انطلقت عملية منح التونسيين تزكيات لمرشحيهم للتقدم للانتخابات التشريعية المقرر تنظيمها نهاية السنة الجارية، وانطلقت معها ممارسات، منها استعمال المال السياسي لبيع وشراء تزكيات الناخبين التي تمثل أهم شرط قبول الترشحات.
وفور انطلاق فترة جمع التزكيات التي يُحدّدها القانون الانتخابي الجديد في 400 تزكية، انتشرت الأخبار عن عمليات شراء تزكيات التونسيين، لتصبح بعد ذلك على مرأى ومسمع من الجميع.
وكردّ فعل من طرف الرئيس التونسي قيس سعيد على شراء وبيع التزكيات، طلب من رئيسة الحكومة تطبيق القانون الانتخابي لإيقاف تغلغل المال الفاسد وتحكمه في العملية الانتخابية.
تزكية بـ20 ديناراً
ياسين وبلال وحمزة، 3 شبان من محافظة بن عروس، لم يجدوا أي حرج في التأكيد لـ"عربي بوست" أنهم قاموا بتزكية أحد المترشّحين، في البلدية التي يقطنون بها مقابل 20 ديناراً (حوالي 6,5 دولار).
فبالنسبة للشبان الثلاثة الذين تتراوح أعمارهم بين 24 سنة و26 سنة، لن تُحدث تزكيتهم لذلك المترشّح حتى دون معرفته أو تزكية غيره مقابل تلقيهم المال أو عن قناعة أي فرق وتغيير في مستقبل البلد الذي يرونه سوداوياً.
وهو ما جعل مصروف جيب يومين وعلبة سجائر متوسّطة الجودة وقهوة مقابل بعض الوقت في صفّ الانتظار داخل البلدية للتعريف بإمضائهم أسفل ورقة التزكية، التي لم يقرؤها مكسباً صغيراً لهم، وفق ما أكدوا لـ"عربي بوست".
ويفرض القانون الانتخابي الجديد في تونس جمع المترشّح للانتخابات التشريعية لـ400 تزكية من طرف ساكني الدائرة الانتخابية التي سيترشّح فيها لقبول ترشّحه، 200 من الرجال ومثلهم من النساء، منهم 25٪ شباب أقلّ من 35 سنة.
وتم اللجوء إلى التعريف بالإمضاء في البلديات لتفادي تزوير التزكيات، كما كان الحال خلال الانتخابات الرئاسية السابقة، والتي فرض القانون الانتخابي القديم على المترشّحين جمع 10 آلاف تزكية موزعة من كل المحافظات الموجودة في البلاد.
أبرز التعديلات القادمة
بعد فترة قصيرة من انطلاق جمع التزكيات وما صاحبها من عمليات بيع وشراء أعلن قيس سعيد عن توجّهه لتعديل القانون الانتخابي الذي وضعه للحد من التلاعب بالتزكيات.
وقالت مصادر مقرّبة من قصر قرطاج لـ"عربي بوست" إن "الرئيس يستعد للرفع من العقوبات السجنية لكل من يتلاعب بالتزكيات، والتخفيض في عدد التزكيات المطلوبة لحاملي شهادة جامعية إلى 200 تزكية عوض 400".
وبالإضافة إلى أعضاء الحكومات السابقين ورؤساء الدواوين والجمعيات الرياضية، سيُضيف قيس سعيّد للائحة الممنوعين من الترشح للانتخابات، حسب المصدر نفسه، كلاً من المستشارين البلديين ورؤساء البلديات، بسبب استعمال نفوذهم لتجميع التزكيات.
ولكن أهم التعديلات التي ستطرأ على القانون الانتخابي الجديد، تلك المتعلقة بطريقة انتخاب مجلس الجهات (المحافظات) والأقاليم، يقول المصدر الذي تحدث لـ"عربي بوست".
دوائر انتخابية تغذّي العروشية
خضعت كل الانتخابات التشريعية التي شهدتها تونس بعد سقوط نظام بن علي، والتي كان أولها في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011، إلى نظام الاقتراع على القائمات باعتماد الأغلبية النسبية مع أكبر البقايا.
وهو نظام انتخاب كرّس هيمنة الأحزاب، وكان سبباً رئيسياً في الأزمات السياسية، بإعتبار أن ذلك النظام الانتخابي يُفرز ضرورة برلماناً فسيفسائياً لا يُمكّن أي طرف وحتى الفائز في الانتخابات من تشكيل حكومة بمفرده.
ووفق ما أفاد به المختصّ في القانون الدستوري خالد الدبابي فـ"ردة فعل الرئيس على فشل النظام الانتخابي السابق بإقرار الانتخاب على الأفراد في دورتين، سيكون لها أثر جدّ سلبي على مكتسبات سياسية للعديد من الفئات".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن "هذه الآثار السلبية تتجلى في إلغاء تمثيلية المرأة والشباب، بعد أن كان القانون الانتخابي يفرض التناصف وتمثيلية معيّنة للشباب في القائمات لقبول ترشّحها في الانتخابات التشريعية".
كما تشمل سلبيّات الاقتراع على الأفراد، حسب المتحدث إثارة النعرات القبلية خاصة في داخل البلاد، حيث تحكم العائلات الكبرى وذوي النفوذ والمال في نتائج العملية الانتخابية ونتائجها، خاصة في ظل التقسيم الجديد واعتماد دوائر انتخابية ضيّقة.
وتُعرف المناطق والمحافظات الداخلية في تونس بتركّز عائلات من نفس القبيلة في مناطق واحدة، وتنشب في بعض الأحيان مناوشات بين القبائل تتطوّر في أغلب الأحيان لتبلغ معارك باستعمال الأسلحة البيضاء وبنادق الصيد.
اقتراع على الأفراد كردّة فعل
اعتمدت تونس منذ أول انتخابات تشريعية بعد ثورة 2011 على المحافظات كدوائر انتخابية يُحدد عدد نوابها عدد السكان، فيما تم تقسيم المحافظات الكبرى إلى دائرتين انتخابيتين، الأمر الذي أنهاه القانون الانتخابي الجديد لقيس سعيّد.
واعتمد سعيد دوائر انتخابية أصغر من حيث المساحة من المحافظات وأقل عدد سكان منها، وهي المعتمدية (البلدية)، التي تمثل في تونس تقسيماً ترابياً إداريّاً داخل المحافظة التي تتكون من عدد من المعتمديّات.
لكن الرئيس قيس سعيّد، وفي الملحق الذي صاحب المرسوم عدد 55، قسّم بعضاً من المعتمديات الكبرى لتُصبح دائرة انتخابية واحدة، وقسم بعضاً آخر إلى أكثر من دائرة واحدة.
العقوبات في القانون الانتخابي
الناطق الرسمي باسم الهيئة العليا المستقلة للانتخابات محمد المنصري قال إن الهيئة سجّلت بمفردها إلى حدود يوم الثلاثاء الماضي أكثر من 150 ألف تزكية لمترشّحين في الانتخابات التشريعية المقبلة.
وأضاف المنصري في حديث لـ"عربي بوست" أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات لا ترى ضرورة لتنقيح القانون الانتخابي في هذا الحيّز الزمني القصير الذي يفصل عن الانتخابات.
ودعّم المنصري موقفه وموقف مجلس الهيئة، في وجود فصول ردعية وزجرية في المرسوم عدد 55 لكل المخالفات والتجاوزات والجرائم الانتخابية التي يُمكن ارتكابها خلال فترة الانتخابات بما فيها تجميع التزكيات.
ويقرّ المرسوم عقوبة من سنتين إلى 5 سنوات سجناً وبغرامة مالية من ألفين (700 دولار) إلى 5 آلاف دينار (1650 دولاراً) ضدّ كلّ شخص ثبت قيامه بتقديم عطايا نقدية أو عينية قصد التّأثير على النّاخب.
مقاربة الرئيس
المحلل السياسي والباحث في علم الاجتماع السياسي عبد اللطيف الهرماسي قال إن رئيس الدولة لم يخرج عن مقاربته القانونية في التعامل مع الأزمات التي تعصف بالبلاد.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن كاتب القانون الانتخابي الجديد غفل عن عواقب شرط التزكيات في ظل مناخ سياسي راهن وأزمة اقتصادية، الأمر الذي سيفتح الباب ليس لعمليات البيع والشراء فقط.
وأشار المتحدث إلى أن صيغة القانون الانتخابي التي خرج بها الرئيس في منتصف الشهر وعلى رأسها شرط التزكيات، واصلت تكريس علاقة الزبونية بين السياسي والمواطن التي لا تحكمها سوى النفعية والمصلحة الآنية. وهو ما يقترح سعيّد تعديل القانون الانتخابي من جديد؛ نظراً لأن التنقيح السباق لم يحقق هدفه.
وقال المتحدث: "هنا يكشف الرئيس مرة أخرى عن أن نهجه في التعاطي مع كل ملفات البلاد ينطلق من مقاربة قانونية صرفة، وهذه المقاربة قدمها منذ أن كان مرشحاً للانتخابات الرئاسية في 2019".
وفي تقدير المحلل السياسي، فقد غفل الرئيس عن أن النص القانوني الذي تتم صياغته سيكون لتنظيم حياة سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية متحركة ومعقدة لا يمكن إدارتها بنص قانوني تشرعه السلطة دون استماع أو تشاور واسعين.
حيث أكد الهرماسي أن ذلك الخطأ لم يقتصر على القانون الانتخابي وتلميح الرئيس إلى تعديله لتجاوز ثغرة بيع وشراء التزكيات، بل شمل الدستور الجديد ولجأ الرئيس إلى تعديله بعد نشره كمشروع دستور نهائي في الجريدة الرسمية.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”