حينما نتحدث عن قصص حياة اللاعبين، فإننا نبحث دائماً عن المعاناة أو الفقر، أو نبحث فيهم عن الموهبة أو الجينات، لكن هذه القصة مختلفة تماماً، فهو لم يُعانِ أبداً؛ لأن بلده نفسها غير موجودة على خريطة كرة القدم.
خفيتشا كفاراتسخيليا، أو كفارا، هكذا يُنطق اسمه الصعب الذي لا يُشبه سلاسة موهبته وقدراته، في العاصمة الجورجية تيبلسي وُلد، فهو ابن اكتسب من أبيه حب اللعبة حتى وإن لم توجد دولته نفسها على الخريطة؛ بادري كفاراتسخيليا، اللاعب الجورجي الذي لعب في الدوري الأذربيجاني لكرة القدم.
ثم أصبح بادري مدرباً واضطر فيما بعد لاعتزال مهنة التدريب، في الوقت نفسه كان خفيتشا يراقب نجوم اللعبة الكبار، وتأثر بشدة بكريستيانو رونالدو النجم البرتغالي وأسطورة ريال مدريد.
أراد أن يكون موجوداً في أضواء أوروبا واهتمام إعلامها، وبدأ رحلته من أبسط زوايا وطنه؛ دينامو تيبلسي الجورجي، وتدرج في الفئات السنية دون أن يقترب أي لاعب في الأكاديمية منه ومن موهبته، لخمس سنوات متتالية كان أفضل لاعب في فريق الشباب؛ لذا رأوا أن وقته مع الكبار قد حان.
هو من المواهب التي قفزت عدة قفزات في قفزة واحدة، 16 عاماً و7 أشهر فقط من عمره، كانت كافية جداً لأن يصل إلى الفريق الأول في ديانمو تيبلسي؛ ليصبح بذلك أصغر لاعب في تاريخ النادي الذي يقترب عمره من 100 عام تمثيلاً له!
ومن الفريق الأول في دينامو تيبلسي إلى روستافي الجورجي، ومن روستافي خارج حدود الوطن؛ روسيا في الجوار وبطموح أكبر وأرقى، تحديداً نادي لوكوموتيف موسكو على سبيل الإعارة، أحد أكبر أندية روسيا على الإطلاق.
شاهده يوري سيمن، ويوري كان مدرب فريق لوكوموتيف موسكو آنذاك، ويوري حاول زجه في الفريق لما رآه من موهبة وإبداع، لكنه صُدم بأن إعارة كفاراتسخيليا ستنتهي والنادي لن يبحث عن خيار الشراء؛ لدرجة أنه بكى بدموع حقيقية لوالده لأنه تمنى أن يبقى كفارا للأبد في لوكوموتيف!
ودموع يوري لم تتوقف عند الخروج، بل زادت بالدخول، فكفارا لم يخرج بعيداً عن روسيا، بل وجدوه فرداً في قائمة فريق منافس في الدوري الروسي؛ روبن كازان، ولم تكن الحياة رحيمة بيوري ولا ناديه لوكوموتيف، لأن كفاراتسخيليا، وفي أول مباراة يشارك بها رفقة روبن كازان، سجل هدف التعادل وتم اختياره كأفضل لاعب في المباراة رغم حلوله بديلاً من قبل جماهير روبن كازان.. ضد من كانت تلك المباراة؟ ضد فريقه السابق لوكوموتيف موسكو ومدربه الباكي يوري سيمن.
خلال هذه الفترة، أصدرت صحيفة الغارديان البريطانية تقريراً تتحدث فيه عن أهم 60 موهبة في العالم في عام 2018، وبالطبع كان خفيتشا كفاراتسخيليا من ضمنها، وكانت روسيا سعيدة به وكان سعيداً بروسيا، إلى أن قررت روسيا أن تُضايق جيرانها فأغضبت العالم كله منها.
ومثلما تمنى يوري سيمن ألا يخرج كفارا أبداً من لوكوموتيف، تمنى روبن كازان ألا تمنح الفيفا اللاعبين الأجانب ما منحتهم إياه من حق في فسخ عقودهم من طرف واحد إثر الحرب الروسية الأوكرانية الماضية!
ولم يتأخر كفارا عن تنفيذ ما منحته إياه الفيفا من حق، وعاد إلى وطنه، هذه المرة في دينامو باتومي، ومن هنا ألقت أوروبا أنظارها نحوه، ووضع نابولي يده عليه قبل أن يخطفه أي فريق أكبر أو حتى ينتقل إلى أي دوري غير الدوري الإيطالي.
كفاراتسخيليا.. حالة فريدة
في عام 2008، غزت القوات الروسية الأراضي الجورجية واحتلتها، وإلى يومنا هذا لا يزال خُمس الأراضي الجورجية تحت الاحتلال الروسي بالكامل، ولهذا السبب لم تُسامحه جورجيا على الهروب إلى روسيا.
حينما كان كفاراتسخيليا في روسيا رفقة لوكوموتيف موسكو وروبن كازان، أرادوا منه أن يتحدث ضد القيادات الروسية ويُدافع عن وطنه وممتلكاته، لكنه اعتذر بطريقة لبقة وقرر ألا يتحدث إلا داخل الملعب فقط؛ وشعروا حينها أنه لم يصل بعد إلى المكانة التي كانوا يعتقدون أنه قد يصل إليها!
في الصيف الماضي، خرج لورينزو إنسيني وديريز ميرتينيز من صفوف نابولي، كما جرت عادة نابولي يخرج النجوم ويأتي غيرهم وهكذا، إلا أن خروج الثنائي المتناغم كان مشكلة حقيقية يصعب تخطيها بسهولة؛ ليجلب نابولي لاعباً جورجياً اسمه عسير النطق، نعرف كمتابعين للكرة الأوروبية صعوبة نطق معظم أسماء لاعبي بولندا وروسيا وغيرهم، لكننا أبداً لم نجد صعوبة مثل تلك التي وجدناها في نطق اسم خفيتشا كفاراتسخيليا.
الأمر الذي دفعه إلى إجراء مقابلة لتهجي اسمه بهدوء لكي يعرف الناس كيف يُنطق، وليس لأن اسمه صعب فحسب، بل لأن ما يفعله كان جديداً على الأذهان؛ هو الذي يُحب كريستيانو رونالدو ويتخذ منه قدوة، فارتدى القميص رقم 77 في نابولي لأن زميله المقدوني إيلاف إلماس سبقه بارتداء الرقم 7 بالفعل، وفي الوقت نفسه أسلوبه في اللعب يُشبه ليونيل ميسي إلى حد كبير لدرجة أنهم في بلده يسمونه "ميسي جورجيا".
ليصل إلى نابولي ويُعيد إحياء إرث مارادونا، ليطلقوا عليه في المدينة "خفيتشا كفارادونا"، وبين كل هذه التناقضات المفهومة، هو في الأصل ينتمي إلى ريال مدريد ويحبه منذ الصغر، وفي مقابلة قديمة قال: "أتمنى أن ألعب مع ريال مدريد في يوم من الأيام وأفوز معه بلقب دوري أبطال أوروبا".
لا أحد كمارادونا في الأرجنتين.. إلا ميسي، لكن في نابولي لا أحد كمارادونا، وأغلق القوس للأبد. توالى النجوم على المدينة، ولقبوا كل واحد منهم بمارادونا الجديد ولم يفلح أحد، الإرث الذي تركه مارادونا غادر عالمنا مع رحيل صاحبه عام 2020.
بعد رحيل مارادونا، قرر نابولي أن يُكرم أسطورته بتغيير اسم ملعبه "سان باولو" إلى "دييجو أرماندو مارادونا" بسبب لقبي الدوري الإيطالي الذي أهداهما الأرجنتيني للمدينة، وبسبب كأس الاتحاد الأوروبي، مارادونا اخترع نابولي كما قال لويس سيزار مينوتي بالضبط!
ووجدت المدينة في كفاراتسخيليا مارادونا جديداً، واشترت قمصانه وهتفت باسمه، لدرجة أنه الاسم الأكثر صخباً في مدينة نابولي بالكامل في الليالي التي يطل فيها نابولي على سكانها.
ومنح كفاراتسخيليا شعبه حياة جديدة خارج حدود دولته؛ يكفي أن تكون مواطناً جورجياً لتحصل على بيتزا مجانية في مدينة نابولي تكريماً واحتراماً لابن بلدك، وهذا ما حدث في ليلة انتصار نابولي الكاسح على ضيفه ليفربول الإنجليزي بنتيجة 4-1 في دور المجموعات من بطولة دوري أبطال أوروبا هذا الموسم.
يكفي أن تكون مواطناً جورجياً ليتم استقبالك والترحيب بك في أي مكان تتخيله في نابولي احتراماً لابن بلدك، اللاعب الذي يقود نابولي في إيطاليا نحو نجمته الثالثة في الدوري، واللاعب الذي يضعون ثقل آمالهم وأحلامهم على عاتقه، ليس لأنه كفارادونا فحسب؛ بل لأن نابولي يخطو خطوات ثابتة بالفعل نحو هذه الحقيقة التي كانت مجرد حلم منذ سنوات.
لو فعلها كفاراتسخيليا، أو كفارادونا؛ ستموت نابولي من البكاء فرحاً، وسيضعونه جنباً إلى جنب مع أسطورتهم مارادونا، وسيتزين قميص نابولي بالنجمة الثالثة، وسيحاولون بشتى الطرق أن يبقى كفاراتسخيليا للأبد سيداً وحاكماً لمدينتهم، تماماً كما فعلوا مع الرجل الذي عُبِد في الأرجنتين وقدسوه في نابولي، لكن اليوم يخترع الصغير تعريفاً جديداً ويضع بلده على خريطة لم تكن موجودة عليها أبداً!
أنتم أيضاً يمكنكم المشاركة معنا في قسم الآراء والتجارب الشخصية عن طريق إرسال كتاباتكم عبر هذا البريد الإلكتروني:opinions@arabicpost.net
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.