أمام مستشفى التأمين الصحي بمحافظة الجيزة المصرية، تصطف طوابير طويلة من المرضى، ليس فقط من أجل حجز تذكرة دخول مثلما هو السائد في أغلب الأحيان، لكن هذه المرة كانت الطوابير تستهدف الصيدلية الخاصة بالمستشفى.
السبب يعود، بحسب عدد من المرضى الذين تواصل معهم "عربي بوست"، إلى نقص في بعض أنواع الأدوية مثل المضادات الحيوية وأدوية السكر والفشل الكلوي والسرطان والقلب وغيرها من الأمراض الأخرى؛ ما يجعلهم يتوافدون يومياً أملاً في الحصول عليها.
طوابير المستشفيات الحكومية تنتقل إلى الصيدليات
وقف المسن السبعيني إبراهيم عبد الله في ذيل الطابور دون أن تكون لديه القدرة على تحمل الوقوف لفترة طويلة، وحينما اقتربنا للتحدث معه أفصح عن خيبة أمله في الحصول على دواء مذيب للجلطات وسيولة الدم يتناوله بشكل يومي ضمن مجموعة من الأدوية الأخرى الخاصة بمرضى القلب.
وأشار إلى أنه يأتي يومياً إلى الصيدلية أملاً في إيجاد الدواء الذي لا يستطيع شراءه من الصيدليات العادية والتي قامت برفع سعره لصعوبة توافره.
وأضاف أنه يأتي منذ السابعة صباحاً لحجز دوره. ورغم ذلك، فإنه يجد العشرات يصطفون قبله؛ انتظاراً لحضور الصيدلي الذي يتولى إدارة الفترة الصباحية للتعرف على ما إذا كان ممكناً الحصول على الدواء أم لا، وفي كثير من الأحيان يقوم الصيدلي بفصل الأدوية الناقصة وكتابتها في روشتة أخرى للبحث عنها في صيدليات أخرى تابعة للتأمين الصحي، لكن مع زيادة الضغط تنفد أي شحنات تصل إليهم ونضطر للبحث عن أدوية بديلة قد لا تكون أكثر فائدة.
ما يحدث مع السبعيني يعاني منه مرضى القلب في جميع المحافظات والذين – طبقاً لإحصاءات جمعية القلب المصرية – تتجاوز نسبتهم 1.5% من إجمالي عدد المصريين البالغ عددهم 105 ملايين مواطن تقريباً. أي أن النسبة في مصر لا تقل عن 2 مليون مريض، مع الوضع في الحسبان أن أمراض القلب والأوعية الدموية هي المسبب الأول للوفاة في مصر.
في الصف المقابل، يقف مسن آخر يبلغ من العمر 66 عاماً، انتظاراً لوصول الطبيب والتأكد من وصول عدد من أدوية الغدة الدرقية، بعد أن فشل في الحصول على علبة دواء eltroxin في أكثر من مستشفى حكومي، إلى جانب عدم توافرها في كثير من الصيدليات المنتشرة بالقرب من محل سكنه بشارع الملك فيصل بمحافظة الجيزة.
وأوضح أنه يبحث عن الدواء للأسبوع الثاني على التوالي، ولا يعرف سبيلاً للوصول إليه سوى الذهاب إلى بعض المستشفيات الحكومية التي تتوافر فيها أصناف الأدوية المستوردة أكثر من نظيرتها الخاصة.
نقص في علاجات القلب والغدة الدرقية والسكر
أصاب الرجل الملل من الذهاب إلى الصيدليات الحكومية، إذ دائماً ما تكون الإجابة بأن أصناف أدوية الغدة الدرقية ناقصة، وعليك الذهاب إلى مستشفيات أخرى قد تتوافر لديها شحنات قديمة. الأزمة أخذت في التصاعد منذ بداية هذا الشهر بشكل أوضح، في حين أنه حصل آخر مرة على الدواء الذي يتناوله بشكل دوري قبل ثلاثة أشهر.
ورغم أن الموظفة الأربعينية هناء سامي تلتقط أنفاسها بصعوبة نتيجة إصابتها بحساسية الصدر، لكن ذلك لم يمنعها من الذهاب بشكل يومي هي الأخرى إلى صيدلية مستشفى ناصر العام بمنطقة شبرا.
وأشارت إلى أنها تبحث منذ أسبوع تقريباً عن دواء موسع للشعب يسمى ATROVENT، والذي لا يمكن للمصابين بالأمراض الصدرية الاستغناء عنه، لكنه لا يتوافر في الأسواق منذ ما يقرب من شهر مع زيادة الإقبال عليه حينما انتشر "الفيروس المخلوي" بين الأطفال.
يذكر أن عدد مرضى الربو الشعبى في مصر للبالغين – طبقاً لآخر إحصائية – حوالي 6.7% من إجمالي السكان. وفى الأطفال تصل هذه النسبة إلى الضعف أي إلى حوالي 15%.
كما أن أدوية الأمراض الفيروسية التي تنتشر بكثافة في فصل الشتاء تعاني شحاً في الأسواق، والأمر ذاته بالنسبة للأقلام الخاصة بجرعات الإنسولين التي لا تتوافر أيضاً في غالبية الصيدليات الحكومية، وتكون سبباً رئيسياً في زيادة أعداد المرضى الذين يقفون في طوابير يومية بحثاً عنها باعتبار أن مرض السكر يعد الأكثر انتشاراً في مصر.
وتشير أرقام وزارة الصحة المصرية إلى معاناة 11 مليون مواطن من داء السكري، فيما أشارت جمعية الإسكندرية للغدة الدرقية عام 2016 إلى أن 10% من المواطنين يصابون بها، وهو ما يبرهن على فداحة تأثير نقص تلك الأدوية الخاصة بتلك الأمراض، تحديداً وأن مرضى الغدة الدرقية يزدادون بشكل مطرد في مصر وتتسبب مشكلات ضعف قدرات التشخيص والالتزام بالجرعات العلاجية في زيادة خطورة المرض.
وأشار مصدر مطلع بنقابة الصيادلة لـ"عربي بوست" إلى أن النقص الحالي في بعض أصناف الأدوية يعد مقدمة لأزمة دواء متفاقمة، من المتوقع أن تصل ذروتها في منتصف مارس/آذار المقبل، وأن الأزمة ستطال الأدوية المحلية والمستوردة أيضاً.
وأوضح أن المشاكل الراهنة التي تطال غالبية الأدوية المستوردة من الخارج نتيجة عدم القدرة على توفير الدولار اللازم لاستقدامها سينتقل مردودها إلى خامات الإنتاج المعرضة لمواجهة أزمة كبيرة في حال عجز البنوك عن توفير الدولار اللازم لاستيرادها، كاشفاً أن الشركات المحلية تعتمد في الوقت الحالي على المخزون القديم لديها.
شركات الدواء العالمية لا تثق في قدرة البنوك المصرية بتوفير الدولار
وأضاف أن المشكلة الأكبر تتمثل في أن كثيراً من شركات الدواء العالمية وغيرها من الشركات والمصانع التي تورد خامات الإنتاج لا تطمئن لمسألة توفير الدولار من خلال البنوك المصرية، وتخشى من القدرة على التسليم في ظل استمرار عدم القدرة على توفير العملة الصعبة.
وفي الوقت الحالي تصعب المعاملات المباشرة بين الشركات وبعضها بعضاً مع اختفاء السوق السوداء تقريباً، وعدم قدرة كثير من الشركات على توفير الدولار خارج منصة البنوك الرسمية، وهو ما يمهد نحو الدخول في أزمة شح دواء في جميع الأصناف.
ويترتب على أزمات شح الدواء العديد من المشكلات الصحية للمواطنين. وإذا لم يتمكنوا من الحصول على العلاج فإنهم قد يحصلون عليه من خلال مصانع غير مرخصة تقدم أدوية مغشوشة للمواطنين.
ووفقاً للمتحدث ذاته، فإن نقص أصناف بعينها من الأدوية يدفع نحو تخزينها في أكثر من أربعة آلاف مخزن غير مرخص؛ انتظاراً لتحقيق أعلى سعر من الكميات الموجودة لبيعها، لكن سوء التخزين دائماً ما يؤدي لتلف تلك الأدوية.
وتوظف كثير من التطبيقات الرقمية الحديثة التي تعرض توفير الدواء من مصادر عديدة دون أن يتعرف المريض على مصدرها الرئيسي ويضطر إليها ملايين المواطنين غير القادرين على الوصول إلى الأدوية من خلال الصيدليات الحكومية أو الخاصة، بحسب عضو مجلس نقابة الصيادلة.
وشدد أيضاً على أن خطورة الأمر تكمن في أن الأدوية غير المتوافرة بالأسواق تتعلق بأصناف حيوية، وتعتبر منقذة لحياة المرضى ويصل الأمر إلى أن 25% من تلك الأدوية لا تتوافر الآن. وهو ما يدفع المرضى إلى الحصول عليها بكافة السبل الممكنة.
إفراجات الحكومة عن السلع المكدسة بالموانئ لم تحل الأزمة
خلال الأشهر الماضية تضاعفت أسعار غالبية أصناف الأدوية المحلية والمستوردة بسبب تراجع قيمة الجنيه ووقف الاستيراد وتكدس المواد الخام والأدوية بالموانئ لأشهر طويلة، في ظل مطالبات عديدة بضرورة التدخل للإفراج عن الشحنات المكدسة بالأسواق.
ورغم تأكيدات الحكومة المصرية أنها أفرجت عن جميع السلع، فإن أزمات نقص الدواء لم تنتهِ.
ويرجع مصدر مطلع بغرفة صناعة الدواء استمرار الأزمة لأن عمليات التعاقدات التي تتم بالأساس بين الشركات المصرية ونظيرتها الأجنبية، سواء كان ذلك على مستوى الأدوية أو مستلزمات الإنتاج، تراجعت بنسبة 70% خلال العام الماضي، وهو ما يجعل الواردات لا تكفي الحاجة للعلاج؛ وهو ما يؤدي لحدوث ظواهر جديدة لم تكن حاضرة من قبل مثل تفريغ السوق من الدواء، والتي يصل عددها إلى تسعة آلاف صنف من ضمنها المستلزمات الطبية ذات العلاقة المباشرة بسوق الصيادلة مثل الحقن والآلات اللازمة للعمليات الجراحية وبعض الأجهزة الطبية.
ورغم أن البنك المركزي المصري وضع الأدوية ضمن عدد من السلع المستثناة من نظام الاعتمادات المستندية ثم إلغاء العمل به من الأساس منذ نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي، إلا أن ذلك لم يوقف التأثير السلبي لقطاع الأدوية نتيجة قلة توافر المعروض من العملة الصعبة وعدم القدرة على إبرام تعاقدات معتادة بين الشركات المصرية والأجنبية، وترتب ذلك على زيادة أسعار الأدوية وعدم توافر بعضها، بحسب ما أكده المتحدث ذاته.
تأتي الاحتياجات الطبية في المرتبة السادسة على قائمة الواردات سنوياً بقيمة 5.1 مليار دولار. وفي المقابل، تصدر الصناعات الطبية سنوياً بقيمة أقل من ذلك بكثير، حوالي 692 مليون دولار، ما يعني أن القطاع يعاني من عجز بالسلب بقيمة 4.4 مليار دولار سنوياً، وهو ما يشكل رقماً يصعب توفيره بشكل سلس في ظل أزمات الدولار الحالية.
وأضاف المصدر لـ"عربي بوست" أن الإفراجات الأخيرة التي قامت بها الحكومة منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي لم تكن كافية لأكثر من سبب، إذ إنها قامت بالإفراج عن دفعات متتالية على مدار شهرين تقريباً، وفي كل مرة كان سوق الدواء بحاجة لمزيد من الأدوية الشحيحة.
كما أن كثيراً من شركات الأدوية المحلية تأثرت سلباً بتوقف استيراد مستلزمات الإنتاج ولم تكن جاهزة للعمل من جديد وتراجعت إنتاجية الدواء المحلي.
خسائر فادحة للصيدليات
ولفت إلى أن الصيدليات – على الجانب الآخر – مُنِيت بخسائر فادحة خلال الأشهر الماضية نتيجة الزيادات المستمرة في أسعار الأدوية المستوردة من الخارج وتوقف بعضها عن شراء الأدوية.
لكن هذا الجانب من المفترض ألا تتأثر به صيدليات المستشفيات الحكومية التي تعاني بسبب زيادة الإقبال عليها حتى مع توفير بعض الأدوية.
ومؤخراً طالب النائب بمجلس النواب المصري، أيمن محسب الحكومة بالتدخل لتوفير نواقص الأدوية؛ من خلال تفعيل إدارة الأزمات بهيئة الدواء، بعد اختفاء أدوية المضاد الحيوي وبعض علاجات الأمراض المزمنة والأورام السرطانية، لافتاً إلى أنه في حال إتاحتها للمرضى تكون أسعارها مرتفعة للغاية بما يفوق السعر العادل.
وقال صاحب إحدى الصيدليات الكبرى بمنطقة وسط القاهرة، إن أبرز الأدوية التى لا توجد بالصيدليات الخاصة بعلاج مرض السكر وهي "Victoza-ozympic-tresiba"، وأيضاً حقن الصبغة التي يحتاجها مرضى الفشل الكلوي. وبالرغم من ارتفاع أسعارها بنسبة 300% إذ وصلت إلى 1400 جنيه للحقنة الواحدة، لكنها لا تتوافر في الأسواق ويتم بيعها على استحياء في السوق السوداء، إلى جانب أدوية الكلى الأخرى مثل "كيتو ستريل" والذي وصل سعره إلى 800 جنيه ولا يتوافر في الأسواق أيضاً.
وأضاف أن أدوية الأمراض السرطانية تعد أيضاً من أكثر الأنواع اختفاءً من السوق مثل عقار "ليوكيران" والذي ارتفع سعره من ثلاثة جنيهات قبل ستة أشهر ووصل إلى 66 جنيهاً لكنه لا يتوافر أيضاً، وهو أحد الأدوية التي لا يمكن الاستغناء عنها لمرضى سرطانات خلايا الدم، إلى جانب عقار "الكيران"، والمستخدم كمضاد للسرطان وارتفع سعره أيضاً من 7 جنيهات إلى 91 جنيهاً بنسبة زيادة بلغت 1200% ولا يتوافر أيضاً.
أدوية السرطان المدعمة تختفي من الأسواق
هذا إضافة إلى عقار "أميوران" الذي ارتفع سعره من 50 جنيهاً إلى 300 جنيه بنسبة 500%، وهو مثبط مناعي للحالات المرضية التي خضعت لزراعة عضو كالكلى، لمنع الجهاز المناعي من مهاجمة العضو الجديد.
ووفقاً للمتحدث ذاته، فإن تلك الأدوية تأتي مستوردة من الخارج ولكنها كانت تخضع لدعم حكومي؛ وهو ما كان سبباً في انخفاض أسعارها. ولكن مع تحرير أسعارها وتوقف استيرادها لم يستطِع المرضى الحصول عليها.
الأزمة الأكبر كما يوضح الصيدلي لـ"عربي بوست" أن بدائل تلك العقاقير من الأدوية المحلية لا تتوافر أيضاً، إما بسبب عدم قدرة الشركات العاملة في مصر على استيراد المواد الخام من الخارج مع استمرار مشكلات شح الدولار، أو لعدم تحريك أسعار الدواء بسعر يضاهي التراجع في سعر الجنيه مع تحديد أسعار جبرية للبيع.
وبالتالي فإن كثيراً من الشركات خفّضت من إنتاجها أو أوقفت عملية التوزيع لحين التعرف على ما تسفر عنه الاجتماعات الدورية للجنة التسعير الحكومية.
وخلال هذا الشهر تقدمت 50 شركة من مصنعي الأدوية لهيئة الدواء بمذكرة رسمية، تطلب من خلالها تحريك أسعار الأدوية في ضوء زيادة التكاليف والنفقات وتحريك سعر الصرف، لتفادي انقطاع وتوقف إنتاجها، مع ارتفاع المواد الخام ومستلزمات الإنتاج، إضافة للإجراءات الجديدة المنظمة لعملية الاستيراد من الخارج "الاعتمادات المستندية " ونقص العملة الصعبة "الدولار الأمريكي" وتعطيل الإفراجات الجمركية.
وكشفت تلك الشركات عن مبرر طلب تحريك سعر الأدوية بما فيها المحلية، وهو أن 95% من المادة الفعالة المستخدمة في التصنيع مستوردة، مما أدى لتحريك سعر الصرف وتراجع الجنيه أمام الدولار، ونتج عن هذا ارتفاع أسعار المواد الخام أيضاً، بالإضافة إلى ارتفاع النقل والتصنيع ومرتبات العمالة أيضاً.
وأعلنت هيئة الدواء عن إحصائية توضح من خلالها أن مصر تستورد مستلزمات إنتاج في الدواء لنحو 17 ألف عقار يتم إنتاجه محلياً.
ويلزم قرار الحكومة المصرية رقم (23) لسنة 2017 بيع الدواء بالسعر الموجود على العلبة، وبيع الجديد بالقديم حسبما يطلق عليه الصيادلة، وبالتالي في حال تطبيق السعر الجديد، فإن الصيدلي ملزم ببيع الدواء بالسعر الموجود على العلبة، ما يؤدي لخلل واضح في إيراداته ومن ثم نتجت السوق السوداء للأدوية.