لم تستسغ أسرة الشاب وليد.س أن يُعتقل ابنها ولو احتياطياً، في ملف جنحي تلبُّسي يتعلق بـ"الضرب والجرح وحيازة السلاح"، في ظروف يعتبرها القانون المغربي "مهدِّدة للأمن العام وسلامة الأشخاص"، بعدما صادف الشاب المتهم إحدى المشاجرات بالحي الذي يقطنه.
وكلف رب الأسرة محامياً قدَّم التماساً إلى رئيس المحكمة الابتدائية بمدينة الناظور شمال شرقي المغرب، من أجل أن يمنح السراح المؤقت للشاب بضمانة مالية أو شخصية أو غيرها، باعتبار "الاعتقال الاحتياطي ما هو إلا تدبير استثنائي، وأن الأصل في الإنسان البراءة".
جاء في الالتماس، الذي اطلع عليه "عربي بوست"، أن المتهم "أنكر المنسوب إليه في سائر مراحل البحث"، علاوة على أنه "عديم السوابق القضائية، وأن بقاءه رهن الاعتقال الاحتياطي يمكن أن يؤثر سلباً على مستقبله".
ويعد الاعتقال الاحتياطي من الإجراءات الاحتياطية الوقتية التي تتخذها سلطة التحقيق ضد المتهمين، وبمقتضاه تُسلب حرية المتهم فترة معينة يحددها القانون، عن طريق إيداعه بإحدى المؤسسات السجنية في أثناء نظر الدعوى الجنائية أو جزء منها، أو حتى صدور الحكم النهائي في التهمة المسندة إليه.
لهذا يشكّل هذا الاعتقال في المغرب إحدى الإشكاليات التي تواجه منظومة العدالة، إذ تراوح معدل الاعتقال الاحتياطي خلال النصف الأول من سنة 2021، ما بين 44% و45%، وفق التقرير السنوي لرئاسة النيابة العامة لسنة 2021؛ ما دفع وزارة العدل إلى بذل جهوداً كبيرة لتجاوز هذا الأمر من خلال عقوبات بديلة.
وتضع الوزارة اللمسات الأخيرة على مشروع قانون العقوبات البديلة السالبة للحرية، من أجل عرضه على البرلمان خلال الأيام القليلة المقبلة، إذ ستكون هذه العقوبات في الجرائم التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها سنتين حبساً، وتخول للمحكوم عليه تنفيذ بعض الالتزامات المفروضة عليه مقابل حريته، وفق شروط تراعي من جهةٍ بساطة الجريمة، ومن جهة ثانيةٍ اشتراط موافقته.
ما هي العقوبات البديلة في المغرب؟
يقترح مشروع قانون العقوبات البديلة، الذي اطلع عليه "عربي بوست"، "قيداً إلكترونياً" قد يوضع بمعصم المعنيّ أو بساقه أو جزء آخر من جسده، يمكن للمحكمة أن تحكم به بدلاً من العقوبة السالبة للحرية، وتراقب من خلاله حركة وتنقُّل المعنيّ إلكترونياً.
وأشار النص ذاته، إلى أن المحكمة تحدد مكان ومدة المراقبة، ويراعى في تحديدها خطورة الجريمة والظروف الشخصية والمهنية للمحكوم عليه وسلامة الضحايا.
من العقوبات البديلة كذلك، أن تحكم المحكمة بالعقوبة المقيدة لبعض الحقوق أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، باعتبارها تستهدف اختبار المحكوم عليه؛ للتأكد من استعداده لتقويم سلوكه واستجابة لإعادة الإدماج.
وأضاف نص مشروع القانون، أنه يمكن الحكم، في أجَل سنة قابلة للتمديد، بمزاولة المحكوم عليه نشاطاً مهنياً محدداً أو تتبُّعه دراسة أو تأهيلاً مهنياً محدداً، أو إقامة المحكوم عليه بمكان محدد والتزامه بعدم مغادرته، أو بعدم مغادرته في أوقات معينة أو منعه من ارتياد أماكن معينة أو من عدم ارتيادها في أوقات معينة.
كما جاء في مشروع القانون المشار إليه، أنه تستبدل العقوبات السالبة للحرية بـ"غرامات يومية"، عن طريق مبلغ مالي تحدده المحكمة عن كل يوم من المدة الحبسية المحكوم بها، بشرط أن لا يتجاوز منطوقها سنتين حبساً.
وتتوزع هذه الغرامات المالية اليومية بين 100 و2000 درهم (10 و200 دولار) عن كل يوم من العقوبة، تقدرها المحكمة حسب الإمكانيات المادية للمعني وخطورة ما ارتكبه.
يوجد أيضاً ضمن العقوبات البديلة، "العمل من أجل المنفعة العامة" كواحد من أهم البدائل، لكن بشرط أن يبلغ المحكوم عليه 15 سنة كأدنى حد من وقت ارتكابه الجريمة، وعلى ألا تتجاوز العقوبة المنطوق بها سنتين حبساً.
وتعد هذه العقوبة البديلة عملاً غير مؤدَّى عنه لمدة تتراوح بين 40 و600 ساعة، ينجز لفائدة الدولة أو مؤسسات أو هيئات حماية الحقوق والحريات والحكامة الجيدة أو المؤسسات العمومية أو المؤسسات الخيرية أو دور العبادة أو غيرها من المنظمات غير الحكومية العاملة لفائدة الصالح العام.
والمحكمة هي التي تحدد ساعات العمل، وذلك بتخصيص ساعتي عمل مقابل كل يوم من مدة العقوبة الحبسية، داخل أجَل لا يتجاوز سنة واحدة، ويمكن التمديد لسنة بقرار من قاضي تطبيق العقوبات.
نهج حقوقي في إنزال العقوبات
يُفترض أن ينهي مشروع القانون حول العقوبات البديلة، الجدل حول مشكلة الاكتظاظ في سجون المملكة، وتوفير تكاليف المعيشو داخلها، وهو ما يخلق أزمات كبيرة للحكومة المغربية، خصوصاً أمام تعالي أصوات الفاعلين في المجال الحقوقي بسنّ بدائل عن السجن وراء القضبان.
ويعتبر رئيس المركز المغربي لحقوق الإنسان، عبد الإله الخضري، أن "العقوبات البديلة باتت ضرورة مُلحة في سياق تطور منظومة القانون الجنائي المغربي، حيث لابد أن نتذكر كيف تطورت العقوبات على المستوى العالمي من بدنية إلى عقوبات سالبة للحرية، ثم انبثقت ضرورة إيجاد عقوبات بديلة لبعض الجنح البسيطة".
وتابع الخضري، في حديثه لـ"عربي بوست"، أن "العمل بمبدأ العقوبات البديلة من شأنه أولاً أن يساعد على التصدي لظاهرة الاكتظاظ الذي تعرفه السجون المغربية، كما أنه سيساعد بشكل كبير في تفادي تداعيات حبس مذنب في قضية بسيطة نسبياً على بيئته الاجتماعية والمهنية وربما على صحته وعلى مستقبله؛ لكون الاعتقال كثيراً ما تستتبعه مشاكل أخرى يصعب ترميمها".
على هذا الأساس، "تحافظ العقوبات البديلة على حرية الإنسان وعلى كرامته، كما تساعد في تهذيب المُذنب بطريقة سلسة دون انتقام أو قسوة، ما يجعلها (أي العقوبات البديلة) نهجاً حقوقياً في إنزال العقوبات"، يسجل الناشط الحقوقي.
تنفيذ التشريع سؤال مطروح
ويأمل الحقوقيون والفاعلون بالمجال القانوني في المغرب أن يشكل إقرار قانون بديل للعقوبات السالبة للحرية بالمغرب، فرصة تاريخية لإصلاح المنظومة الجنائية وفقاً لمقاربة ترتكز على حقوق الإنسان.
لهذا ارتكز المشروع على استشارات موسعة مع فاعلين في المجالين الحقوقي والقانوني، إذ لا ينكر المحامي بهيئة العاصمة الرباط، مولود بنتاجر، أن "ما جاء به مشروع القانون بخصوص العقوبات البديلة أمر غاية في الأهمية، وهناك دول متقدمة كانت هي السباقة لتطبيقها".
لكن "الإشكال والسؤال المطروح يتعلقان بمدى تفعيل هذه المقتضيات وتنفيذها على ارض الواقع، فالتشريع خطوة مهمة، لكن الأهم منه هو تنفيذه على أرض الواقع"، يستطرد بنتاجر في تصريحه لـ"عربي بوست".
ويعتقد رجل القانون، أن منظومة العدالة المغربية "ما زالت تعاني من ضعف المؤهلات ونقص في الإمكانات لتطبيق هذه العقوبات بشكل فعال وسريع"، مضيفاً أن "التحدي الأكثر من كل هذا هو تغيير العقليات التي تعتقد أنَّ سلب الحرية هو السبيل الوحيد والأوحد لردع الجاني أو إصلاحه".
ويبين المحامي بهيئة الرباط، أن "تطبيق هذه البدائل يمكن تحقيقها بالتدريج وبشكل بطيء يتناسب مع الإمكانات المتاحة، إلى أن تصبح هي الأساس في الجرائم غير الخطيرة التي لا تتجاوز مدة المحكومية فيها سنتين".