حصلت قوات الحشد الشعبي أخيراً على ما كانت تسعى إليه بعد سنوات من الضغط على الحكومة، وهو تأسيس شركة بشكل رسمي تكون بمثابة الذراع الاقتصادية لها، على غرار قوات الحرس الثوري الإيراني.
بعد سنوات من القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية، والتأرجح بين توسيع وانهيار نفوذ الحشد الشعبي، اجتماعياً، وسياسياً، واقتصادياً، نجحت قوات الحشد الشعبي العراقي في عقد صفقة مربحة، مع الحكومة العراقية المُشكلة حديثاً، برئاسة محمد شياع السوداني.
ودائماً ما كانت قوات الحشد الشعبي، أو ما يطلق عليها "وحدات الحشد الشعبي" بالعراق محل جدل ومناقشة حول الدور الذي تلعبه، منذ تأسيسها في عام 2014 لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية، الذي استولى على عدد كبير من الأراضي العراقية في صيف عام 2014، وسط انهيار لقوات الجيش النظامي العراقي، والقوات الأمنية الحكومية.
ومنذ أن أعلن العراق انتصاره في قتاله ضد تنظيم الدولة الإسلامية في نهاية عام 2017، زادت أرصدة قوات الحشد الشعبي، لدى الجمهور العراقي، باعتباره السبب في هذا الانتصار، فسعت قوات الحشد الشعبي، إلى استغلال هذه الجماهيرية، لتوسيع نفوذها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في العراق، بمساعدة ومباركة إيرانية.
صفقة اقتصادية كبيرة
خلال الأسابيع القليلة الماضية، بشكل مباغت وسريع، وافق مجلس الوزراء على طلب من هيئة الحشد الشعبي، لتأسيس شركة عامة، برأس مال قدره 100 مليار دينار عراقي، أي ما يعادل 67 مليون دولار أمريكي، كبداية لعمل هذه الشركة.
ستحمل الشركة اسم "شركة المهندس"، على اسم الأب الروحي لقوات الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، الذي قتل في الضربة الجوية بطائرات من دون طيار، والتي استهدفت الجنرال الإيراني القوي، قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، في الأيام الأولى من عام 2020، بالقرب من مطار بغداد الدولي.
في هذا الصدد، يقول مسؤول حكومي عراقي رفيع المستوى، لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته، نظراً لحساسية الموضوع: "موافقة السوداني لتأسيس شركة "المهندس"، الحشد الشعبي، تعتبر أكبر صفقة اقتصادية لقادة الحشد الشعبي، بشكل رسمي وحكومي".
وعلى الرغم من أن القانون العراقي لا يسمح للهيئات العسكرية والأمنية بتشكيل شركات اقتصادية، أو ممارسة أي نشاط اقتصادي برعاية الحكومة، وافق رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني على منح الموافقة لهيئة الحشد الشعبي بسهولة، كما وصفها المسؤول الحكومي العراقي.
وأضاف في حديثه لـ"عربي بوست": "منذ سنوات والحشد الشعبي يحاول الحصول على موافقة مجلس الوزراء لتأسيس شركته الخاصة، على الرغم من أنشطته الاقتصادية غير الرسمية وغير الحكومية. في السابق، تفاوضت هيئة الحشد الشعبي مع مصطفى الكاظمي، من أجل الموافقة، لكنه عرقل المشروع، دون إبداء رفض مباشر ونهائي، خوفاً من انتقامهم".
تجدر الإشارة هنا، إلى أن العلاقة بين رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي (2020-2022)، وقوات الحشد الشعبي، خاصة المقربة منها، من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كانت متوترة للغاية، وزاد الصراع بينهما، وذهبت بعض الفصائل التابعة للحشد الشعبي مثل عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله، لاتهام الكاظمي بالتورط في اغتيال الرجلين المؤثرين (قاسم سليماني، وأبو مهدي المهندس)، عندما كان يترأس جهاز المخابرات العراقي، في ذلك الوقت.
بالعودة إلى موافقة رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، على تأسيس شركة استثمارية تابعة للحشد الشعبي الذي بموجب القانون يعتبر كياناً شبه عسكري تابعاً للقوات المسلحة العراقية، يقول مصدر قضائي عراقي لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته: "حتى الآن تُعتبر موافقة السوداني غير قانونية، لكن ليس دائماً ما تسير الأمور في العراق وفقاً للقوانين والدستور".
لكن لماذا وافق محمد شياع السوداني على منح موافقته لتأسيس شركة "المهندس"؟
يُجيب على سؤال "عربي بوست"، سياسي شيعي بارز ومقرب من نوري المالكي، رئيس الوزراء العراقي السابق (2006-2014)، ورئيس ائتلاف دولة القانون في البرلمان الحالي، بالإضافة إلى كونه أحد أبرز قادة الإطار التنسيقي الشيعي، قائلاً: "من الظاهر لنا، أن فصائل الحشد الشعبي، وبالتحديد عصائب أهل الحق، عقدوا صفقة مع السوداني، للموافقة على تأسيس شركة المهندس، مقابل حماية حكومته وضمان استمراره في المنصب".
وأضاف: "لكن هذا الأمر خطير، لأن هناك قادة في الإطار رافضين لهذه الصفقة"، في إشارة إلى نوري المالكي.
وبحسب المصدر ذاته فإن المالكي يرفض تأسيس شركة المهندس، ويخشى من التعاون بين السوداني وعصائب أهل الحق.
فصيل عصائب أهل الحق، واحد من أكبر فصائل الحشد الشعبي العراقي، ومقرب من إيران، وبالتحديد من الحرس الثوري الإيراني، ويتزعمه قيس الخزعلي، وبحسب السياسيين والمسؤولين العراقيين، الذين تحدثوا لـ"عربي بوست"، فإن قيس الخزعلي على توافق وانسجام مع حكومة محمد شياع السوداني، ما أثار مخاوف نوري المالكي.
شركة "المهندس".. على نهج الحرس الثوري الإيراني
منذ تأسيس هيئة الحشد الشعبي في صيف عام 2014، ذهب البعض إلى تشبيهها بالحرس الثوري في إيران، في كثير من الأوقات، خاصة بعد توسيع نفوذه السياسي منذ الانتخابات البرلمانية في عام 2018.
الآن، وبعد سعي الحشد الشعبي لتأسيس شركة اقتصادية باسم "المهندس"، ورغبته في لعب دور اقتصادي رسمي، أصبح تشبيهه بالحرس الثوري الإيراني، أقرب إلى الواقع، في الدور الاقتصادي الكبير الذي يلعبه الحرس الثوري في إيران، وسيطرته على أغلب المجالات الاقتصادية الحيوية في البلاد، لا يمكن إخفاؤه أو إنكاره.
في حديثه لـ"عربي بوست"، يقول مسؤول عراقي ثانٍ، ومقرب من رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني: "موافقة السوداني على تأسيس شركة المهندس، ليست صفقة بالشكل المعروف، لكنها كانت مسألة مطروحة قبل تكليف السوداني من قبل عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، وموافقة السوداني الآن هي محاولة لتحقيق التوازن بين القوى السياسية العراقية".
لكن على الجهة المقابلة، يرى خبير أمني يقيم في بغداد، رفض ذكر اسمه لأسباب أمنية، إن شركة "المهندس" "استنساخ نموذج الحرس الثوري الإيراني"، فيقول لـ"عربي بوست": "تأسيس شركة المهندس، وموافقة مجلس الوزراء عليها، أول خطوة علنية رسمية للحشد الشعبي لتكرار نموذج الحرس الثوري الإيراني، في العراق، مع اختلاف الظروف بين البلدين بالطبع".
وأضاف المصدر ذاته لـ"عربي بوست": "منذ اللحظة التي دخل فيها الحشد الشعبي الساحة السياسية، وهو ينشط في الخدمات المدنية وأعمال البناء وإعادة الإعمار، في المناطق المتضررة من الحرب ضد داعش، ويضع أمامه نموذج نجاح الحرس الثوري في إيران، وسيطرته على صنع القرار السياسي. الآن، يريد أن يخرج بهذا النموذج إلى العلن، مقابل دعم حكومة السوداني".
تعلم الدرس.. ومحاولة استعادة الشعبية
بعد انتصار فصائل الحشد الشعبي في الحرب ضد تنظيم الدولة الإسلامية، كانت شعبيته في أعلى مستوياتها، واستطاع الفوز في الانتخابات البرلمانية لعام 2018، التي عُقدت بعد انتهاء القتال مع تنظيم الدولة الإسلامية، بعدد مقاعد يصل إلى 35 مقعداً من ضمن 329 مقعداً في البرلمان العراقي، داخل تحالف فتح البرلماني، الذي يضم الأجنحة السياسية للفصائل المسلحة المقربة من طهران.
لكن بعد الاحتجاجات الجماهيرية واسعة النطاق، والتى تركزت أيضاً في المدن الشيعية جنوبي العراق، في أكتوبر/تشرين الأول 2019، أو ما يطلق عليه "حركة تشرين"، وتدخل بعض فصائل الحشد الشعبي، خاصة الموالية لإيران، في قمع تلك الاحتجاجات، وبالتحديد تورط الفصيلين الأقوى داخل مظلة الحشد الشعبي (عصائب أهل الحق، وكتائب حزب الله)، في مطاردة واغتيال واعتقال النشطاء السياسيين وقادة الحركة الاحتجاجية، انهارت شعبية الحشد الشعبي، بشكل كبير. ظهر هذا التدهور في حرق المتظاهرين لمقرات هذه الفصائل في المحافظات العراقية.
لم ينتهِ الأمر عند هذا الحد، فبعد الفوز الكبير الذي حققه رجل الدين الشيعي، والسياسي العراقي المثير للجدل، وزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، في الانتخابات البرلمانية التي تم إجراؤها في 10 أكتوبر/تشرين الأول 2021، تلقت الأجنحة السياسية للحشد الشعبي، هزيمة مدوية بحصوله على ما لا يتجاوز الـ20 مقعداً، وسط رغبة مقتدى الصدر في تشكيل حكومة من دون الجماعات السياسية والفصائل المسلحة، والانفراد بالسلطة.
شعر قادة الحشد الشعبي، بقلق كبير من أن ينجح مقتدى الصدر في المستقبل في إزاحتهم من المشهدين السياسي والاقتصادي، في العراق، بحسب المسؤولين والسياسيين العراقيين الذين تحدثوا لـ"عربي بوست".
يقول زعيم سياسي في الإطار التنسيقي الشيعي، ومقرب من الفصائل المسلحة الموالية لإيران، لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته: "لقد تعلم قادة الحشد الشعبي الدرس جيداً من محاولة مقتدى الصدر بالانفراد بالحكم، كما أنهم على دراية كاملة بانهيار شعبيتهم في المحافظات الشيعية المهمة بالنسبة لهم. وجاء انسحاب الصدر من العملية السياسية، كهدية ثمينة على طبق من ذهب، فعملوا على لملمة شتاتها والعمل على انقساماتها الداخلية، من أجل الحفاظ على وجودهم السياسي، وتوسيع نفوذه الاقتصادي لتأمين موارد مالية".
تجدر الإشارة إلى أنه في أغسطس/آب 2022، وبعد انسداد سياسي استمر لعامين في العراق، تراجع مقتدى الصدر، زعيم التيار الصدري، الفائز الأكبر في الانتخابات البرلمانية لعام 2021، عن موقفه بتشكيل حكومة أغلبية وطنية من تياره والكتل البرلمانية الأكبر من المكونين السني والكردي، وأعلن انسحابه من المشهد السياسي العراقي، تاركاً المجال، لسيطرة الإطار التنسيقي الشيعي، خصمه اللدود، وهو مظلة سياسية تجمع أغلب الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة الشيعية، المعتدل منها، والمقرب من إيران أيضاً.
هناك نقطة أخرى مهمة في هذا السياق، وهي أن شركة المهندس، التي سيتم تأسيسها في المستقبل القريب، ليست تابعة لكافة وحدات الحشد الشعبي، والتى تضم فصيل سرايا السلام، التابع لمقتدى الصدر، وقوات "حشد العتبات"، أي القوات التى كانت مكلفة بحماية الأضرحة والعتبات الدينية في العراق، في أثناء القتال مع تنظيم الدولة الإسلامية، والتي تدين بشكل مباشر بالولاء لآية الله العظمى، علي السيستاني، المرجعية الشيعية الدينية الأكبر والأبرز في العراق.
وبحسب مسؤول عراقي مقرب من فصيل عصائب أهل الحق: "شركة المهندس في الأساس، ستكون لصالح عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله، فهما المالكان الرئيسيان لها".
مخاوف رجال الأعمال
هناك مسألة أخرى لا يمكن إغفالها، فيما يخص موافقة مجلس الوزراء العراقي، لتأسيس شركة اقتصادية تابعة لفصائل الحشد الشعبي "شركة المهندس"، وهي المخاوف الاقتصادية لدى بعض رجال الأعمال في العراق.
في هذا الصدد، يقول أحد رجال الأعمال العراقيين لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته: "الحشد الشعبي موجود بالفعل في المجال الاقتصادي، إنه مسيطر على مجال العقارات وإعادة الإعمار بشكل كبير، ولا تستطيع أي شركة خاصة اختراق هذه المجالات دون الحصول على مباركة من الحشد وعقد الصفقات معه".
وبحسب رجل الأعمال العراقي، فإن عصائب أهل الحق على وجه الخصوص، مسيطرة على مجال الأعمال في مدينة البصرة، بالإضافة إلى وجودها الاجتماعي من خلال مؤسساتها الاجتماعية والاقتصادية.
وأوضح لـ"عربي بوست": "إذا أصبح وجود الحشد الشعبي في المجال الاقتصادي رسمياً من خلال شركة المهندس، فإن الأمور ستكون معقدة، ولدينا مثال الحرس الثوري في إيران، لن يستطيع أي كيان اقتصادي في العراق، منافسة الحشد الشعبي، الذي توجد مئات من الأدوات السياسية والاعلامية، التى تروج له، وتستطيع تدمير سمعة أي مخالف له".
وأشار المتحدث أيضاً إلى مسألة أخرى، وهي خوف المؤسسات الاقتصادية ورجال الأعمال من التعاون الاقتصادي مع شركات الحشد الشعبي قائلاً لـ"عربي بوست": "الحشد الشعبي سيتعامل بالطبع مع الحرس الثوري الإيراني، ومن السهل فرض العقوبات الأمريكية على مؤسسات الحشد الشعبي لتعاونه مع إيران أو تهم تمويل الإرهاب، وهو ما سيقع ضرره على أي رجل أعمال يتعاون مع شركة المهندس المستقبلية".
في هذا الصدد، يقول النائب البرلماني سابقاً، والمستقل، حيدر ذو الفقار لـ"عربي بوست": "فتح الباب أمام الحشد الشعبي للمشاركة الرسمية في الاقتصاد، سيجلب المزيد من الفساد للعراق، وانهيار الاستثمار، بعض رجال الأعمال سيهربون من العراق لخوفهم من التعاون مع قوات تمتلك السلاح، والبعض الآخر فاسدون وسيتعاونون مع الحشد ويدخلون إلى السياسية بمساعدة الحشد، وتزيد مشاكل العراق".
ويضيف السيد ذو الفقار قائلاً: "ناهيك عن الاقتتال الداخلي بين فصائل الحشد الشعبي، على الغنائم التي يحصلون عليها من بعد مشاركتهم الاقتصادية بشكل رسمي، وهذا سيعرض البلاد لخطر نشوب اقتتال داخلي في أي وقت، كما أود أن أُشير إلى أن موافقة السوداني على هذه الخطوة، نقطة سوداء في ثوب حكومته، التي لن يرضى عنها الشعب".