أثار التصريح الذي أطلقه وزير المالية المصري، محمد معيط، متوقِّعاً ارتفاع الصادرات من الغاز المصري إلى مليار دولار شهرياً، جدلاً واسعاً في الأوساط الاقتصادية، في وقت تنخفض فيه الأسعار مع توقعات باستمرار الانخفاض حتى عام 2025، وفي ظل عدم وجود موارد جديدة للتصدير.
هذا التصريح فتح الباب أمام طرح تساؤلات عديدة حول استفادة الاقتصاد المصري من اكتشافات حقول الغاز المصري، مع تفاقم الأزمات الاقتصادية وتراجع قيمة الجنيه. وكان آخر تلك الاكتشافات ما أعلنت عنه شركة "إيني" الإيطالية، الأحد 15 يناير/كانون الثاني، عن اكتشاف حقل غاز جديد يقع في بئر الاستكشاف "نرجس -1″، بالمنطقة الواقعة في منطقة امتياز نرجس البحرية، في شرق البحر الأبيض المتوسط.
وتشير إحصاءات وزارة البترول المصرية إلى أن مصر حققت العام المنقضي رقماً قياسياً في صادرات الغاز الطبيعي، بلغت 8 ملايين طن خلال عام 2022، بقيمة 8.4 مليار دولار، وزيادة نسبتها 140% عن عام 2021، التي بلغت 3.5 مليار دولار، مُستغلةً زيادة أسعار تصدير الغاز المسال عالمياً.
وكان وزير المالية قال في معرض تصريحاته الأخيرة إن مصر بهذا الرقم تمكنت من تحقيق عوائد شهرية بلغت 600 مليون دولار، وإنه يستهدف خلال العام الجاري وصول الرقم إلى مليار دولار، بمعنى أن تصل عوائد التصدير إلى 12 مليار دولار سنوياً، وهو ما شكّك فيه خبراء متخصصون في مجال الطاقة تواصل معهم "عربي بوست".
مواطنون ينتظرون أثر العوائد الدولارية على حياتهم
ودائماً ما تكون العوائد النفطية مثار أسئلة عديدة من المواطنين، الذين انتظروا أن تحقق كل تلك الاكتشافات العديدة لحقول الغاز الطبيعي (أبرزها حقل غاز ظهر) نتائج إيجابية على مستوى حياتهم اليومية، وبالتبعية على دعم الاقتصاد المصري بشكل كلي.
لكن الأوضاع الحالية تشي بأن الاستثمارات الموجهة إلى الحقول قد تكون لديها عوائد سياسية تتمثل في حاجة دول الاتحاد الأوروبي للغاز المصري، ومن ثم تدشين مزيد من الشراكات المصرية مع البلدان الأوروبية، أو عبر منتدى غاز شرق المتوسط الذي تطمح مصر من خلاله لأن تصبح مركزاً إقليمياً للطاقة.
وفي الشهر الماضي، أعلن وزير البترول المصري طارق الملا، أن مصر صدرت نحو 8 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال في 2022، وأن 90% منها لأسواق الاتحاد الأوروبي، مقارنة بالعام الذي سبقه، والذي صدرت فيه مصر نحو 7 ملايين طن من الغاز الطبيعي المسال، منها 80% لأسواق الاتحاد الأوروبي.
زيادة غير مسبوقة في إنتاج الغاز المصري
وحسب بيانات وزارة البترول المصرية، حقّقت مصر زيادة غير مسبوقة في إنتاج الغاز الطبيعي خلال السنوات الخمس الماضية، حيث وصل متوسط الإنتاج اليومي 4 مليارات قدم مكعبة يومياً في عام 2015، وارتفع إلى 7.1 مليار قدم مكعبة يومياً، في سبتمبر/أيلول 2018، وهو ما دعا الحكومة آنذاك إلى أن تعلن اكتفاء مصر ذاتياً من الغاز الطبيعي.
لكنّ مصدراً مطلعاً بوزارة البترول– رفض ذكر اسمه- قال لـ"عربي بوست" إن تصريح وزير المالية ليس له سند من الواقع، لأنه خلال العام الحالي ليس هناك اكتشافات جديدة ستدخل الإنتاج، كما أن محطات تسييل الغاز المصري ستظل كما هي.
وأضاف "سوف نستمر بنفس الطاقة السابقة التي بلغت 7 مليارات قدم مكعبة يومياً، والاكتشافات الجديدة من المقرر أن تدخل الخدمة خلال عامين أو ثلاثة، وفي تلك الحالة يمكن الحديث عن زيادة معدلات التصدير إلى الخارج، مع توسيع محطات الإسالة أو زيادتها".
وانتقد المصدر تصريحات وزير المالية، واصفاً إياها بأنها "لا تتسم بالذكاء السياسي"، لأنه من الطبيعي حينما تزيد معدلات التصدير ستتزايد تساؤلات المواطنين حول العوائد وأوجه صرفها، في حين أنه من المتوقع أن تنخفض المعدلات عن العام المنقضي، الذي وصلت فيه أسعار الغاز الطبيعي المسال إلى أقصى ارتفاعات لها، قبل أن تنخفض خلال الأشهر الماضية، ومن المتوقع أن تأخذ في الانخفاض خلال العام الجاري.
انخفاض الأسعار العالمية يُبدد الطموحات المصرية
وسجّلت عقود الغاز الطبيعي الآجلة في السوق الأوروبية 107 من اليورو (113.5 دولار) للميغاواط في الساعة، وذلك في منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول، وهو سعر أقل بكثير من أعلى سعر وصل إليه الغاز، في شهر أغسطس/آب الماضي، عند 340 يورو (361 دولاراً) للميغاواط في الساعة.
وبحسب تقرير صادر مؤخراً عن مؤسسة "ستاندرد أند بورز"، المختصة بالتصنيف الائتماني، فإن أسعار الغاز الطبيعي ستظل في وضع التراجع خلال العام الحالي 2023. كما أن المؤسسة خفضت توقعات أسعار الغاز للعام الحالي والعامين المقبلين، مقارنةً مع آخر توقعات لها في شهر أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي.
وأشار مصدر حكومي مطلع لـ"عربي بوست" إلى أن أسعار الغاز الطبيعي وصلت إلى أقصاها في العام 2022، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وأن الخطة التي تبنّتها الولايات المتحدة الأمريكية بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي نجحت في تجاوز مشكلات الاستغناء عن الغاز الروسي، وذلك عن طريق تخزين كميات كبيرة من الغاز في فصل الصيف لإيجاد البدائل المطلوبة في الشتاء، وبالتالي لم تحدث الهزة السعرية المتوقعة خلال هذا الشهر.
ومن المتوقع انخفاض أسعار الغاز المسال خلال الصيف المقبل، وهو ما يضمن استقرار اقتصادات تلك الدول التي تضع في حسبانها آليات ضمان عدم التضرر، وأن معدلات الانخفاض في الأسعار غير معروفة حتى الآن، وبالتالي فإن حديث وزير المالية ليس له محل من الإعراب.
تراجع الإنتاج النفطي المصري يؤثر سلباً على طفرة الغاز
ويذهب متخصص في مجال البترول للتأكيد على أن مصر تواجه معضلة أخرى سوف تقلص من عوائد الغاز المصري الطبيعي، لأن إنتاجها من النفط الخام يأخذ في التراجع.
فبدلاً من كون مصر كانت تنتج 630 ألف برميل نفط في اليوم، تشير آخر الإحصاءات إلى أنها لم تنتج سوى 450 ألف برميل يومياً العام المنقضي، وبالتالي فإنها ستعمل على مضاعفة فاتورة استيراده من الخارج.
وأضاف المصدر المقرب من الحكومة لـ"عربي بوست"، أن مصر تعتمد على الخام الكويتي والعراقي والروسي، حتى وإن اعتمدت على التصنيع المحلي فإن استيراد النفط الخام بالدولار يشكل ضغطاً على موازنة الدولة، ودون أن تحقق الدولة الاستفادة الأمثل من عوائد الغاز الطبيعي تحديداً، وخطتها التي انتهجتها لترشيد استهلاك الغاز محلياً سيكون من الصعب تكرارها هذا العام، إذا استمرت أسعار الغاز الطبيعي في الانخفاض.
وتشير تقديرات صدرت العام الماضي، إلى أن إنتاج مصر النفطي تراجع إلى 591 ألف برميل يومياً عام 2021، بانخفاض 2.2% عن العام السابق له، وذلك وفق بيانات مجلة أويل آند غاز عن الوقود الأحفوري في مصر، التي ترصد إنتاج النفط الخام والمكثفات وسوائل الغاز الطبيعي والرمال النفطية.
في أغسطس/آب 2022، كشف رئيس الوزراء مصطفى مدبولي عن خطة حكومته لترشيد استهلاك الكهرباء، تضمنت إيقاف الإنارة الخارجية لمختلف المباني الحكومية والميادين العامة، من بينها ميدان التحرير بقلب القاهرة، وتخفيض إنارة الشوارع والمحاور الرئيسية، وتمت العودة إلى تشغيل عدد من محطات الكهرباء بالمازوت المنتج محلياً، بدلاً من الغاز الطبيعي، ما أدى إلى تحقيق فائض تم تصديره يتراوح ما بين 100 و150 مليون دولار شهرياً.
وكشف مصدر حكومي مطلع لـ"عربي بوست" أن الحكومة المصرية وضعت نصب عينيها تحقيق فائض بمتوسط 15% من حجم الغاز المصري، الذي يضخ لمحطات الكهرباء بغرض زيادة حجم التصدير، وبالتالي توفير عملة صعبة للدولة، تمكنها من تخفيف الضغط نتيجة ارتفاع أسعار المواد البترولية والسلع الرئيسية.
وأرجع المصدر انقطاعات الكهرباء التي تزايدت وتيرتها خلال الأشهر الماضية، واشتكى منها المواطنون، كانت وفق خطة غير معلنة لترشيد الاستهلاك وتوفيره للتصدير، حيث قامت وزارة الكهرباء بتخفيف الأحمال لتوفير الغاز الطبيعي والمازوت (لتشغيل محطات الكهرباء) للمرة الأولى منذ 2015، للحصول على العملة الصعبة وتوفيرها من أجل تلبية احتياجات المواطنين من السلع الأساسية.
ويؤكد خبير مصري بقطاع الطاقة أن تخفيف أحمال الكهرباء في ظل الطفرة الهائلة التي حققتها مصر في مجالات الاكتشافات البترولية، يشير لوجود حلقة مفقودة تدفع الحكومة لمحاولة تحقيق أقصى استفادة اقتصادية من الحقول التي تمتلكها، بما يشير إلى أن سياسات وزارة البترول بحاجة لإدخال تعديلات عليها، حتى تكون الاستثمارات التي تضخها في مجالات التنقيب عن حقول الغاز أكثر فاعلية وإيجابية على الاقتصاد المحلي.
ضعف خبرات التنقيب يخدم شركات دولية
أشار إلى أن ضعف إمكانيات التنقيب تدفع لتوقيع اتفاقات مع شركات دولية كبرى، تتقاسم الأرباح مع الحكومة المصرية، وهو أسلوب متبع في العديد من دول العالم، لكن الأزمة تتمثل في حجم الوعود التي تقدمها الحكومة للمواطنين بتحسن أوضاعهم بشكل مباشر، مع كل تنقيب أو حقل جديد يتم اكتشافه.
وفنّد الخبير ذاته الاتفاقيات التي وقّعتها مصر مع شركات أجنبية للتنقيب واستخراج الغاز المصري المسال، مشيراً إلى أن شركة بريتش بتروليوم البريطانية "بي بي" التي تحصل على حق امتياز اكتشاف وتشغيل حقول الغاز بشمال الإسكندرية هي الوحيدة التي اتفقت معها الحكومة على شراء الوحدات الحرارية، بقيمة 4 دولارات لكل مليون وحدة حرارية، دون أن تتدخل في الحصول على أرباح التصدير.
وتابع قائلاً: "بخلاف شركة إيني الإيطالية، والتي تعد الشريك الأكبر للحكومة المصرية، وحصلت على امتياز اكتشاف وإنتاج حقل ظهر، إذ تحصل على قيمة 40% من الإنتاج كسداد لقيمة الاستثمارات التي ضختها الشركة في المشروع، والتي تبلغ 10 مليارات دولار، وتسددهم الحكومة المصرية على مدار ثماني سنوات، أما فيما يتعلق بنسبة الـ60% الأخرى، فإن الشركة الإيطالية تحصل ضمنها على نسبة 15% كأرباح لها بخلاف قيمة الاستثمارات، وبالتالي فإن مصر تحصل على نسبة 45% من إجمالي عوائد الحقل".
ولفت إلى أن الاتفاق يصب في صالح الحكومة المصرية لأنها ليست لديها القدرة على ضح استثمارات تبلغ 2 مليارات دولار على التنقيب فقط، وقد لا يكون هناك غاز بالفعل في الحقل المكتشف، لكن المبلغ تتكلفه الشركة الإيطالية، موضحاً أن ما أقدمت عليه مصر في حقل ظهر تقوم به دول أخرى مثل الولايات المتحدة وإسرائيل لديها نفس الاتفاقات مع الشركة الإيطالية.
وكانت شركة "شيفرون" الأمريكية أعلنت الشهر الماضي عن اكتشاف حقل غاز جديد في البحر المتوسط أمام العريش، وقالت الشركة العملاقة إنها اكتشفت البئر البحرية "نرجس 1X"، الواقعة في منطقة النرجس البحرية، حيث تبلغ احتياطاتها 3.5 تريليون قدم مكعبة من الغاز، وتمت عمليات حفر البئر بواسطة سفينة ستينا فورث.
وأشارت الشركة إلى أن هذا الاكتشاف سيكون بمثابة دفعة كبيرة لإنتاج الغاز المصري، إلى جانب الاكتشافات الأخرى في مجال النفط والغاز.
ووقعت مصر مذكرة تفاهم ثلاثية تحت مظلة منتدى غاز شرق المتوسط، في يونيو/حزيران الماضي، بينها وبين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وتهدف لنقل الغاز الطبيعي من إسرائيل إلى أوروبا باستخدام البنية التحتية والتسهيلات المصرية.
وتمتلك مصر بنية تحتية تضم وحدتين لإسالة الغاز هما: مصنع إدكو بمحافظة البحيرة، ومصنع دمياط بمحافظة دمياط، بطاقة استيعابية تصل إلى 4.1 مليون طن سنوياً من الغاز بكل وحدة، أي بمعدل 1.35 مليون قدم مكعبة يومياً، وهو ما يؤهلها لأن تكون مركزاً لتداول الغاز الطبيعي في المنطقة، ما كان دافعاً لتدشين هذا الاتفاق، على أن يتم استيراد الغاز الطبيعي من الحقول الإسرائيلية وتسييله، ثم تصديره إلى أوروبا.
ولفت المصدر الحكومي المطلع إلى أن مصنعي الإسالة لا تمتلكها الحكومة المصرية بمفردها، وتستحوذ شركتا شل وبتروناس الماليزية على 71% من محطة إدكو مناصفة، فيما تبلغ حصة الحكومة المصرية ممثلة في هيئة البترول، والمصرية القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس"، نحو 24% مناصفة، أما النسبة المتبقية والبالغة 5% فهي من نصيب شركة "إنجي" الفرنسية.
ولم تدخل محطة دمياط الخدمة سوى قبل عام ونصف العام تقريباً، وبحسب المصدر فإنه جرى الاتفاق على إعادة افتتاحها بعد توقف استمر ثماني سنوات، بموجب اتفاق أصبح المصنع مملوكاً مناصفة بين شركة إيني الإيطالية والحكومة المصرية، بواقع 40% للشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية "إيجاس"، و10% للهيئة العامة للبترول.
ولفت المصدر إلى أن الزيادة المتوقعة في الإنتاج اليومي من حقول الغاز المصري بالتعاون مع الشركات الأجنبية، إلى جانب تشغيل محطتي الإسالة في دمياط إدكو، وكذلك الشركات التي تعقدها مع إسرائيل وقبرص لإعادة تسييل الغاز وتصديره، تساعد مصر على الحفاظ على المعدلات الحالية التي حققتها من عوائد تصدير الغاز الطبيعي العام المنقضي، لكن من الصعب الحديث عن زيادة جديدة في العائدات الدولارية.
وكان وزير البترول المصري، طارق الملا، قد كشف مؤخراً عن أنه جرى الانتهاء من تنفيذ 4 مشروعات لتنمية وإنتاج الغاز من الحقول المكتشفة بهدف إنتاج كميات من الغاز الطبيعي، تصل إلى حوالي 185 مليون قدم مكعبة من الغاز يومياً، بالإضافة إلى 1000 برميل متكثفات يومياً، مشيراً إلى أن إجمالي التكلفة الاستثمارية الإجمالية للمشروعات تصل إلى نحو 183 مليون دولار.