استقل الرئيس الأمريكي جو بايدن "القطار الرئاسي" الليلي في رحلته الدبلوماسية المتجهة من محطة برزيميسل غلاوني في بولندا إلى كييف، وذلك خلال زيارته التاريخية لأوكرانيا، الإثنين 20 فبراير/شباط 2023 قبل بضعة أيام من الذكرى الأولى للهجوم الروسي على البلاد.
كانت الرحلة المسائية التي استغرقت 10 ساعات رحلةً شديدة السرية، ومثّلت تحدياً أمنياً كبيراً لشركة سكك حديد أوكرانيا، وهي شركة حكومية تُدير شبكة السكك الحديدية في البلاد، لكنها لم تكن أول تحدٍّ أمني تواجهه الشركة، بحسب ما كشف تقرير لشبكة CNN الأمريكية.
إذ تحولت شبكة السكك الحديد الأوكرانية إلى طريقٍ دبلوماسي سريع، بالتزامن مع إلغاء الرحلات التجارية الجوية إلى أوكرانيا، وبعد أن أصبحت السماء أخطر من أن يستخدمها الساسة لدخول البلاد والخروج منها، حيث وصلت أكثر من 200 بعثة دبلوماسية أجنبية إلى البلاد بالقطار حتى الآن.
العديد من زعماء العالم استقلوا القطار إلى كييف ومنهم الكندي جاستن ترودو، والبريطاني ريشي سوناك، والفرنسي إيمانويل ماكرون، والإيطالية جورجيا ميلوني. وفي الواقع، يمكن القول إن رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا هو الوحيد الذي لم يزُر البلاد بالقطار حتى الآن، من بين جميع قادة دول مجموعة السبع.
حتى الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي هو الآخر يستخدم شبكة القطارات بانتظام في بعثاته الدبلوماسية إلى الخارج.
شبكة ضخمة من السكك الحديدية
لكن السكك الحديد الأوكرانية تقدم ما هو أكثر من "القطار الرئاسي"، وهو الوصف الذي أُطلِق على قطار بايدن.
إذ إن رحلة الرئيس الأمريكي رفيعة المستوى سلطت الضوء على شبكة السكك الحديد الأوكرانية الضخمة، التي تحتل المرتبة الـ12 عالمياً من حيث الحجم، وتمتد على مسافة تصل إلى 24.000 كيلومتر تقريباً. كما تُعَدُّ سكك حديد أوكرانيا سادس أكبر شركة قطارات ركاب على مستوى العالم، وسابع أكبر شركة قطارات في مجال الشحن.
وجرى تدشين السكك الحديد الأوكرانية في عصور ما قبل الاتحاد السوفييتي، وهي عبارة عن شبكة من السكك الحديدية العريضة في الأساس، وتختلف بذلك عن السكك الحديد القياسية التي تستخدمها غالبية دول أوروبا.
وربما دمرت القوات الأوكرانية الخطوط العابرة للحدود إلى روسيا، لكن شبكة السكك الحديد لا تزال تربط أوكرانيا بالدول الأخرى، رغم أن اختلاف اتساع السكة الحديد يعني أن القطارات لا يمكنها عبور الحدود عادة.
وشهد العام الماضي إعادة بناء قطاعات من خطوط السكك الحديد البالية والممتدة إلى الدول المجاورة، مثل مولدوفا وبولندا ورومانيا، لحل هذه المشكلة، كما جرى إصلاح البنية التحتية في 11 معبراً حدودياً منذ ذلك الحين.
قطارات "شديد الأهمية"
ولا يقتصر دور هذه الشبكة على تسهيل رحلات الركاب فقط، بل تُعد هذه الشبكة ضرورةً حيوية من أجل الشحن، ومن أجل غالبية دول العالم التي تعتمد على المنتجات الأوكرانية كالحبوب.
حيث قال الرئيس التنفيذي لسكك حديد أوكرانيا، ألكساندر كاميشين، في مقابلة مع شبكة "سي إن إن" الأمريكية: "قبل الحرب، كانت لدينا طائرات وسيارات وحافلات وقطارات. وليس لدينا الآن سوى القطارات والسيارات، دون أي طائرات. ونحن دولة مترامية الأطراف. أي إن قطارات النوم هي أمثل طريقةٍ للسفر من كييف إلى غرب، أو جنوب، أو شرق أوكرانيا. حيث تصعد إلى متن القطار في آخر المساء، وتسافر طوال الليل، ثم تصل إلى وجهتك في الصباح. ولن تهدر أي وقت. كانت التجربة مريحةً قبل الحرب، وأصبحت اليوم مريحةً وآمنة. القطارات شديدة الأهمية".
ولا شك أن غالبية الصور التي رأيناها للقطارات الأوكرانية في العام الماضي كانت تحمل اللاجئين. إذ تقول سكك حديد أوكرانيا إنها ساعدت أربعة ملايين شخصٍ على الوصول إلى بر الأمان في عام 2022، وربعهم تقريباً من الأطفال، وفق التقرير ذاته.
كما جرى تعديل بعض القطارات لتتحول إلى مرافق طبية، فضلاً عن إجلاء نحو 2.500 مدني للعلاج الطبي عبر القطار خلال العام الماضي. علاوةً على أن الشبكة نقلت نحو 336.000 طنٍّ من المساعدات الإنسانية.
قطارات تصل في موعدها
يُمكن القول إن الجانب الأكثر استثنائية في رحلة بايدن الأوكرانية هو أنها سلطت الضوء على السلاسة في عمل سكك حديد أوكرانيا، حيث اعتذر كاميشين في تغريدةٍ له عن أن "90% فقط من قطاراتنا وصلت في موعدها أمس"، نتيجةً لرحلة بايدن المعقدة.
وليس هذا الأمر مفاجئاً بالنسبة للأوكرانيين، إذ لطالما كانت خدمات القطار "ممتازةً" في البلاد على حد تعبير آلا بينالبا، التي تقطن في كييف.
وتقول آلا إن خطوط الطيران منخفضة التكلفة دخلت أوكرانيا في وقتٍ متأخر عن بقية أوروبا، ولهذا احتفظت البلاد بشبكة قطاراتها الليلية في ظل قلة الرحلات الجوية المحلية.
الطلبات الدبلوماسية داخل عربات السكك الحديدية
لا يُسافر الساسة على متن الدرجة الثالثة بالطبع، ولم يكشف كاميشين عن تفاصيل الخدمة التي يحصلون عليها، لكنه يقول إن "ضيوف الدبلوماسية الحديدية يقضون داخل القطار وقتاً أطول مما يقضونه في المدينة".
لكن الأمر لا يتعلق بتقديم المعاملة اللائقة فحسب، إذ تُستخدم القطارات لتبعث "بالرسائل التي نود نقلها إليهم"، على حد قول كاميشين.
وأردف الرئيس التنفيذي: "نحن حساسون ودائماً ما نعامل ضيوفنا بالشكل المناسب، لكن هذه الأشياء تساعدهم في فهم ما نتوقعه منهم -كما حدث عند استخدام زهور السوسن أو الملابس المطبوعة بجلد الفهد".
حيث جرى وضع مزهرية مليئة بزهور السوسن داخل القطار إبان زيارة الرئيس الألماني فرانك-فالتر شتاينماير، الذي وافقت بلاده على إمداد أوكرانيا بنظام دفاعٍ جوي يُدعى إيريس-تي (أي السوسن-التقني).
وفي زيارة سياسيٍ آخر، ارتدى طاقم القطار إكسسوارات مطبوعة بجلد الفهد، في إشارة إلى دبابات ليوبارد-2 (الفهد-2) التي تطلبها أوكرانيا من ذلك البلد. ورفض كاميشين الإفصاح عن هوية تلك الدولة، لكن بولندا وألمانيا أرسلتا دبابات ليوبارد-2 إلى أوكرانيا بالفعل، مع تعهد ألمانيا بإرسال المزيد منها في الذكرى الأولى للهجوم.
السكك الحديد شريان حياة
من المؤكد أن السفر عبر السكك الحديد لطالما كان أمراً رائجاً في أوروبا، كما يزداد رواجاً اليوم بسبب أزمة المناخ. ويؤمن كوين بيرغيوس، رئيس تحرير موقع Paliparan المتخصص في السفر بالقطارات، بأن أوكرانيا تستطيع تقديم عدة دروسٍ لشبكات السكك الحديد الأخرى.
إذ يقول بيرغيوس: "يتمثل وجه الاختلاف الرئيسي بين أوكرانيا وبين دول أوروبا الأخرى في مساحة دولة أوكرانيا مترامية الأطراف". لافتاً إلى أن حجم أوكرانيا يعني أن شبكة سككها الحديد "الضخمة لطالما كانت شريان حياةٍ بالنسبة للأوكرانيين -فضلاً عن كونها جزءاً بالغ الأهمية من البنية التحتية للبلاد".
ولهذا يسارع الأوكرانيون إلى التحرك في حال تضرر أي خط سكك حديدية أثناء المعارك. وبعد تحرير مدينة خيرسون في الجنوب مثلاً، عادت القطارات إلى العمل داخل المدينة في غضون ثمانية أيامٍ فقط.
وعلّق بيرغيوس قائلاً: "الأمر مذهل. تُعَدُّ السكك الحديد بالغة الأهمية بالنسبة لهم من أجل الحفاظ على وحدة البلاد، وضمان قدرة الناس على زيارة عائلاتهم وأصدقائهم، ومن أجل الشحن وشبكة البريد…".
أضاف: "كما يستخدمون القطارات لتسليم بعض المعاشات التقاعدية. علاوةً على أنها ضرورية من أجل العلاقات العامة، لأن كل شؤون الحرب ترتبط بالعلاقات العامة. حيث يستخدمونها حتى يقولوا لروسيا: (نستطيع تشغيل القطارات حتى في ظل هذه الظروف. ولا يهمنا إذا لم تكن هناك كهرباء، إذ يمكننا استخدام قطارات الديزل أو البخار)".