ضمّت الصغير إلى صدرها واعتلت الحمار، كانت مريم العذراء تهرول ليلًا من بيت لحم إلى مأمن من بطش حاكم ظالم، يصحبهما يوسف النجار في رحلة بين العامين الرابع والسادس ميلادياً، يدخلون مصر بعد رحلة العائلة المقدسة آمنين من بوابة العريش "حالياً"، مروراً بالدلتا شمالاً، ثم القاهرة، نزوحاً إلى المنيا وأسيوط جنوباً وحتى الأقصر.
يحتفل المصريون بأن النبي عيسى -عليه السلام- عاش على أرضها عاماً، ويُحيي شعبها ذكرى الرحلة المباركة كل عام باحتفالات شعبية يشارك فيها مئات الآلاف، وأخيراً تنجح مصر أول ديسمبر/كانون الأول الجاري في إدراج احتفالات رحلة العائلة المقدسة لقائمة اليونيسكو للتراث غير المادي.
يقول الدكتور مصطفى جاد، عميد المعهد العالي للفنون الشعبية، ومشرف اللجنة القائمة على الملف، لـ"عربي بوست": "مصر متفردة بالرحلة وباحتفالاتها، وتعاملنا مع الملف باعتباره ملفاً وطنياً اشتركت فيه كل طوائف المجتمع المصري"، وإنه فخور بهذا التسجيل.
رحلة العائلة المقدسة
وردت الرحلة في الكتاب المقدس بسطور موجزة: "فقام وأخذ الصبي ليلاً وانصرف إلى مصر". (مت 2: 13-23)، بينما يتناولها التراث الإسلامي في تفسير آية: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين) [المؤمنون: 50].
وبعد أكثر من 2000 عام، في أول يونيو/حزيران، وعلى الأرض ذاتها، يتكرر المشهد فيما يُعرف بـ"عيد وصول العائلة المقدسة"، إذ يُقام الاحتفال في أول فبراير/شباط بمحافظة المنيا وسط جموع من المسيحيين يحملون الصلبان ويحيون ذكرى دخول السيدة مريم إلى مصر، أما ثاني الاحتفالات فيُعرف باسم "مولد السيدة العذراء"، ويبدأ في كل محطة مرت عليها العائلة المقدسة بدءاً من مايو/أيار وحتى أغسطس/آب.
وتمتد أيام الاحتفالات طوال 15 يوماً هي أيام صوم العذراء في العقيدة المسيحية، وتعد منطقة جبل الطير بالمنيا والدير المحرق ودرنكة بأسيوط من أكثر الأماكن التي تشهد هذه الاحتفالات.
احتفال ينتظره الكبار والصغار في البيوت والكنائس، بل ويشارك فيه الشيوخ والمسلمون بالتهنئة والحضور الرسمي والودّي جنباً إلى جنب مع رجال الكنيسة، والذين يقومون بعدة طقوس أبرزها القداس والتراتيل الكنسية، وتعميد الأطفال، وزفة الأيقونات، بالإضافة للتوعية بهذا الإرث ذي البعد التاريخي.
تتلاقى الأناشيد الدينية مع أغاني الفلكلور، وتتداخل معها فقرات فرق الكشافة، وأنشطة تجارية كتسوق المنتجات اليدوية بأيدي سيدات القرى، وحركة الباعة المتجولين، ونقل الزائرين بالمراكب النيلية لأماكن الاحتفال.
من القاهرة إلى بيت لحم…
يضم مسار رحلة العائلة المقدسة 25 نقطة تمتد لمسافة 3500 كيلومتر ذهاباً وعودة من سيناء حتى أسيوط
يحوي كل موقع مرت به العائلة المقدسة مجموعة من الآثار في صورة كنائس أو أديرة أو آبار مياه، ومجموعة من الأيقونات القبطية الدالة على مرور العائلة المقدسة بتلك المواقع، وفقاً لما قالته الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في مصر.
بدأت رحلة دخول العائلة المقدسة من رفح "شمال شرقي" مصر، ومرت بالفرمان في شرق مدينة بورسعيد، ومنها إلى إقليم الدلتا في سخا بكفر الشيخ، وتل بسطا بالشرقية، وسمنود بالغربية، ثم انتقلت إلى وادي النطرون في الصحراء الغربية؛ حيث أديرة "الأنبا بيشوي" والسيدة العذراء "السريان"، و"البراموس"، والقديس "أبو مقار".
اتجهت العائلة إلى منطقة مسطرد والمطرية؛ حيث توجد شجرة السيدة مريم عليها السلام.
تكتمل الرحلة إلى "كنيسة زويلة" بالقاهرة الفاطمية، ثم مناطق مصر القديمة عند "كنيسة أبو سرجة" في وسط مجمع الأديان ، ومنها إلى "كنيسة المعادي" وهي نقطة عبور العائلة المقدسة لنهر النيل.
ومن رحلة النيل يكتمل المسير إلى المنيا حيث جبل الطير، ومنها إلى أسيوط لـ "دير المحرق"، وبه أول كنيسة دشنها النبي عيسى بيده، ثم انتقلت العائلة إلى "مغارة درنكة"، ثم العودة مجدداً إلى أرض الموطن في بيت لحم.
إدراج اليونسكو
بدءاً من عام 2018 انضم لصفوف المنتظرين لجنة عليا من الباحثين تشكلت بقرار من الدكتور، خالد عناني، وزير السياحة والآثار حينها، بهدف التوثيق والجمع الميداني لجوانب الاحتفال تمهيداً لإدراجه ضمن القائمة التمثيلية لليونسكو، والخاصة بالعادات والتقاليد والممارسات الشعبية.
بدأ قطاع العلاقات الخارجية بوزارة الثقافة العمل مع مديرة أكاديمية الفنون بروما، بالإضافة لمساهمة أكاديمية الفنون بمصر بالأعمال الفنية التي ضمت متحفاً وجدارية للرحلة وفيلماً وثائقياً ضمن الملف، ووزارات الآثار بالباحثين ومهام الجمع الميداني، والخارجية بالتنسيق مع الوفود الأجنبية والدعم السياحي للملف، فضلاً عن التسهيلات والموافقات من الكنائس المصرية وجمعيات التراث.
يعتبر مصطفى جاد، عميد المعهد العالي للفنون الشعبية، أن أبرز الصعوبات التي واجهت الملف هي انتظار مواعيد الاحتفال من كل عام لبدء عملية جمع المعلومات وتوثيق مظاهر الاحتفال بصورة تستوفي شروط اليونسكو الدقيقة للتقديم.
ويشير: "ازداد الأمر صعوبة بجائحة كورونا عام 2020، وتوقفت الاحتفالات والتجمعات، لكن تمكنا من تقديم الملف في فبراير/شباط 2021، وجمعنا 500 توقيع على الملف المصري، مقابل 80 – 100 للملفات من الدول الأخرى".
وشارك الوفد المصري في اجتماع لجنة التراث الثقافي غير المادي في المغرب آخر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، إذ بحثت اللجنة التابعة لليونسكو 46 طلباً من دول مختلفة لضم عناصر جديدة للقائمة.
وعن كواليس القرار يقول جاد: "حين ذكر رئيس اللجنة اسم الملف دق بشاكوش خشبي على المنصة وقال (قبول)، قلوبنا دقت معه وانقلبت القاعة رأساً على عقب"، استقبل الوفد التهاني من المشاركين من الوفود الإسبانية والفرنسية والبلجيكية، وقدموا التهاني لمصر، حسب ما قال.
وتأتي "الاحتفالات المرتبطة برحلة العائلة المقدسة" في المرتبة السابعة للعناصر المصرية بقائمة اليونسكو، وأهم ما سبقها هو فن التحطيب، والخط العربي، والنسيج اليدوي "النول"، وفن الأراجوز، ويتمنى أن تتسجل حرفة تكفيت النحاس بالفضة، وصناعة ورق البردي، والحلي الذهبية والفضية".