ينتظر المصريون موجة ارتفاع جديدة في أسعار السلع الاستهلاكية والمحاصيل الزراعية والعقارات مع توقف البنك المركزي المصري عن تمويل القطاع الخاص لدعم القطاع الخاص الصناعي والزراعي والمقاولات ونقل تبعية المبادرات القديمة إلى وزارة المالية ووقف مبادرات التمويل.
يقول خبراء اقتصاديون لـ"عربي بوست"، إن مبادرات التمويل ستتوقف بابكامل تدريجياً خلال الأشهر المقبلة، إذ أخطر البنك المركزي المصري، الأسبوع الماضي، البنوك المحلية ومجتمع المال والأعمال بالتوقف عن منح التمويلات المتعددة، فكيف ستتأثر قطاعات الصناعة والزراعة والمقاولات بهذا القرار؟
ضربة قاصمة للقطاعات الصناعية
يشكل القرار الأخير ضربة قاصمة للقطاعات الصناعية مع اختفاء الدولار، وعدم قدرة كثير من المصانع والشركات على استيراد المواد الخام بشكل طبيعي، بسبب فشل البنوك في الإيفاء بحاجات الشركات من الدولار بشكل يومي للاستيراد، وهو ما يترتب عليه نقص في توفير العديد من السلع، ما يقود إلى تضرر قطاعات الصناعة التي تعطلت دورة عملها، إلى جانب الأثر الآخر المترتب على ارتفاع الأسعار.
ويحظر القرار الصادر عن رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، على أي جهة أو هيئة وضمن ذلك البنك المركزي، صياغة أو طرح مبادرات تمويلية منخفضة العائد أو تعديل أي مبادرة تمويلية قائمة تكون لها تكلفة على الخزانة العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، منظور أو محتمل، إلا بموافقة مجلس الوزراء، وبعد العرض من وزير المالية.
وينوب عن البنك المركزي وزارتا المالية، والإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، وصندوق دعم السياحة والآثار، وتتولى تلك الجهات الإشراف الفني والتنظيمي على المبادرات القائمة وضمن ذلك عملية إنشاء نظم المعلومات اللازمة لإدارتها مع تقليصها بشكل كبير.
وتستجيب تلك الخطوة لمتطلبات صندوق النقد الدولي لإقراض مصر، وذلك لخفض مطالبة الخزانة العامة بأية تعويضات عن دعم البنك المركزي لهذه المبادرات، وجاءت بعد أقل من شهر على إعلان الصندوق توصله مع مصر إلى اتفاق تمويل يصل إلى ثلاثة مليارات دولار مدته ستة أشهر، إضافة إلى 6 مليارات أخرى من شركاء تجاريين، وفي ذلك الحين أكد أن التعاون يهدف إلى إيجاد تعديلات هيكلية للاقتصاد الكلي.
ضبابية رؤية الحكومة تجاه توطين الصناعة الوطنية
يشير خبير اقتصادي إلى أنه كان من المتوقع استمرار أي مبادرات تستهدف دعم أو تحفيز القطاعات الإنتاجية في ظل الأزمات العديدة التي تعانيها، بدءاً من جائحة كورونا ومروراً بالحرب الروسية الأوكرانية ونهاية بالانخفاضات المتتالية في أسعار الجنيه أمام الدولار وعدم توافره من الأساس لاستيراد مستلزمات الإنتاج، غير أن الحكومة أقدمت على اتخاذ قرار مفاجئ للجميع وستكون تبعاته كارثية على مختلف القطاعات.
ويضيف لـ"عربي بوست"، أن التوقعات ذهبت قبل اتخاذ القرار الأخير، بأن تستمر المبادرات من خلال عائل جديد بنسب الفائدة نفسها تحديداً مع المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومشروعات الري الحديث والمشروعات العقارية، في ظل اهتمام الحكومة بتوطين الصناعات الوطنية والتوجه نحو التوسع في زراعة الأراضي واستصلاحها.
وكذلك إلقاء ثقلها الاستثماري في القطاع العقاري الذي سيكون أكبر المتضررين من قرار وقف التمويل، لكن ما حدث يؤشر على أنه لا رؤية واضحة للحكومة بشأن آليات دعم الاقتصاد.
ويشدد على أن إيقاف مبادرة القطاع الصناعي بشكل مفاجئ أمر خطير يضيف فوق كاهل المصانع أعباء إضافية متمثلة في تكلفة رأس المال، فضلاً عن تحرير أسعار الطاقة والمشكلات التي تواجه المصنّعين في الحصول على التراخيص والأراضي وغيرها من الأعباء التقليدية.
وبالتالي فإنها تضع ثقلاً جديداً على تكلفة رأس المال، وستكون النتيجة الحتمية هي انكماش حجم الإنتاج المحلي، وقد يصل الأمر إلى توقف صناعات عديدة في حال عدم قدرتها على تحقيق أرباح.
ويلفت المصدر إلى أن الحكومة حين توسعت في تقديم المبادرات منخفضة الفائدة إلى قطاعات عديدة من خلال البنك المركزي استهدفت بالأساس توطين الصناعة الوطنية وتخفيف الاعتماد على الاستيراد لتوفير مزيد من الدولارات.
وبالقرار الأخير فإنها تقضي على كل ما أقدمت عليه خلال السنوات المقبلة، بل إنها أمام أزمات مضاعفة من جراء ندرة الدولار وتضاعف حجم الديون الخارجية، وبالتالي فإنه سيتم إرجاء أي خطط من شأنها تعميق الصناعة الوطنية.
وكانت القاهرة تعول على ارتفاع قيمة الصادرات الخارجية لدعم البلاد بالعملة الأجنبية، خصوصاً في ظل شح الدولار الأمريكي مع تراجع قيمة الجنيه المصري ليخسر نحو 55% من قيمته في 2022، في ظل تراجع الإيرادات السياحية، وثبات إيرادات قناة السويس، وتحويلات المصريين العاملين بالخارج.
وبلغ عدد المبادرات التي أطلقها المركزي المصري منذ العام 2015 أكثر من 20 مبادرة، من بينها مبادرة المشروعات الصغيرة والمتوسطة بفائدة 5% سنوياً وضخ تمويلات فيها بأكثر من 400 مليار جنيه، إضافة إلى مبادرة للتمويل العقاري بفائدة 7 و8% لمحدودي ومتوسطي الدخل قبل وقفها، ثم إصدار مبادرة لمتوسطي الدخل بفائدة 8% سنوياً، وأخرى بفائدة 3% سنوياً لمحدودي ومتوسطي الدخل.
نتج من تلك المبادرات منح تسهيلات ائتمانية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة تصل إلى 213 مليار جنيه لعدد 126 ألف شركة صغيرة ومتوسطة، بخلاف التمويل متناهي الصغر لعدد ما يزيد على 900 ألف عميل متناهي الصغر، إلى جانب الموجه من البنوك لشركات وجمعيات التمويل متناهي الصغر والذي بلغ نحو 14 مليار جنيه ومكّنها من الوصول إلى ما يقرب من 4 ملايين مقترض، بحسب بيانات رسمية.
إغلاق متوقع للعديد من المصانع المتعثرة وانكماش في الإنتاج المحلي
يؤكد كريم عماد، صاحب أحد المصانع التي تعمل في مجال تصنيع الأدوات المنزلية، أن الفترة الماضية كانت شاهداً على اتجاه كثير من الشركات نحو التوسع في الإنتاجية مع الصعوبات التي واجهت عمليات الاستيراد، ما منح الفرصة لبروز عدد من الصناعات المحلية.
لكن القرار الأخير قوض أي مساعٍ للتوسع، بل إن كثيراً من الشركات التي كانت تلجأ إلى الاقتراض مستفيدة من الفوائد البسيطة، قد لا تتمكن من الاتجاه نحو ذلك مستقبلاً وقد تضطر إلى الانكماش على نحو أكبر.
ويضيف لـ"عربي بوست"، أن الحلقة الأضعف في تلك المشكلة هي المواطن، الذي سيتحمل زيادة أسعار كثير من مستلزمات الإنتاج نتيجة الضغط الهائل على رؤوس أموال العديد من الشركات.
كما أن القطاع الخاص بأكمله والعاملين فيه سيدفعون الثمن، وطالب بإيجاد حلول أخرى كحوافز وتيسيرات تقدم للقطاع الصناعي بهدف مساندته خلال الفترة المقبلة، مثل إعفاءات ضريبية وجمركية، وتقديم تمويل ميسر عن طريق جهات تمويل أخرى.
من وجهة نظر رجل أعمال له العديد من الاستثمارات في السوق المصري، فإن صندوق النقد نجح بالنهاية في تمرير رؤيته التي ترفض تقديم البنك المركزي دعماً مستتراً لقطاع الصناعة، وإن اللقاءات التي جرت بين الحكومة المصرية واتحاد الصناعات خلال الأشهر الماضية شهدت تشديداً من جانب رجال الصناعة على ضرورة الحصول على القروض بمعدل فائدة 8% للمشاريع الصناعية والزراعية والسياحية بدلاً من العودة إلى نظام التمويل بالحصول على فائدة بمعدلات أعلى.
وإذا لم تنجح المشاريع الزراعية والصناعية والسياحية في زيادة أرباحها فستضطر إلى خفض حجم الإنتاج، وبالتبعية سيؤدي ذلك إلى انخفاض في الصادرات، وزيادة أسعار المنتجات التي تقدمها إلى السوق المحلي، خاصةً أن ما يقرب من 90% من المستثمرين وأصحاب المصانع التي تندرج تحت بند المشروعات المتوسطة والكبيرة تعتمد على الاقتراض من البنوك.
وبدلاً من الحصول على تمويل بسعر فائدة 8% ستضطر إلى جلب قيمة التمويل نفسها، لكن بفائدة تصل إلى 16.25% بعد إضافة 2% على السعر المعلن من البنك، بحسب ما أكده المصدر.
ورفع البنك المركزي المصري سعر الفائدة في البنوك المصرية خلال أكتوبر الماضي ليصل إلى 13.25%، و14.25% و13.75% على التوالي، وهو ما يعني، وفقاً للمتحدث ذاته، أن أياً من الشركات أو المصانع إذا اضطرت إلى الاقتراض فإن أسعار الفائدة ستكون مرتفعة.
وحدد قرار الحكومة المصرية خمس مبادرات سيتوقف "المركزي" عن تحمل تكلفة فرق سعر الفائدة وهي: مبادرتا التمويل العقاري بفائدة سنوية على أساس متناقص 8% لمتوسطي الدخل، و3% لشريحة متوسطي ومحدودي الدخل، ومبادرة السياحة، ومبادرة إحلال المركبات للعمل بالوقود المزدوج (الوقود والغاز)، ومبادرة تشجيع الري بالوسائل الحديثة.
سوق العقارات ينتظر كبوة جديدة مع زيادة التضخم وركود البيع
ويقول علي إسماعيل، وهو أحد المطورين العقاريين العاملين بمنطقة التجمع الخامس شرق القاهرة، إن القرار الأخير يقضي بخفض مبادرة التمويل العقاري التي أطلقها البنك المركزي في العام 2020 من 50 مليار جنيه إلى 15 مليار جنيه فقط، وبالتالي ستنخفض قيم التمويل العقاري المسجلة في السوق المحلية، وهو ما سيدفع شركات العقارات إلى إعادة النظر في أنظمة الدفع والتقسيط لتقليص خسائرها.
ويضيف أن نقل مبادرات التمويل منخفضة العائد إلى الجهات الحكومية ومن بينها وزارة الإسكان، سيحمل تأثيراً سلبياً على النشاط، وستتجه على نحو أكبر لتمويل مشروعات الإسكان التي تُشرف عليها الوزارة، وسيكون القطاع الخاص المتضرر الأكبر لاعتماده بشكل كبير على التسهيلات البنكية لتغطية عملياته، خاصةً أن آلية تطبيق البرنامج الجديد الذي يمنح الحق لوزارة المالية في سداد فرق الفائدة على التمويلات الممنوحة، لم تتضح بعد.
يتخوف إسماعيل من عدم قدرة الجهات الحكومية على توفير مخصصات مالية للتمويلات العقارية بعيداً عن البنوك الحكومية والخاصة، ويتوقع أن تحدد وزارة المالية سقفاً زمنياً ومالياً للتمويلات خلال عام، كما أن سعر الفائدة في تلك الحالة سيكون مضاعفاً، مما سيدفع شركات العقارات الإحجام بعيداً عن طلب التسهيلات من الأساس.
ويتوقع انكماش السوق العقاري الذي سيواجه أزمات مضاعفة بعد ارتفاع أسعار العقارات، وسيؤدي ذلك لتعمق ركوده في الفترة المقبلة، في ظل انخفاض قيمة رواتب المواطنين بسبب التضخم، وعدم القدرة على شراء الوحدات السكنية غير المدعومة.
تهديد يواجه مشروعات الزراعة بأنظمة الري الحديثة
مشروعات الزراعة الكبيرة هي الأخرى ستواجه المأزق نفسه، وبحسب أحد مستثمري القطاع الزراعي فإن تمويلات المشروعات الكبيرة والمتوسطة والتي استهدفت دعم استخدام طرق الري الحديثة، من المتوقع أن تواجه مشكلات بعد أن كانت تقترض بمعدلات 8%، وذلك في محاولة للتعامل مع التكلفة المرتفعة لتلك النظم التي تساهم في توفير المياه وتعمل بشكل أساسي في مئات الآلاف من الأفدنة المستصلحة حديثاً، ما ستكون له انعكاساته المباشرة على توفير المحاصيل الزراعية، في ظل الزيادات المطردة في أعداد السكان إذا لم يستطع المزارعون والشركات الصاعدة حديثاً في المجال الحفاظ على الحد الأدنى من أرباحها.
ويشدد على أن شركات الاستثمار الزراعية تعمل على إعداد ورقة عمل تمثل رؤيتها بعد هذه القرارات؛ للحفاظ على الاستثمارات القائمة وعدم تراجعها، وإرسال الورقة إلى الجهات الحكومية المعنية، خصوصاً أن القطاع الزراعي يعتمد بشكل أساسي على المبادرات التي يقدمها البنك الزراعي الذي كان يتبع في السابق وزارة الزراعة قبل نقل تبعيته إلى البنك المركزي.
تراجع أرباح البنوك وتقليص خسائر البنك المركزي
وفي المقابل يرى خبير مصرفي أن المتضرر الأكبر سيكون في الشركات الكبرى والمتوسطة، لأن الدعم المقدم إلى المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر بنسبة فائدة 5% و3% ما زال مستمراً ولم يشمله قرار الحكومة المصرية، لكنه توقع في الوقت ذاته أن تكون هناك قرارات تفصيلية أخرى بشأن تلك المشروعات لإحداث حالة من التوازن في السوق.
ويؤكد أن وقف مبادرات التمويل يحقق أكثر من فائدة للبنك المركزي، إذ إنه بالأساس سيساهم في توفير الدولار الشحيح حالياً مع وصول قيمة قرض صندوق النقد الدولي والذي كان ذلك أحد أبرز شروطه التي رفض التنازل عنها خلال المفاوضات مع الحكومة المصرية، كما أن القرار يعالج تشوهات سعرية في أسعار الفائدة ويعيد الأمور إلى نصابها الصحيح.
ويشير إلى أن الأرباح التي حققتها البنوك المحلية خلال السنوات الماضية ستتراجع، لأنها كانت تحصل عوائد شهرية من "المركزي" عن حالات التمويل ضمن المبادرات ما بين 3 و4% عن كل حالة مستفادة من المبادرة، لكن في المقابل فإن ذلك سيقلص من الخسائر التي تعرض لها البنك المركزي خلال الفترة الماضية، وسوف تحسن من وضعيته الدولية.
وتجاوزت خسائر البنك المركزي خلال آخر 5 سنوات، من يونيو/حزيران 2018 حتى يونيو/حزيران الماضي، مبلغ 100 مليار جنيه، بحسب القوائم المالية المنشورة للمركزي.