أظهرت مصادر وسلسلة من الرسائل الحكومية وتدقيق حسابات أن خزائن الدولة العراقية قد تعرضت لاختفاء مبالغ تقدر بـ2.5 مليار دولار، في عملية نهب أطلق عليها العراقيون اسم "سرقة القرن"، بحسب ما قالت صحيفة The Guardian البريطانية الأحد 20 أكتوبر/تشرين الثاني 2022.
وفيما وضعت وسائل الإعلام والمجتمع الدولي أعينهم على اقتراع أكتوبر/تشرين الأول 2021، الذي جاء على خلفية احتجاجات حاشدة تطالب بإسقاط النخبة الحاكمة الفاسدة، كانت الساحة مهيأة لاختلاس عائدات الضرائب، فيما ظهر باعتباره أكبر فضيحة فساد في عهد حكومة رئيس الوزراء آنذاك مصطفى الكاظمي.
نُهِبَ 2.5 مليار دولار من أموال الضرائب من قِبَلِ شركات وهمية بدون أي أثر ورقي تقريباً بمساعدة مسؤولين فاسدين، وفقاً لتقرير تحقيق داخلي من 41 صفحة اطلعت عليه الصحيفة البريطانية، وغُسِلَت تلك الأموال من خلال شراء العقارات في أكثر الأحياء ثراءً في بغداد.
مخطط محكم
توصلت صحيفة The Guardian إلى أن المخطط دُبِّرَ من قِبَلِ رجل أعمال ذي صلات جيدة ونفذه موظفون في لجنة الضرائب تمتعوا بدعم فصيل سياسي متحالف مع إيران يسمى منظمة بدر.
لكن لا يمكن أن تحدث سرقة بمثل هذه الضخامة إلا بمعرفة مجموعة واسعة من المؤسسات، بما في ذلك مكتب رئيس الوزراء، والبنك الذي أجاز عمليات السحب، وهيئة النزاهة والبنك المركزي، وفقاً لوثائق مسربة ومقابلات مع عشرات المسؤولين ورجال الأعمال والمصرفيين بمعرفة مفصلة بالقضية.
من جانبه، قال عضو سابق في اللجنة المالية بالبرلمان، ومثل معظم الأشخاص الذين أُجرِيَت معهم مقابلات لم يرغب في ذكر اسمه خوفاً من الانتقام: "إنها شبكة كبيرة وخلفها سياسيون كبار من كيانات قوية يقودون البلاد. لا يمكن لرؤساء الإدارات سرقة مثل هذه المبالغ بمفردهم". وأضاف: "هناك اتفاق وكل شخص يحصل على حصة".
وقال المدير السابق لمكتب الكاظمي الخاص، أحمد نجاتي: "الادعاء بأن مكتب رئيس الوزراء وافق على إزالة التدقيق وسهل السرقة في نهاية المطاف أمر مضلل". وأضاف: "إزالة التدقيق ليس مبرراً للسطو".
كُشِفَت الفضيحة من قِبَلِ حكومة الكاظمي المنتهية ولايتها الشهر الماضي، في نهاية صراع استمر لمدة عام حول تشكيل الحكومة بين فصيلين شيعيين متنافسين: حزب رجل الدين الشيعي النافذ مقتدى الصدر، الذي دعم الكاظمي، وتحالف فضفاض من الأحزاب الشيعية المعارضة لهم. تولى هذا التحالف السلطة منذ ذلك الحين، حيث حلَّ السياسي المخضرم محمد السوداني محل الكاظمي كرئيس للوزراء في 27 أكتوبر/تشرين الأول.
وطغت الاتهامات المتبادلة من الجانبين على انتقال السلطة في بلد تُستخدَم فيه تحقيقات الفساد في كثير من الأحيان لتشويه سمعة المعارضين بدلاً من غرس الشفافية.
ضغط على الكاظمي
يقال إن الاستيلاء على الدولة قد تعمَّق في عهد الكاظمي، رئيس المخابرات السابق والصحفي الذي كان يفضله الغرب، لأنه تعهد بكبح جماح الفصائل العسكرية للجماعات المتحالفة مع إيران مثل منظمة بدر. لكن الكاظمي افتقر إلى قاعدة سياسية وأصبح عرضة لضغوط الأحزاب وأجنحتها المسلحة التي سعت إلى إحكام قبضتها على المناصب الحكومية المربحة.
قال موظف في لجنة الضرائب، التي قال إنها كانت تتمتع بمزيد من الاستقلالية قبل حكم الكاظمي: "ذهب تقسيم المناصب إلى أبعد من ذلك في عهد الكاظمي. هذه هي الطريقة الوحيدة التي ظل فيها في السلطة". ونفى مكتب الكاظمي هذه الادعاءات.
كان لواحد على الأقل من مساعدي الكاظمي علاقات وثيقة مع رجل الأعمال الذي يُزعم أنه دبر المخطط، وفقاً لعدة مصادر، بمن في ذلك مدير مكتب الكاظمي السابق رائد جوحي. وأصبح ضياء الموسوي، ضابط المخابرات الذي عينه الكاظمي لقيادة مركز العمليات الوطني، هارباً بعد أن أصدر القضاء مذكرة بتهم فساد غير ذات صلة، ولم يتسن الوصول إليه للتعليق.
كان هناك اقتراح من الرئيس السابق للجنة المالية في مجلس النواب، هيثم الجبوري، قبل وقوع السرقة، يوصي بإنهاء دور غرفة التدقيق في فحص السحوبات من حسابات الهيئة، مستشهداً بـ"العديد من الشكاوى" حول الإجراءات المطولة.
بعد أشهر، عُيِّنَ الجبوري مستشاراً للكاظمي. ولم يستجب الجبوري لطلبات متكررة للتعليق.
كانت هذه الحسابات مكدسة بمليارات الدولارات من الودائع الضريبية التي دفعتها الشركات الأجنبية العاملة في العراق، ويمكن استردادها عند تقديم البيانات المالية الفعلية. لكن العملية كانت مرهقة للغاية، لدرجة أن معظم الشركات قامت بشطبها، تاركةً المبالغ غير المطالب بها لتتراكم في وعاء نقدي جذاب.
وقال العضو السابق في اللجنة المالية إن اقتراح إلغاء التدقيق كان ينبغي أن يكون بمثابة علامة حمراء للإدارة التي وعدت بمحاربة الفساد. وبدلاً من ذلك، أصدر كل من ديوان المحاسبة ومكتب رئيس الوزراء خطاباً لا يعبران فيه عن أي اعتراض. وأضاف عضو اللجنة المالية السابق: "كان كل ذلك جزءاً من الخطة".
توقف تنفيذ السرقة على المتواطئين داخل مفوضية الضرائب الذين لديهم سلطة توقيع للشيكات. وأفادت أربعة مصادر داخل وزارة المالية بأن تلك الشبكة أنشأها مديرها السابق شاكر محمود. وبناءً على رسالة من مكتب رئيس الوزراء ومكالمة هاتفية مع غرفة التدقيق، أمر محمود بإزالة التدقيق، وفقاً لوثيقة اطلعت عليها The Guardian.
بعد ذلك بوقت قصير، نُقِلَ محمود إلى دائرة الجمارك، حيث يشك الكثيرون في وجود مخطط مماثل قيد التنفيذ. ولم يتسن الاتصال بمحمود للتعليق.
ووفقاً لسبعة مصادر، كان محمود ومنفذو المؤامرة مدعومين من قبل منظمة بدر، المتحالفة مع إيران، والتي تسيطر على التعيينات العليا في مفوضيتي الضرائب والجمارك. بالإضافة إلى ذلك، كان لا بد من موافقة مجلس الإدارة من قبل رئيس الوزراء، بموجب مرسوم صدر عام 2020.
وبينما وقع وزير المالية آنذاك علي علاوي أوراق التعيينات، قالت مصادر في وزارة المالية إنه ليس لديه سلطة كبيرة على التوظيف. رفض اثنان من مرشحيه منصب مدير، بعد أن تلقيا تهديدات من منظمة بدر.
لم يستطع علاوي إزاحة أحد لأن منظمة بدر لن تقبل. وقال أحد المسؤولين إنه لم يحصل على دعم من مكتب رئيس الوزراء.
ونفى مكتب رئيس الوزراء أي مسؤولية عن السرقة. وقال مدير مكتب الكاظمي السابق: "حدثت هذه العملية برمتها داخل وزارة المالية. بدأت العملية في لجنة الضرائب وانتهت في بنك الرافدين (المملوك للحكومة)، وكلاهما يخضع لوزارة المالية".