بعد موجة الاحتجاجات التي مرَّ بها الأردن مؤخراً، ظهرت إلى السطح بعض المشاهد التي وُصفت بأنها غير مسبوقة في تاريخ البلاد، والتي تتمثل في حالة من الصدام أو الاحتقان الكبير بين العشائر والدولة نفسها.
هذه المشاهد أفرزت تساؤلات مهمة عن مستقبل الرباط الوثيق بين العشائر والقبائل من جهة وبين الدولة الأردنية القائم على إعطاء البيعة والولاء للأسرة الحاكمة هناك.
انقسام داخل العشائر
المشهد الأول البارز ارتبط بالأحداث والاحتجاجات التي عصفت بالبلاد في الفترة الأخيرة، وتسببت في وقوع انقسام في القرار العشائري بين مؤيد ومعارض لموجة الاحتجاجات، الأمر الذي يعطي مؤشراً عن حالة جديدة داخل البنية القبلية الأردنية.
وتعد القبائل والعشائر في الأردن أحد أبرز أسس تثبيت نظام الحكم، خصوصاً في ظل صعود زعماء وشيوخ موالين للدولة بشكل قاطع، مما ولَّد حالة سخط في صفوف الأجيال الجديدة داخل القبائل، في ظل حالات التهميش الاقتصادي التي تعاني منها بعض القبائل.
اتضح مشهد الانقسام هذا فيما حدث في قبيلة بني صخر، إحدى أكبر القبائل في جنوب البلاد.
فقد كشفت مصادر خاصة لـ"عربي بوست" أن أفراداً من القبيلة عقدوا اجتماعين متتاليين خارج إطار القيادة التقليدية، الأول كان قبل حوالي أسبوعين في منزل النائب السابق صالح راضي الجبور في قرية الذهيبة الشرقية بلواء الموقر، لمناقشة الأوضاع في البلاد وتصاعدها في الجنوب الأردني، وإعادة ترتيب البيت الداخلي للقبيلة.
اعتبر القائمون على هذا الاجتماع أنّ الدولة زجت بالأجهزة الأمنية لمواجهة الشعب على حساب الحل السياسي، مطالبين بإصلاح النظام السياسي وإيقاف ما وصفوه بالتغول على الشعب وعلى رأسها الضرائب المرتفعة على المحروقات.
وكان أبرز ما ذكر في الاجتماع هو التأكيد على وجود مجموعة وصفت بـ "السحيجة المنتفعين" في كل عشيرة، والتي تتقلد المناصب وتدعم الدولة لمحاولة إضفاء الشرعية العشائرية على الدولة.
وشهد الاجتماع هجوماً على "اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية"، ووصف إصلاحاتها وتعديلاتها الدستورية بـ"الأكذوبة الكبرى"، مشددين على فكرة استمرار استبعاد الأردنيين عن الحكم وتهميشهم عن المشاركة في الحياة السياسية، على حد قولهم.
التقى المجتمعون مرة أخرى بعد أسبوع في منزل النائب محمد عناد الفايز في لواء القسطل بالجيزة، وهو الاجتماع الذي أعلن فيه النائب تقديم استقالته من مجلس النواب، على خلفية الرسالة التي بعثها إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان يطالب فيها بعدم تقديم مساعدات اقتصادية للأردن؛ بسبب حالة الفساد المستشرية بالدولة، على حد وصفه.
في المقابل، رفض بعض أعيان القبيلة المحسوبين على الدولة هذه التحركات، وأصدروا بياناً يرفضون من خلاله مخرجات الاجتماعيين، الأمر الذي ينذر بحدوث اختلافات داخل القبيلة الواحدة.
رفض استقبال أعضاء الحكومة
مشهد آخر يدل على حالة الاحتقان من العشائر تجاه الدولة تمثَّل في رفض عشيرة بني حسن استقبال أعضاء الحكومة الأردنية لتقديم العزاء في وفاة العقيد عبد الرزاق الدلابيح، ومنح الحكومة مهلة 3 أيام للكشف عن القاتل.
يُذكر أن قبيلة بني حسن كانت من القبائل التي أعلنت الولاء المطلق للدولة الأردنية وقت تأسيسها. لكن رغم مواقفهم، حل عليهم نوع من التهميش والتغييب عن أي دور سياسي حتى عام 1984، بعد "ثورتهم" ضد الحكومة مطالبين بأراضٍ لهم. ورغم استمرار حالة التهميش، فإنّ القبيلة بقى ولاؤها للدولة الأردنية.
الاجتماعان السابقان مع موقف قبيلة بني حسن، كلها تعطي مؤشراً واضحاً على حالة الاحتقان الكبيرة في أوساط القبائل الأردنية، وتعكس رغبة البعض داخل القبائل في إعادة بلورة العلاقة مع الدولة الأردنية خلافاً لما كان في العقود السابقة التي كانت قائمة على احترام قرار الشيوخ التقليديين في العشائر والذين يعتبرون حلقة الوصل بين القبيلة والدولة.
فهل تنذر مثل هذه التحركات بخلخلة الرباط الوثيق بين العشائر الأردنية المهمة والدولة؟
جيل جديد داخل العشائر يحمل رؤية مختلفة
أوضح المحلل السياسي الأردني شلاش خريشة، المنتمي إلى قبيلة بني صخر، أن عقد الاجتماعين على مستوى قبيلة بني صخر يأتي بعيداً عن سطوة مشيخات وزعماء القبيلة التقليديين المعروفين بولائهم التام للدولة، ويهدف إلى دعم المطالب الشعبية الأخيرة التي جرت في البلاد، والاتجاه نحو إعادة ترتيب البيت الداخلي للقبيلة.
وقال خريشة لـ"عربي بوست" إن النظام القبلي في الأردن شهد في الخمسين سنة الأخيرة صعود زعماء وشيوخ كانوا يعملون لمصالحهم الذاتية والشخصية وليس للصالح العام للقبائل والعشائر، على حد تعبيره.
وأضاف: "هذه الحالة لم تكن على مستوى قبيلة بني صخر وحسب، بل على مستوى الكثير من القبائل في الأردن. أصبح هناك صراعات وخلافات بين القيادات التقليدية في هذه القبائل مع جيل الشباب والمثقفين، وهذا بدأت تتضح معالمه في العشرين عاماً الأخيرة".
ومن هنا يعتبر خريشة أنّ الزعماء التقليديين في القبائل لم يعودوا صالحين لقيادة هذه المرحلة، وباتوا غير فاعلين في المجتمع العشائري، منوهاً بأنّ تمثيلهم أصبح في نطاق الدولة على شكل وزراء وأعضاء في مجلسي النواب والأعيان، ومستشارين في الدولة.
وذكر أن هذا الأمر "جعلهم مكروهين بين أوساط الشريحة العظمى في القبيلة، فأصبحوا بلا غطاء ودعم اجتماعي وانفصلوا عن الجسم العشائري"، على حد قوله، خصوصاً في ظل جيل الشباب الذي لم يعد يقبل بالسلطة الأبوية لا على مستوى القبيلة ولا الدولة.
وقد تمكن وجهاء من قبيلة بني صخر من إحداث اختراق في عمق القبيلة، تمثل أحد هذه الاختراقات في دعم الشخصيات المتعلمة والمثقفة في أوساط القبيلة عوضاً عن دعم المشايخ التقليديين.
ويرى خريشة أن العقد الاجتماعي بين العشائر والدولة كان يعمل للصالح العام القبلي وبمثابة صمام أمان للدولة أيضاً، لكنّ هذا العقد في الوقت الحالي لم يعد يعمل في نطاقه الصحيح والطبيعي.
"حراكات لا علاقة لها بالعشائرية"
في المقابل، يرى محمد الملكاوي، المستشار المقرب من الدوائر الرسمية، أنّ الحراكات التي حصلت مؤخراً حتى وإن بدت أنّها ذات طابع عشائري، لكنّها في حقيقة الأمر لا علاقة لها بالعشائرية.
وأشار في حديثه لـ "عربي بوست" إلى أنّ المشاركة كانت من مختلف الأطياف الموجودة بالشارع الأردني ولا علاقة لها بأي نهج سياسي مرتبط بالأحزاب، مشيراً إلى أنّ بعض القوى السياسية حاولت الدخول على خط هذه الاحتجاجات وتسييسها لصالحها، حسب تعبيره.
وأوضح أن التركيز على منطق الجنوب الأردني من قِبل البعض، والسعي إلى إضفاء البعد العشائري على الحراكات، يعود إلى أنّ قطاع النقل الذي شهد أبرز الإضرابات، كان يتركز في مناطق معان والجنوب الأردني، كونه مرتبطاً من ميناء العقبة، ويعمل مع دول مجاورة كالسعودية والخليج ومصر، بالإضافة إلى تمركز مناجم الفوسفات والبوتاس في الجنوب.
ويؤكدّ الملكاوي أنّ الالتحام العشائري والقبلي مع الدولة الأردنية لا يزال قائماً، وهذا ما تمثل في استقبال قبيلة بني حسن للملك عبد الله بعد أن فقدت أحد أبنائها في الأحداث، وأكدّت التفاف القبلية حول القيادة الهاشمية ومع الدولة الأردنية، مشيراً إلى أنّ الكل أكدّ أنّ الأردن خلف القيادة الهاشمية.
هل يتفكك الرباط العشائري مع القصر الملكي؟
على الجانب الآخر، يرى الناطق باسم "الحركة الفكرية الأردنية" عمر النظامي، أنه عندما تكتسب شخصية أردنية مثل النائب في مجلس النواب أسامة العجارمة، والناشط السياسي ورئيس بلدية معان الأسبق ماجد الشراري والنائب محمد عناد الفايز، شعبية كبيرة، فإنّ النظام السياسي في الأردن يستخدم طرقاً وموالين لجعل العشيرة تنقلب عليه، على حد قوله.
هذا الأمر يمكن أن يتكرر مع النائب محمد عناد الفايز. فحالة الصمت والهدوء التي تسود من المنظومة السياسية والأمنية في الأردن تجاهه، مردها إلى أنّ الدولة تقوم بالإعداد والترتيب في بداية الأمر لقمع وإنهاء أي تحركات مناهضة لها داخل الوسط العشائري.
وفي خضم هذه الحالة يبقى من الصعوبة أن تنقلب العشائر الأردنية على النظام السياسي، خصوصاً عشيرة بني صخر في ظل وجود حاضنات وبيئات تابعة لها وسط القبائل والعشائر، وهذا ما يؤكدّ عليه الناطق باسم الحركة الفكرية الأردنية عمر النظامي، مشيراً إلى أنّ هناك حالة من الانفكاك في المجالس المغلقة لعشيرة بني صخر، وهناك أطراف داخل العشرة تعمل ضد الأصوات المناوئة للدولة ومن ضمنهم النائب محمد عناد الفايز الذي تدعمه أوساط كبيرة داخل قبيلته.
لكنّ النظامي يرى أنّ تلك التحركات من قبل الدولة لن تدوم فاعليتها طويلاً، وذلك لأنّ الجيل الجديد في الأردن لا يؤمن بالعشائرية والأحزاب، ولم يعد يؤمن بتقديس الوجهاء والرموز ولن يقبل بما قبل به آباؤهم وأجدادهم وسيخرجون على تلك المنظومة وستدخل الساحة السياسية الأردنية في حالة من الإرباك والتشتت في الأيام القادمة، على حد قوله.
"أدوات داخلية تعمل على خلخلة الرباط العشائري"
"الرباط الوثيق بين العشيرة والدولة الأردنية هو الحاضنة الأساسية للنظام السياسي الأردني على مدار 100 عام، ولا يزال مستمراً حتى اللحظة"، هذا ما أكده عضو المكتب السياسي للحركة الشعبية الأردنية محمد أحمد الروسان، في حديثه لـ "عربي بوست".
ويرى الروسان أنّ "الأدوات السياسية التابعة لواشنطن وتل أبيب بالداخل الأردني، وتحديداً في مفاصل الدولة وفي المؤسسات الرسمية وحتى الأمنية منها، يسعون إلى تهميش العشائر وإضعاف الرابط بين العشيرة وبين النظام، لتفجير الوضع"، حسب وصفه.
تلك الأدوات الأمريكية الإسرائيلية، كما يصفها الروسان، عملت على خلق "شيوخ مصطنعة" ارتدت "عباءة المشيخة" وهم لا يفقهون في العشائرية ولا بالمشيخة أي شيء، وعمل هؤلاء على إقصاء الرمزيات الحقيقية للقبائل والعشائر.
لكنّ الروسان يرى أّنّ الاحتجاجات الأخيرة في الجنوب الأردني عمقت الروابط الاجتماعية ما بين العشائر والقبائل الأردنية، فوصل صداها لجميع البلاد في الشمال والوسط وكافة الجغرافيا الأردنية.