أنهى إسماعيل محمد (اسم مستعار)، طالب بكلية التجارة بجامعة قناة السويس، فترة العقوبة التي قضاها داخل أحد السجون شديدة الحراسة، بعد اتهامه في قضية إتلاف مقرات حكومية، والانضمام لجماعة إرهابية، أثناء التظاهرات التي اندلعت عام 2019 ضد الحكومة المصرية، ليجد نفسه ملفوظاً من الجميع، بما فيهم أسرته، التي ليس لها أي انتماءات سياسية، لكنها صُدمت بوجود ابنها المتفوق دراسياً بين المجرمين والإرهابيين داخل السجن.
منذ أن خرج إسماعيل من السجن، قبل ثلاثة أشهر، ضمن قوائم العفو الرئاسي، اختار أن يمكث في غرفته المظلمة التي تشبه كثيراً زنزانته التي قضى فيها قرابة الثلاث سنوات بعد أن خسر كل شيء، بدءاً من علاقته بأسرته، ومروراً بكليته التي أصدرت قراراً بفصله، ونهاية بالمجتمع المحيط به داخل منطقته، بعد أن لاحظ نظرات التدني والاحتقار تارة، والاستعطاف تارة أخرى، لكنه لم يكن يرغب سوى في أن يصبح شخصاً طبيعياً ليعيش حياته من جديد.
يرفض الشاب المصري، البالغ من العمر 24 عاماً، الحديثَ مع غالبية من حوله، وتوصلنا إليه بصعوبة، بعدما أقنعه أحد أصدقائه المقربين بالتحدث معنا، وكشف جزءاً من حياته التي يغلب عليها اليأس والإحباط، لعله يخفف من ضغوطاته النفسية التي أضحت عبئاً عليه، وتحديداً لأنه لم يكن لديه انتماء تنظيمي لأي جماعات أو تنظيمات سياسية، غير أنه كان يُعارض سياسات الحكومة الحالية.
أزمات اجتماعية وصعوبات معيشية
قال إسماعيل لـ"عربي بوست": "كانت حسرة والدي وإخوتي ونظراتهم إلي أثناء فترات الزيارة والمحاكمات تقتلني وتُشعرني بمزيد من الذنب تجاههم، بعد أن انقطعت علاقاتهم بعدد كبير من معارفهم منذ احتجازي، بل إنني كنت سبباً في عدم التحاق ابن عمي بكلية الشرطة، العام الماضي، وهو ما أدى لمشاكل عائلية لم تنتهِ حتى الآن".
وأفصح الشاب عن جملة من المصاعب التي واجهته منذ الإفراج عنه، أولها رفض الجامعة عودته مرة أخرى بدواعٍ قانونية، وعدم قدرته على إيجاد أي فرص عمل باستثناء عمله في أحد المحالّ التجارية لمدة أسبوع فقط، قبل أن يقرر صاحبه الاستغناء عنه؛ خوفاً من أن يُسبب له مشكلات أمنية، وهو ما أصابه بانتكاسة جعلته أسيراً لغرفته، مقتصراً في علاقته على اثنين من أصدقائه فقط.
وأشار الشاب إلى أنه يخضع منذ ثلاثة أسابيع تقريباً لجلسات علاج نفسي، من خلال تنسيقية شباب الأحزاب والسياسيين، التي تواصلت معه قبل شهر ونصف الشهر تقريباً، من خلال أحد الوسطاء المنضم إليها، وجاء لمقابلته في مقر سكنه، لبدء رحلة التأهيل التي تتضمن التأهيل النفسي والاجتماعي، والتواصل مع إدارة الجامعة لاستكمال دراسته، والبحث عن فرصة عمل له، وإنهاء المشكلات الإدارية التي تتعلق باستخراج الأوراق الرسمية.
تنسيقية شباب الأحزاب: جهة حكومية تؤهل 300 سجين سابق
يعد "إسماعيل" واحداً ضمن 300 شاب تعمل التنسيقية، التي تتبع جهات حكومية، على تأهيلهم استجابةً لتعليمات رئاسية بدمج المفرج عنهم. وتستقطب التنسيقية، بحسب مصدر مطلع داخلها، المفرج عنهم ممن لهم نشاط سياسي، لكنهم خارج دائرة الشهرة، وليس لديهم من يساعدهم على الخروج من عزلتهم.
وتبتعد التنسيقية في اختياراتها عن المنتمين إلى جماعة الإخوان، أو الأشخاص المشهورين أو المعروفين الذين لديهم توجهات فكرية أو سياسية. إذ إن مثل هؤلاء الأشخاص – في نظر التنسيقية – يصعب تغيير أفكارهم ومعتقداتهم، بعكس الشباب العادي الذي يمكن تغيير أفكاره "الثورية" بسهولة أكبر.
كما تذهب التنسيقية للشباب المختارين إما وفقاً لمعلومات تتوفر لديها، أو من خلال دراسة مئات الحالات التي تقدمت إليها بطلبات، منذ أن أعلنت عن إعادة تأهيل المفرج عنهم قبل ثلاثة أشهر تقريباً، وذلك بحسب ما أكده مصدر التنسيقية.
وأضاف المصدر لـ"عربي بوست"، أن "لجنة الدمج والتأهيل" التي استحدثتها التنسيقية، في سبتمبر/أيلول 2022، تستهدف تقديمَ الدعم عبر مسارات مختلفة، على رأسها التأهيل النفسي، من خلال لجنة طبية تتبع لجنة التأهيل، وتتعاقد مع عدد من المصحات النفسية بالمحافظات المختلفة، إلى جانب التأهيل الاجتماعي، سواء أكان ذلك من خلال دورات التنمية البشرية، أو البحث عن فرص عمل للمفرج عنهم.
هذا إلى جانب تسهيل عقبات العودة إلى العمل أو الدراسة مرة أخرى، عبر مجموعة من نواب البرلمان المنتمين إلى اللجنة. ويعمل النواب بالتعاون مع الوزارات المختلفة على تقديم التسهيلات اللازمة لحل مشكلات استخراج الوثائق الرسمية. ونهاية بالتأهيل الفكري للتعامل مع أية أفكار مغلوطة تعرضوا لها أثناء فترة الحبس، بحسب ما أكده المتحدث ذاته.
ولفت المصدر ذاته إلى أن التنسيقية خصَّصت ميزانية لتقديم مساعدات مالية لعدد من المفرج عنهم، دون أن يُفصح عن مصدر التمويل، تحديداً لأولئك الذين يعولون أُسراً وليست لديهم فرص عمل.
لكن تلك الميزانية بحاجة إلى دعم القطاع الخاص والمجتمع المدني، بما يساعد على تقديم حوافز مادية تتماشى مع الظروف والأوضاع الراهنة، إلى جانب التوسع في الحالات التي يتم تأهيلها، مشيراً إلى أن اللجنة تعمل على سداد مصروفات أبناء المفرج عنهم، وغيرها من سُبل الدعم المباشرة التي تختلف من حالة إلى أخرى.
شكاوى من ضعف الاستجابة الحكومية
لكن المصدر ذاته يشكو من ضعف الاستجابة الحكومية في بعض الحالات، مثلما هي الحال بالنسبة لتذليل المعوقات القانونية والإجرائية، الخاصة ببعض المفرج عنهم، والتي دائماً ما تتعطل وتنتظر تدخل أحد نواب التنسيقية لتمريرها، إلى جانب توفير الميزانيات الخاصة بالتأهيل النفسي الكامل، والتي تحتاج إلى مبالغ طائلة، في ظل ضعف استعدادات المصحات الحكومية.
ولا يوجد عدد رسمي بأعداد المفرج عنهم من السجون المصرية منذ 2014 حتى الآن، لكن بعض الحقوقيين يقدرونهم بالآلاف، بين متهمين أنهوا عقوباتهم، أو عبر قرارات العفو الرئاسي التي أخذت في التصاعد خلال النصف الثاني من العام المنقضي.
ووصل عدد المفرج عنهم من خلال لجنة العفو الرئاسي إلى ما يقرب من 1200 حالة، بحسب إحصاءات قيادات اللجنة.
الحكومة المصرية تتبرأ من التأهيل وتترك المهمة للتنسيقية
وتتبرأ الجهات الحكومية المصرية من مسألة إعادة التأهيل، وتترك المهمة إلى المجلس القومي لحقوق الإنسان، الذي لا يقوم بدوره بالشكل المطلوب، وكذلك لجنة العفو الرئاسي، وأخيراً تنسيقية شباب الأحزاب، إلى جانب منظمات مدنية تلعب الدور ذاته على استحياء.
وأشار أحد أعضاء تنسيقية شباب الأحزاب، الذي رفض ذكر اسمه بسبب حظر التواصل مع الوسائل الإعلامية، إلى أن لجنة التأهيل تستقبل يومياً عشرات الرسائل الإلكترونية التي تطلب الدعم، إلى جانب مئات الحالات التي يُرشحها نواب برلمانيون لمواطنين بدوائرهم، وكذلك عدد من السياسيين وأعضاء مجلس حقوق الإنسان.
كل هذا يشير لوجود حاجة مُلحة لمشاركة جهات حكومية، وقيام وزارة التضامن الاجتماعي بهذا الدور، وأن التنسيقية بمفردها لن يكون بمقدورها الاستجابة لكل هذه الحالات؛ نظراً للتكلفة المادية الضخمة، إلى جانب الروتين الحكومي الذي يتسبب في تأخر الاستجابة لمطالب المفرج عنهم.
واعتبر أن تعامل الجهات الحكومية مع عودة المفصولين تعد الأصعب، ولا تتم من دون تدخل عدد من أعضاء مجلس النواب، وتستغرق قرارات العودة إلى العمل فترة طويلة، وقد لا تصدر في بعض الأحيان، تحديداً إذا تعلق الأمر بوزارات مثل البترول والكهرباء والصحة، لافتاً إلى أن العامل الأسهل في عملية الدمج يتمثل في إعادة الدمج بالأحزاب والحياة السياسية بوجه عام، والسماح بوجود هؤلاء في المؤتمرات والندوات.
وأوصت ورشة عمل نظمتها تنسيقية شباب الأحزاب هذا الشهر، بإنشاء صندوق لرعاية المفرج عنهم، ودراسة إنشاء كيان تابع لإحدى الجهات، يعمل على تنظيم تأهيل ودمج المفرج عنهم، من خلال تقديم الرعاية الصحية وتنظيم عملية التأهيل المهني، إلى جانب وضع حوافز للقطاع الخاص لتشغيل المفرج عنهم، وعمل زيارات منزلية لهم من لجنة العفو أو التنسيقية، على سبيل رد الاعتبار الاجتماعي.
ودائماً ما تصدر قرارات الفصل بشكل غير قانوني، ويتم تسييسها للتخلص من المتهمين على ذمة قضايا لها علاقة بالرأي، وفي حالات عديدة يجد المحبوسون احتياطاً على ذمة قضايا، أنفسَهم مفصولين من العمل، في حين أن قانون الخدمة المدنية المصري ينص على أن يحصل الموظف الذي يُحبس احتياطياً على ذمة قضية، أو من يُنفذ حكماً جنائياً غير نهائي على نصف أجره، في حين يُحرم من كامل أجره إذا تمت إدانته وصدر بحقه حكمٌ نهائي.
كما يمنع القانون إنهاء خدمة الموظف ما لم يتم الحكم عليه بعقوبة جنائية أو عقوبة مقيدة للحرية في جريمة مخلة بالشرف والأمانة، أو تُفقده الثقة والاعتبار، لكنه يجيز إنهاء عمله إذ انقطع عن العمل لمدة 15 يوماً متصلة، أو 30 يوماً منفصلة، دون إذن أو عذر مقبول.
يذهب أحد المفرج عنهم لتأكيد أن عملية تأهيل المفرج عنهم في مصر لا وجود لها على أرض الواقع، وأن كثيراً ممن قضوا فترات حبس طويلة داخل السجون دون وجه حق ينقمون على كل ما له علاقة بأي جهات حكومية، وأن ما يتعرضون له من قهر أثناء فترة الحبس وعقب الإفراج عنهم يُصعّب من مهمة الدمج إذا وُجدت بالأساس.
التراجع عن الأفكار السياسية لا يكفي لدمج المفرج عنهم
وأضاف المصدر، الذي قضى عقوبة السجن لمدة عام ونصف العام، بتهمة الانضمام إلى جماعة محظورة، أنه يجد صعوباتٍ عديدة في الاندماج بالمجتمع، بعد عامين من الإفراج عنه، بالرغم من أنه أعلن عدم إيمانه بأي مواقف سياسية كان يؤمن بها قبل القبض عليه، وقدّم ما يُشبه عملية المراجعات الفكرية، وحاول التسويق لها بوسائل إعلامية مصرية.
لكنه اصطدم بأن المحيطين به يتعاملون معه على أنه عميل للأمن المصري، وينظر إليه آخرون على أنه تخلّى عن مبادئه، وفي كل الحالات فإنه يجد صعوبة في التواصل داخل الدوائر الاجتماعية الضيقة.
إلى جانب ذلك، فإن الشاب الذي يبلغ من العمر 37 عاماً، ولديه طفل، لم يتمكن من العمل حتى الآن، وليس لديه ما يكفيه لتدشين مشروعه الخاص، كما أنه لم يتمكن من السفر خارج البلاد منذ الإفراج عنه، ويواجه مشكلات كلما ذهب إلى مصلحة حكومية لإصدار أوراق أو شهادات خاصة، وفي مرات عديدة يتم التحفظ عليه وعرضه على النيابة للتأكد من موقفه، هذا إلى جانب الاستدعاءات العديدة بأقسام الشرطة بين الحين والآخر، للتأكد من عدم وجود نشاط سياسي له.
ويرى المتحدث ذاته أن عملية التأهيل في حال نجاحها لا بد أن تكون وفقاً لرؤية شاملة وواضحة للدولة، وتكون نابعة أساساً من المؤسسات الأهلية والحكومية، وليس تركها لتنظيمات سياسية أو أفراد؛ حتى تكون استراتيجية عامة، تسير عليها لسنوات طويلة، بحيث تضمن تحقيق نتائج إيجابية.
الإرادة السياسية مازالت غائبة
والأهم، وفقاً للمصدر، أن تكون هناك إرادة سياسية لاستيعاب المفرج عنهم، وهي لم تتوفر بالشكل الكافي حتى الآن، كما أن عملية التأهيل لا بد أن تبدأ من داخل السجن، على أن تستمر عملية المتابعة لفترات طويلة، لمواجهة التقلبات العديدة التي يمر بها الشباب المفرج عنهم، ارتكاناً إلى طبيعتهم التي تجعلهم أكثر عرضةً لاضطرابات عديدة، وبما يساعدهم على مواجهة تعنت الأجهزة الحكومية، ويضمن عدم إلقاء القبض عليهم مجدداً، وعدم تحوّلهم إلى مجرمين جدد.
وذكر مصدر حقوقي لـ"عربي بوست"، أن أي محاولات لإعادة التأهيل سوف تصطدم بإجراءات وقرارات وقوانين وضعتها الحكومة، سوف تعرقلها، ولا يمكن الحديث عن وجود مساعٍ لإعادة التأهيل في وقت قامت فيه الحكومة بعمليات فصل جماعي، بتهمة الانضمام إلى جماعة الإخوان وتنظيمات إرهابية، كما أن العديد من أحكام القضاء التي صدرت خلال السنوات الماضية، وقضت بعودة مئات المفصولين إلى أعمالهم، سواء أكانوا من المفرج عنهم أو غيرهم، لم يتم تنفيذها حتى الآن.
ويشير إلى أن القرارات الحكومة تقوّض أي مساعٍ لإعادة الدمج داخل البيئة الصغيرة المحيطة بالمفرج عنهم، وليس المجتمع ككل؛ لأن أبرز مآسي المفرج عنهم تتمثل في منع تعيين أقاربهم في معظم الوظائف، بسبب التحريات الأمنية، خاصةً الوظائف القيادية، والحرمان من دخول كل الكليات العسكرية، والتضييق على زوجاتهم، إذا كانت لديهن معاملات في المصالح الحكومية.
ويشير إلى أن تنامي ظاهرة المنع من السفر، وإيقاف الأجهزة الأمنية للمفرج عنهم في المطارات المصرية، تحديداً ممن لديهم نشاط سياسي أو حقوقي يضع عراقيل أخرى؛ لأن قوائم منع السفر لا يتم تحديثها، ويجد من يذهب للخارج لأي سبب أنه محتجز لبضع ساعات، وقد لا يتمكن من السفر في النهاية، وكذلك الوضع لمن كانوا في الخارج ويعودون إلى الأراضي المصرية.