويد بالغاز عند الكشف عن أي تسرب حتى إصلاح العطب من طرف حرفي متخصص ومؤهل.
أما بخصوص عملية توزيع كواشف تسرب الغاز مجاناً، التي أمر بها الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون مؤخراً، فقال هدنة: "إن العملية انطلقت من منطقة بوسعادة بمحافظة المسيلة، كمبادرة رمزية، بعدما سجلت المنطقة كابوساً بسبب الغاز خلال يناير/كانون الثاني 2023، تمثل في وفاة 9 أفراد من عائلة واحدة".
بعد 3 أسابيع على إطلاق العملية هذه، جرى -بحسب هدنة- توزيع أكثر من 500 ألف كاشف للغاز، مضيفً أن المرحلة الأولى ستشمل 21 ولاية عبر الهضاب العليا، نظراً لبرودتها، وكثرة استعمال أجهزة التدفئة فيها خلال فصل الشتاء، إلى غاية استكمال العملية بتوزيع من 5 ملايين إلى 6 ملايين كاشف.
الهزات الأرضية وأسباب أخرى
من جهته، يقول الخبير في مجال السلامة امحمد كواش، في تصريح لـ"عربي بوست"، إن الهزات الأرضية التي تسجل في الجزائر على مدار العام تسهم في خفض مستوى الأمان في المنازل، وهذا بما يتعلق بتسرب الغاز في البيوت.
يوضح في هذا السياق أن "هناك مشكلة خطيرة جداً قد لا ينتبه إليه المواطنون، والمتمثلة في الهزات الأرضية التي تسهم بشكل كبير بتشققات في المنازل، وتعمل على كسر أنابيب الغاز، ما يؤدي إلى تسريبات مختلفة، قد تصل إلى حوادث الانفجار في بعض الحالات".
من الأسباب التي أدت إلى تسجيل وفيات كبيرة بسبب تسرّب الغاز في الجزائر خلال الشهرين الماضيين، يلفت كواش، وهو أيضاً صاحب مبادرة "كفى" للحد من حوادث المرور والقاتل الصامت، إلا أن بعض المواطنين يرممون منازلهم بطريقة عشوائية، بفعل الكسر والهدم، خاصة في فصل الصيف، ما يسهم في كسر أنابيب الغاز.
أما المشكلة الأخرى التي يراها كواش، فهي سقف بعض المنازل غير الأصلي، الذي يكون عبارة عن أوراق بلاستيكية أو مطاطية، أو في بعض الأحيان من الجبس، حيث تمر فوقها أنابيب الغاز، ما يجعله يتراكم، بالتالي مع أي شرارة يؤدي إلى انفجارات كبيرة جداً.
بحسب خبير السلامة، فإن عائلات تلجأ أيضاً إلى استعمال أنابيب غير أصلية أو قديمة منتهية صلاحيتها تكون موصولة بقارورات غاز تؤدي إلى انفجار، إضافة إلى عدم القيام بصيانة الأنابيب وتفقدها مع كل مرحلة، خاصة في المرحلة الشتوية.
ويضيف في هذا السياق: "يجب أن يكون هناك تفقد دوري لتفادي غياب تهوية المنازل، خاصة منافذ التهوية السفلية التي تسمح بتجديد الهواء، ومنافذ التهوية العلوية التي تسمح بخروج الغازات السامة، سواء غازات الاحتراق أو في حالة تسرب في المنزل".
كيف تتفادى مآسي "القاتل الصامت"؟
في خضم حديثه عن مسببات تسرب الغاز وعلاقته بتسجيل حوادث على مستوى 58 ولاية، أبرز كواش بعض المقترحات التي يراها مناسبة من أجل الحد من هذه الحوادث التي أضحت مخيفة، جراء أرقام الضحايا المسجلة في الفترة الأخيرة.
في البداية، يضع كواش تهوية البيوت دورياً ويومياً في خانة السلوكيات الضرورية الواجب اتباعها وتطبيقها في أي منزل، مع استعمال كواشف دقيقة جدا، يتم وضعها في المنازل، من أجل إنذار العائلات من أي تسرب للغاز.
شدد كذلك على ضرورة الاعتماد على فنيين معتمدين في عملية تركيب أنابيب الغاز وصيانتها، عوض الاستعانة بأشخاص ليس لهم علاقة بهذه المهنة المهمة، لتفادي حوادث تسرّب الغاز، وكبح عدد الوفيات اختناقاً بغاز أحادي أكسيد الكربون.
في سياق متصل، توصل مجلس الوزراء في الجزائر إلى تضمين دفتر شروط بناء المشاريع السكنية قيد الإنجاز وبكل صيغها، إلزاماً محدداً بضرورة توفير أنظمة الكشف عن الغاز المتسرب.