يشهد الأردن حالياً حالة كبيرة وواضحة من العزوف عن العمل في القطاع الخاص، نتيجة تدني الأجور التي حددتها وزارة العمل بالتنسيق مع ممثلي القطاع الخاص والعمال بحد أدنى قدره 260 ديناراً (366 دولار)، فيما يصف العاطلون عن العمل تلك الأجور بالمتدنية ولا تلبي أدنى متطلبات الحياة الكريمة، في ظل ارتفاع تكاليف الحياة وتآكل قدرات المواطنين الشرائية.
معاناة حقيقية للأسر
محمد عبد الجليل أب لثلاثة أطفال، اضطر لترك عمله لينضم إلى صفوف العاطلين عن العمل بسبب الوضع السيئ للعمل في المؤسسات الخاصة التي كان يعمل بها بعد عودته من السعودية.
عمل عبد الجليل في وظيفة محاسب مأمور في الشركة الوطنية لصيانة السيارات الكهربائية براتب قدره 300 دينار، لكن دون عقد رسمي. كان يضطر للاستيقاظ عند الساعة السادسة صباحاً ليضمن الوصول إلى موعد الدوام المقرر بسبب بعد مكان العمل عن مكان سكنه الذي يحتاج إلى ساعتين تقريباً.
الراتب الذي يتقاضاه عبد الجليل لم يكن يؤمّن لأسرته معيشة آمنة، بل إن أسرته المكونة من 3 أطفال صغار، كانت لا تستطيع تأمين حاجيات أساسية مثل الحفاضات وحليب الأطفال إلا عبر الاستدانة المتكررة من أصدقائه وزملائه في العمل.
ضعف المردود المادي في تلك الوظيفة، بالإضافة إلى دفع بين 150-160 ديناراً شهرياً للمواصلات ووسائل التنقل، وقضاء ساعات طويلة للوصول للعمل والعودة، أدى لنشوب خلافات بينه وبين زوجته التي باتت تشتكي عدم قدرته على تخصيص وقت كافٍ للجلوس مع أبنائه. كل ذلك دفعه لترك عمله الذي استمر لعام وشهرين والبحث عن عمل آخر.
انضم عبد الجليل إلى وظيفة في شركة لتدوير الورق والكرتون مقابل مبلغ 350 ديناراً. لكن المشكلة تمثلت في أن بيئة العمل الجديد كانت سيئة للغاية. فالمشرفون على العمل كانوا يفرضون على العاملين أعمالاً إضافية خارج نطاق الوظيفة، بالإضافة للتعامل بفوقية واستخدام ألفاظ سيئة بحق العاملين.
حاول عبد الجليل الصبر على هذه الصعوبات حفاظاً على راتبه، لكنه لم يستطع مجاراة كل ذلك العمل الإضافي ليتم إجباره على ترك العمل وفسخ عقد العمل بعد 7 أشهر فقط. وأضاف: "قمت بالتوقيع على مخالصة بالإجبار وعلى وقع التهديد، مخافة أن يتم إيذائي أو ملاحقتي من القائمين على العمل".
عبد الجليل يؤكدّ أنه شعر بصدمة كبيرة بعد عودته من السعودية لما آلت إليه الأوضاع في القطاع الخاص بالأردن، خصوصاً قلة الرواتب التي لا تفي بالتزامات أي أسرة أردنية. فانضم إلى صفوف العاطلين عن العمل أملاً في البحث عن وظيفة تسدّ احتياجات أسرته ويعيش معيشة آمنة، براتب لا يقل عن 450 ديناراً أردنياً، لكنه راتب لن تحصل عليه بكل تأكيد في الأردن، وهو أقرب للحلم على حد تعبير عبد الجليل.
حالياً، يتمنى عبد الجليل العودة مجدداً للعمل في السعودية ودول الخليج، فلجأ إلى مكاتب الوساطة التي تؤمن العمل في الخليج، لكن لم يستطيع حتى اللحظة الحصول على وظيفة جديدة، وكلها تبقى وعوداً حتى إشعار آخر.
وسجلت نسبة البطالة بين الأردنيين 22.8% خلال الربع الأول من عام 2022، ووصلت خلال الربع الثاني من العام إلى 22.6%، وفق دائرة الإحصاءات العامة الأردنية.
فيما ارتفع معدل البطالة خلال الربع الثالث من العام الماضي، ليقفز إلى 23.1%، مقارنة بالربع الثاني. فيما تباينت نسبة العاطلين حسب المستوى التعليمي والنوع الاجتماعي، فبلغت نسبة العاطلين الذكور من حملة البكالوريوس فأعلى 29.5%، مقابل 81.8% للإناث.
برنامج التشغيل الوطني وعزوف عن العمل
يذكر أن وزارة العمل أطلقت خلال مارس/آذار 2022، برنامجاً توظيفياً معروفاً بـ"البرنامج الوطني للتشغيل"، وبتكلفة بلغت 80 مليون دينار (112 مليون دولار)، ويهدف لتوفير 60 ألف فرصة عمل للأردنيين والأردنيات ضمن الفئة العمرية 18-40 عاماً من خلال التشغيل في القطاع الخاص.
البرنامج يقدم حوافز مالية للعاملين بواقع 150 ديناراً (211 دولاراً) شهرياً ولمدة 6 أشهر، ويهدف لتحفيز القطاع الخاص على توفير فرص عمل لتشغيل الأردنيين العاطلين عن العمل في جميع القطاعات الاقتصادية وكافة المحافظات الأردنية، ويدعم البرنامج الأجور وكلفة التدريب واشتراكات الضمان وبدل المواصلات للقطاع الخاص.
وبلغ عدد الوظائف المتاحة على المنصة الخاصة بالتوظيف نحو 32 ألف وظيفة، وتقدم لتلك الوظائف نحو 13 ألف طالب تشغيل، وبلغ عدد منشآت القطاع الخاص المسجلة في البرنامج نحو 750 منشأة.
لكنّ هذا المبلغ المرصود لا يكفي -في نظر كثير من الأردنيين- أجرة المواصلات، فكيف لمن يملك أسرة أو يريد تأسيس مستقبل له. هذا يؤدي إلى عزوف الشباب عن العمل في القطاع الخاص، والاضطرار إلى البقاء في المنزل باعتبار أنّ أجور العمل لا تتناسب إطلاقاً مع الواقع المعيشي، ما تسبب في حالة إحباط كبيرة في أوساط الشباب الذي يضطر إلى الوقوف في طوابير انتظار الوظائف الحكومية، وربما يستمر لعدة سنوات.
يعرب الشاب أحمد العمري (27 عاماً) عن امتعاضه من برنامج التشغيل الوطني الذي أطلقته وزارة العمل، كون الـ150 ديناراً لا تكفي أي شخص يريد تكوين نفسه.
يؤكدّ المتحدث باسم وزارة العمل جميل القاضي، لـ"عربي بوست" أنّ الوزارة تقوم بالإشراف على البرنامج لضمان نجاحه، والتأكد من مدى تطبيق المؤسسات والقطاع الخاص المشارك لبنود البرنامج، وضمان تقديم الدعم على الرواتب التي يقدمها القطاع الخاص، دون أي تعليق منه على حجم الرواتب المقدمة.
الأجور لا تتماشى مع الحد الأدنى للأجور
"أجور القطاع الخاص والبرنامج الذي تقدمه وزارة العمل كمحاولة لتخفيض طوابير البطالة لا تتماشى مع الأجور المحددة من قبل وزارة العمل، ولا تتماشى مع قانون العمل والعمال"، هذا ما تذهب إليه المديرة التنفيذية لمركز الشفافية والنزاهة هيلدا عجيلات، في حديثها لـ"عربي بوست".
وأوضحت أنّ العمالة الوافدة لن تقبل بمثل هذا المبلغ الذي لا يكفي شاباً أعزب، فكيف يمكن لشخص وصل إلى عمر الأربعين مثل عبد الجليل ويملك أسرة أن يتقاضى راتب 150 ديناراً.
وأضافت: "هذا البرنامج غير كفء، ولا يلائم المتطلبات الواقعية"، مشددةً على أنّ مثل هذا البرنامج يجب إعادة النظر فيه.
وترى عجيلات أنّ المسؤولية مشتركة بين الجامعات والقطاع الخاص في أن تكون هناك علاقة تكاملية وتنسيقية بين الأقسام الأكاديمية الموجودة في الجامعات ومكتب الخريجين، لمعرفة احتياجات السوق ومتطلبات التنمية، حتى يتمكنوا من توفير التخصصات المطلوبة، خصوصاً تلك التي تحتاج إلى تدريب لدى القطاع الخاص، الذي يجب أن يعطي الأولوية للطلبة المتميزين في التوظيف حسب سلم الرواتب الموجود في القطاع الخاص.
يذكر أن هناك تمثيلاً للقطاع الخاص في مجالس الكليات على مستوى الجامعات، بحسب ما تكشف عنه المديرة التنفيذية لمركز الشفافية والنزاهة، وأيضاً فإنّ وزارة العمل مع وزارة التخطيط ووزارة الصناعة والتجارة يقع على عاتقها مثل هذا الأمر، إضافة إلى قطاع البنوك الذي يجب أن يكون هناك من قبله مساهمة حقيقية في إعداد البرامج لتوظيف الشباب الأردني، على حد تعبيرها.
الشباب الأردني يشتكي
علي زيدان شاب أردني (28 عاماً) من سكان مناطق جنوب العاصمة الأردنية عمان، دفعته الحياة الصعبة إلى ترك السنة الأخيرة من دراسته في تخصص إدارة الأزمات والبحث عن وظائف، إيماناً منه أنّه لن يجد في نهاية المطاف بعد تخرجه أية وظيفة تتلاءم مع تخصصه.
لكّنه اكتشف هذا الأمر بعد فوات الأمر، وبعد أن أضاع ثلاث سنوات دراسية من عمره قضاها فيما أسماه وهْم الدراسة النظرية التي لا تتلاءم مطلقاً مع الواقع المعيشي في الأردن ومع متطلبات وسوق العمل.
اضطر زيدان إلى البحث عن عمل في القطاع الخاص بعد أن فقد الأمل في إيجاد وظائف في القطاع الحكومي الرسمي، حتى يمكنه الزواج واللحاق بأقرانه الذين تزوجوا وكونوا أسراً. تمكن زيدان من اللغة الإنجليزية جعل حاله أفضل، فحصل على وظيفة في مجال خدمة العملاء، وهي الوظيفة الأكثر طلباً في سوق العمل الأردنية، إلا أنّ الراتب الذي يتقاضاه الموظف من هذه الوظيفة لا يتجاوز في أحسن الأحوال 300 دينار.
ظل زيدان ينتقل من شركة ومؤسسة لأخرى في وظيفة خدمة العملاء، دون أن يجد وظيفة تتلاءم مع احتياجاته، إذ تتراوح الرواتب في مثل هذه الوظيفة بين 300 إلى 400 دينار كحد أقصى.
لكنّ زيدان يقول: "بعد جائحة كورونا لم أستطع الحصول على وظيفة في هذا المجال براتب 400 دينار أو أكثر بقليل، وبقي معدل الرواتب يتأرجح بين 300 إلى 350 ديناراً كحد أقصى".
وأضاف: "لم أستطع حتى اللحظة تكوين نفسي رغم تنقلاتي المستمرة في أكثر من شركة، لعدة أسباب منها عدم وفاء الشركات بسداد المستحقات كاملة، إضافة إلى أنّ هذا الراتب أكثر من نصفه يذهب للتنقلات والمواصلات بين سكني وبين العاصمة عمان".