وأنت تتجوّل في شوارع باريس في الساعات الأولى من الصباح، لا يُمكن ألا تتسلل لأنفك رائحة خبز الباغيت الفرنسي الطازج، التي تخترق جدران المخابز لتصل إلى المارة تُغريهم بشراء قطعة أو قطعتين لبداية نهار باريسي ممُيز.
يُصنع الباغيت الفرنسي بحب وصبر كبيرين، لكن مكوناته بسيطة، دقيق وماء وملح والقليل من الخميرة التي تحافظ على الشكل البهي لهذا الخبز، الذي يُفضل الفرنسيون تناوله في وجبة الإفطار ساخناً.
اليوم وبعدما صنّفت منظمة اليونسكو الباغيت الفرنسي كتراث ثقافي غير مادي لفرنسا، اختار "عربي بوست" أن يقوم بجولة بمخبزة "بازيل" في الدائرة 16، وهي إحدى أكبر مخابز العاصمة الفرنسية باريس.
مخابز باريس
ارتبط الباغيت بالصور النمطية حول أسلوب عيش المواطن الباريسي والفرنسي بشكل عام، فقد بات يشكل مكوناً أساسياً في وجبات الفرنسيين اليومية، خاصة الإفطار؛ إذ لا تكاد تخلو مائدة إفطار فرنسية منه.
خليل؛ خباز فرنسي من أصل تونسي يعمل في مخبز "بازيل"، يقول لـ"عربي بوست": "نحو نصف زبائننا يقدمون من أجل اقتناء الباغيت الفرنسي، بل منهم من يحجز عبر الهاتف قبل قدومه خشية نفاده".
وأضاف المتحدث: "بالنسبة لي شخصياً، فقد أمضيت نحو 20 سنة في صنع هذا النوع من الخبز، تعلمت خلالها قيم الصبر والإخلاص وطورت فيها مهاراتي المهنية، وطموحي هو الفوز يوماً بجائزة أفضل خباز في فرنسا".
في نفس المخبز، التقى "عربي بوست" بشارلوت، أربعينية باريسية، تقول: "لا إفطار دون باغيت، إنه المكون الرئيسي لمائدتنا كل صباح، حتى عندما كُنت أعيش مع والدي، إنه جزء من ذاكرتي وطفولتي".
شارلوت مثل ملايين الفرنسيين، تعتبر الباغيت الفرنسي، الذي صنفته منظمة اليونسكو كتراث ثقافي غير مادي لفرنسا، جزءاً من ذاكرتهم الجماعية، ومادة غذائية أساسية تُزين موائدهم.
كيف ظهر الباغيت الفرنسي؟
هناك ثلاث أساطير حول أصل الرغيف الفرنسي أو خبز "الباغيت"، الأولى تورد أن اختراعه كان في بداية القرن 19 من قبل خبازي نابليون، نظراً لكونه أخف وزناً وأقل حجماً من الرغيف التقليدي، كان من السهل حمله في جيوب الجنود.
لكن، وفقاً لمصادر تاريخية أخرى، فإن الخباز النمساوي، August Zang، هو الذي أدخل الباغيت إلى فرنسا عندما افتتح سنة 1839 مخبزاً في باريس، وكان يعتزم في البداية بيع الخبز التقليدي دائري الشكل، مثل ذلك المعروف في النمسا، لكنه انتهى إلى ابتكار الشكل الجديد الذي هو الباغيت.
أما الرواية الثالثة فتنقل أن الرغيف الفرنسي اختُرع في موقع بناء مترو باريس عام 1900، في ذلك الوقت، تم جلب العمالة من جميع أنحاء فرنسا وكانت المعارك بين عمال بروتان وأوفيرني متكررة.
ولمنع تصفية الحسابات والتخلص من السكاكين التي كانت تستخدم سلاحاً، طلب مديرو المشروع من الخبازين ابتكار خبز يمكن تقطيعه بسهولة من دون الحاجة إلى سكين.
وفق ستيفن كابلان وهو مؤرخ متخصص في تاريخ الخبز، ليس أوغست زانغ ولا نابليون من اخترع الرغيف الفرنسي، ولكنه أحد منتجات القرن العشرين، تطور استجابة للطلب الحضري.
وحسب المؤرخ نفسه، فأثرياء العاصمة باريس احتاجوا إلى الخبز الطازج عدة مرات في اليوم، في حين كان الرغيف الكبير الذي يتراوح وزنه بين 1.2 و 2 كيلوغرام كبيراً جداً.
ليس في فرنسا فقط.. الباغيت الفرنسي في شمال إفريقيا
وليس لأنه فرنسي لا يوجد الباغيت في فرنسا فقط، بل انتقل بفعل الاستعمار إلى دول شمال إفريقيا، خصوصاً المغرب والجزائر، اللتين استُعمرتا لسنوات من طرف فرنسا، وتشبعتا ببعض ثقافتها.
ففي المغرب، نجد الباغيت الفرنسي بكثرة، وهو الخبز الخاص بوجبة الإفطار لدى المغاربة منذ عقود، ويطلقون عليه اسم "Parisien"، ويعني الباريسي، في إشارة لمصدر هذا النوع من الخبز.
وفي الجزائر أيضاً، التي استُعمرت من فرنسا أكثر من 100 سنة نجد الباغيت الفرنسي في كل مخابز البلاد، ويطلق عليه الجزائريون اسم "باڤيطة" ويُؤكل غالباً في وجبتي الغذاء والعشاء، أما في الإفطار فالجزائريون يُفضلون "كرواسون" فرنسي الأصل أيضاً.
ورغم أن تونس لم تُستعمر من طرف فرنسا، إلا أن الباغيت الفرنسي وصل لها بفعل قربها الجغرافي مع الجزائر والمغرب، فأصبح هو الخبز الرسمي لأكل سندويتش "اللبلابي" التونسي الشهير.
اعتراف رسمي
تتويجاً لمسار خبز الباغيت التاريخي ونظراً إلى كونه رمزاً معبراً عن الثقافة الفرنسية في العالم، ومكوناً غذائياً أساسياً في الحياة اليومية للفرنسيين، أدرجته منظمة اليونسكو على قائمتها للتراث الثقافي غير المادي للبشرية.
يقول فرانسوا؛ صاحب مخبز بشارع الشانزليزيه، معبراً عن فخره وسعادته: "إنه يوم تاريخي اعتُرف فيه رسمياً بالقيمة الرمزية لمكون يعكس هوية الفرنسيين، إنه تتويج لكل خباز وصاحب مخبز فرنسي، وهذا يزيدنا حرصاً على تطوير المنتج وصونه وتثمينه".
في المقابل، لا يخفي فرانسوا، الذي تحدث لـ"عربي بوست"، عن تذمّره الكبير من انتشار خبز الباغيت المجمد، قائلاً: "لا يمكن أن تشعر بالغضب وأنت ترى ثلاجات المتاجر الكبرى ممتلئة بالباغيت المجمد، تنقص من قيمته، وتشكل خطراً على صحة المستهلك".
وأضاف المتحدث أنه أحياناً يؤتى بهذا الخبز من خارج فرنسا، فالهاجس المادي بات للأسف أولى عند البعض من احترام الجودة وتاريخ هذا المنتج الفريد وصون قيمته الرمزية.
من جهته، وتفاعلاً مع قرار اليونيسكو، قال رئيس الاتحاد الوطني للمخبوزات والحلويات الفرنسية دومينيك أنراكت، إن إدراج الباغيت على قائمة اليونسكو "بمثابة تقدير لدور الخبازين الحرفيين وطُهاة الحلويات".
كم يستهلك الفرنسيون من الباغيت؟
يقدر استهلاك الفرنسيين من هذا المنتج المصنوع من 4 مكونات بسيطة (دقيق، ماء، ملح، خميرة أو عجين مخمر) في كل عام بـ 10 مليارات واحدة بمعدل (320 رغيفاً في الثانية).
على الرغم من ذلك، فإن استطلاعاً للرأي أجرته QualiQuanti للدراسات، لصالح اتحاد شركات المخابز والمعجنات (FEB) يقول إن استهلاك الخبز بشكل عام في انخفاض.
وذكر المصدر نفسه أن 82٪ من الفرنسيين استهلكوا الخبز يومياً في عام 2021، مقارنة بـ 88٪ في عام 2015، مضيفاً أن الرغيف الفرنسي فقد بريقه قليلاً، لصالح خبز العجين المخمر، المفضل في الدوائر الغنية لقيمته الغذائية العالية.
كما تُقدر دراسات عدد الأشخاص الذين يدخلون المخبز في فرنسا يومياً لشراء الباغيت الفرنسي بـ 12 مليون شخص، فيما يقول 75٪ من الفرنسيين إنهم يأكلونه يومياً.
لا توجد لوائح تفرضه، لكن الخبازين، حسب الاستخدامات، يتفقون على إطلاق تعبير 250 غراماً اسماً "للباغيت" و200 غرام لاسم "الفلوت". في عام 1981، أرادت الحكومة فرض وزن إلزامي لكل نوع، لكن المحاولة باءت بالفشل.