صدام يتمدد.. تحذيرات من أزمة بين المؤسسة الدينية والجيش الإسرائيلي، فما أثرها على الواقع السياسي؟

عربي بوست
تم النشر: 2022/12/03 الساعة 12:33 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2022/12/03 الساعة 12:33 بتوقيت غرينتش
أزمة في أعداد المجندين الجدد في صفوف الجيش الإسرائيلي (أرشيف)

تصاعَد النقاش والسجال السياسي في إسرائيل في الأيام الأخيرة في ضوء اتهامات متبادلة بين المؤسسة الدينية والجيش الإسرائيلي أو فلنقل معسكرَي اليمين الديني، ومعسكر العلمانيين واليسار، بمحاولة جرّ مؤسسة الجيش لمربع الانقسام السياسي بين الحكومة والمعارضة، فما طبيعة الخلاف بين الجيش واليمين المتدين، وإلى أي مدى من الممكن أن تتغول المؤسسة الدينية في السلطة؟ 

 خرج رئيس الأركان الحالي أفيف كوخافي في بيان نقله المتحدث باسمه قائلاً: لن نسمح لأي سياسي لا من اليمين ولا اليسار بالتدخل في قرارات القيادة العسكرية، أو حتى استخدام الجيش للترويج لأجندته السياسية، إن التدخل السياسي في الجيش يضر بشكل مباشر في قدرته على القيام بمهامه ومواجهة التهديدات المحيطة بالدولة.

جاء البيان رداً على اعتراض إيتمار بن غفير- وهو ناشط سياسي متطرف- على قرار أصدرته المحكمة العسكرية التابعة للجيش، بإدانة جندي من لواء جفعاتي بالسجن، وتعليق خدمته بعد أن قام بضرب ناشط إسرائيلي من اليسار في مدينة الخليل.

حادثة الخليل.. نقطة الخلاف التي فجَّرت الأزمة

في الـ25 من نوفمبر/تشرين الثاني 2022، شهدت مدينة الخليل حدثاً استثنائياً، حين قام أفراد من لواء جفعاتي، التابع لقوات المشاة في الجيش الإسرائيلي، بالاعتداء على ناشط إسرائيلي من منظمة "كسر الصمت"، المحسوبة على اليسار، وقاموا بتوجيه اللكمات له بوجهه وطرحه أرضاً.

لم يكن الاعتداء على مواطن يهودي هو الاستثناء الوحيد، بل إن مقاطع الفيديو التي انتشرت لتوثيق الحدث أظهرت أن الجنود المتورطين بالحدث كانوا يرتدون سترة ظهر كُتب عليها "طلقة واحدة، قتل واحد، لا ندم، أنا من يقرر هنا"، وهذه الشعارات هي منطلقات دينية توراتية، تروّج لها المدارس الدينية المتطرفة كالصهيونية الدينية وفتيان التلال وغيرها.

اضطر الجيش أمام ضغط الشارع لإصدار أمر عسكري بحق الأفراد المتورطين بالحادث، فصدر قرار بإيقاف الجنود المتورطين بالحدث عن العمل لمدة 10 أيام، واعتقالهم في أحد مراكز التأديب التابعة للجيش.

اتهامات متبادلة لجرّ الجيش لمربع الانقسام السياسي

لم يترك بن غفير هذا الحدث يمر مرور الكرام، فسارع إلى توجيه اتهامات للجيش بأنه منحاز لليسار ضد المتدينين، وقال في تغريدة على تويتر: إرسال جندي إلى السجن لمدة 10 أيام يوصل رسالة مؤذية لجنود الجيش الإسرائيلي، يجب ألا ندع الفوضويين الذين يشوهوننا ينتصرون بلا نهاية، يجب أن ندعم الجنود ولا نضعفهم.

في حين اتهم رئيس الأركان السابق غادي آيزنكوت في تقرير لقناة التلفزة 13، سلوك الائتلاف الحكومي المقبل، بأنه مقدمة لتفكيك الجيش، ويهدد استقرار الدولة ويعرضها لخطر الانهيار.

وزير الحرب ورئيس الأركان السابق بيني غانتس، حذّر هو الآخر من تسلل الخلافات السياسية لمؤسسة الجيش، مشيراً في تصريحات نقلتها قناة التلفزة 12، بأن مطالب أحزاب الائتلاف بنقل المزيد من الصلاحيات الأمنية لبن غفير، يعني عملياً أنه يسعى لتطويع قوات الجيش، لتتحول إلى ميليشيا وعصابات يتحكم بها.

وأضاف أن الخطوات التي يقودها نتنياهو حالياً تمسّ بعصب الدولة، وتخل بعقيدة الدولة، وتحول الجيش الإسرائيلي من "جيش الشعب" إلى جيش بيد المتطرفين.

وقد شكَّل الحدث مادة دسمة للنقاش السياسي في إسرائيل عن مستقبل الدولة، ومدى تماسكها في ظل صعود اليمين الذي يسعى للسيطرة على مفاصل الدولة، وأهمها الجيش والاستخبارات والقضاء والإسكان والاستيطان وغيرها.

أزمة المؤسسة الدينية والجيش الإسرائيلي

لَطالما حظيت مؤسسة الجيش في إسرائيل بمنزلة القداسة، لدرجة أن السياسيين الأوائل من الجيل المؤسس للدولة كانوا يتباهون بعدد السنوات التي قضوها في الخدمة العسكرية، ويتحدثون بفخر أمام مؤيديهم بالمعارك التي خاضوها في ساحات القتال المختلفة.

كانوا يضعونها ضمن سيرتهم الذاتية لرفع رصيدهم السياسي واستثماره في كسب ثقة الجمهور، باعتبارها أسهل الطرق للوصول لرئاسة الوزراء وقيادة الدولة وتوجيه سياساتها في المحافل الداخلية والخارجية.

هذه المكانة التي حظي بها الجيش تاريخياً، باتت مؤخراً تصطدم مع صعود واضح وجلي للمتدينين وأنصار التيار الحريدي في إسرائيل، الذي تحول لقطب هام ومحوري في المعادلة السياسية، كما بات ضالعاً في القرارات الاستراتيجية والعملياتية الخاصة بالدولة.

يرى محمد مصلح، الباحث في الشؤون الإسرائيلية في حديثه لـ"عربي بوست"، أن "الأزمة السياسية الراهنة ستظل لسنوات طويلة حتى يصل في النهاية لصدام اجتماعي وإثني أشبه بنشوب حرب أهلية، لأن الشرخ الحاصل في المجتمع كبير جداً، ويتسع مداه عاماً بعد عام، وبالتالي لا يمكن احتواء هذه المشكلة في إجراءات أو سياسات قد تتخذها الحكومة أو مؤسسة الجيش".

ويضيف المتحدث "من المهم أن نعرف أن وصول اليمين الديني لمفاصل الحكم في إسرائيل، بما فيها مؤسسة الجيش والشرطة والاستخبارات، هدفه تطويع الدولة لتحقيق أهدافه الاستراتيجية، وهي سمو وإعلاء الطبقة الحريدية لتكون أشبه بالنظام النازي في ألمانيا في فترة هتلر".

أبرز مشاهد الصدام بين الجيش والمتدينين 

أبرز مشاهد هذا الصدام بين الجيش والمؤسسة الحاخامية الدينية، الفتوى الأخيرة التي أصدرها الحاخام الأكبر للمتدينين في جبل عتصيون يعقوب مادان، حينما دعا طلابه ومؤيديه لعدم الانخراط في سلاح المدرعات حتى إشعار آخر والتمرد على الجيش، بعد أن شرع الجيش بدمج المجندات في وحدات قتالية مشتركة.

يأتي ذلك في وقت تسعى فيه قيادة الجيش الإسرائيلي كمؤسسة منفصلة بذاتها، لإجراء إصلاحات في أذرعها القتالية المختلفة، من خلال استحداث وحدات قتالية جديدة، وتطوير أساليبه القتالية ودمج المجندات في هذه الوحدات، وترقيتهم لرتب متقدمة، بينما يقوم التيار الديني في الدولة بتعطيل هذه الإجراءات.

التهرب من الخدمة في الجيش

تتحدث المحافل العسكرية الإسرائيلية أن مثل هذه الدعوات المتكررة من المتدينين أثرت سلباً على واقع التجنيد في الجيش، فعلى سبيل المثال أفاد تقرير لصحيفة إسرائيل اليوم، أن العام 2021 شهد زيادة في عدد الشبان الهاربين من الخدمة بنحو 3100 شخص، مقارنة بـ2500 شخص وفقاً لبيانات العام 2020.

يشكل الفرار من الخدمة في صفوف الجيش واحدة من أهم الظواهر التي تهدد المؤسسة العسكرية، ولمعرفة أبعادها يشير العميد والخبير العسكري رفيق أبو هاني أن "العنصر البشري في الجيش الإسرائيلي يتفوق بأهميته عن التكنولوجيا والعتاد المتطور، وبالتالي يرى الجيش أن عمليات الفرار من الخدمة الإجبارية تعبر عن أزمة بنيوية، ستنعكس سلباً على أدائه في ظل التحديات الأمنية الراهنة".

اعتبار آخر مقلق في هذه القضية في نظر المؤسسة العسكرية، أن الجيش الذي لطالما كان بعيداً عن السجال السياسي الداخلي بات الآن ورقة بيد السياسيين، الذين يسعون لإدخاله في هذا الانقسام السياسي الحاصل، وبالتالي ستقع مسؤولية كبرى أمام ضباط وهيئة أركان الجيش، لتحييد الجنود وأفكارهم، والأيديولوجية التي يحملونها، حتى لا يحدث شرخ بنيوي داخل الكتيبة الواحدة في الجيش.

المدارس الدينية والإعفاء من الخدمة في الجيش

تعرّف إسرائيل نفسَها بأنها دولة يهودية ديمقراطية، أما نظامها السياسي والاقتصادي فيحكمه نظام علماني منفصل عن الأيديولوجية، إلا أن هذا التعريف بات يشكل الآن مصدراً لإشكاليات سياسية واجتماعية لا تنتهي، فالتغيرات البنيوية التي حدثت في تركيبة المجتمع الإسرائيلي في السنوات الأخيرة تنافي هذا التعريف، بل وتتناقض معها في جوهره.

وفقاً للأدبيات السياسية فإن تركيبة المجتمع الإسرائيلي تتشكل من أربع فئات أساسية، وهم اليهود الأرثوذكس (المحافظون)، واليهود العلمانيون، والحريديم، والتقليديون (القوميون).

صحيح أن الحريديم يشكلون الآن ما نسبته 15% من إجمالي عدد اليهود في إسرائيل، إلا أن نتائج الانتخابات الأخيرة أظهرت أنهم يفوقون ذلك بكثير، بدليل أن نصف أعضاء الائتلاف الحكومي (64 مقعداً) هم من اليهود الحريديم، الذين يتخذون من المستوطنات المقامة في الضفة الغربية موطئاً لهم.

هذا التحوّل الاجتماعي الذي تشهده إسرائيل سيُشكّل في النهاية صداماً مع الجيش، لأن التيارات الدينية الحاكمة في إسرائيل ترفض أن يلتحق طلبة المدارس الدينية بالجيش، بهدف التفرغ لتعلم التوارة.

تشير المعطيات الإسرائيلية إلى أن عدد طلبة المدارس الدينية يقدر بما بين 60 إلى 80 ألف طالب، يتركز أغلبهم في أحياء بني براك، ومستوطنات الضفة الغربية، وترفض هذه الفئة الاندماج في المجتمع، كما أنهم لا يلتحقون بسوق العمل أو الدراسة الجامعية، ويعتمدون بذلك على الحكومة في توفير مخصصات شهرية لتسيير أمورهم المعيشية.

ولسنوات طويلة، فشلت الأحزاب العلمانية واليسارية في فرض قانون التجنيد على الحريديم، وقد نشب صدام كبير داخل الكنيست بسبب هذه القضية.

أما الجيش الإسرائيلي القائم على عقيدة "جيش الشعب" فهو يرى أنه من الضرورة التوصل لصيغة داخل الكتل السياسية لحسم هذا الملف، لأن التيار الحريدي المتمرد هو الأسرع نمواً سكانياً.

 إذ تشير تقديرات مكتب الإحصاء الإسرائيلية إلى أن عدد الحريديم يمكن أن يصل في العام 2059 لنحو 35% من إجمالي السكان، وستكون الشريحة العمرية ما بين 1-19 عاماً نحو 50% من العدد الإجمالي لسكان إسرائيل.

ولعل أحد أبرز العوامل التي تُسهم في هذا النمو الكبير للمتدينين هو معدل الإنجاب، الذي يتجاوز 6.5 فرد لكل عائلة، في حين لا يتجاوز المعدل العام للإنجاب في المجتمع اليهودي ككل 2.9 فرد لكل عائلة.

تحميل المزيد