لم يحقق القرار الذي اتخذته الحكومة المصرية قبل عامين بوقف أعمال البناء أهدافه التي رسمها في ذلك الحين، إذ كان يهدف إلى تشغيل الشركات العقارية التي تعمل إلى جانب الهيئات الحكومية والهيئة الهندسية للجيش في العاصمة الإدارية وعدد من المدن الجديدة الأخرى، ومساعدتها على تحقيق أرباح سريعة لجذب مزيد من الشركات للعمل بتلك المدن بما يحقق خطط الحكومة الإنشائية.
لكن ما حدث أن القطاع العقاري شهد منذ ذلك الحين جملة من الانتكاسات أرغمت الحكومة الآن على تغيير أهدافها.
بحسب مصدر برلماني مقرب من دوائر السلطة الحاكمة في مصر، فإن الشهر المقبل سيشهد مناقشة تعديلات بنود المصالحات في مخالفات المباني، وسيتضمن التطرق إلى منح مزيد من التسهيلات للمقاولين والمطورين العقاريين الذين لديهم أراضٍ لم يتمكنوا من بنائها منذ القرارات الصادرة في العام 2020.
كما سيتم إلغاء اشتراط الحصول على ترخيص مسبق لبناء عشرة طوابق أو أكثر، أو ربطها بمساحة عرض الشارع الذي يتواجد فيه العقار بدلاً من القرار الحالي الذي ينص على بناء أربعة طوابق فقط.
وأضاف المصدر أن مئات المقاولين قاموا بضخ أموال هائلة في أصول عقارية قبل إصدار قرارات وقف البناء، ولم يتمكنوا حتى الآن من بنائها؛ لأن الاشتراطات الحالية لا تحقق قيمتها المالية.
وأوضح أن هناك ملايين الأسر التي تضررت من تلك القرارات إلى جانب 135 مهنة مرتبطة بالقطاع العقاري تعرضت لما يشبه الشلل، مع تراجع معدلات دورة البناء بصورة كبيرة، ما أفرز الحاجة لإدخال تعديلات جديدة تُسهم في إعادة تشغيل القطاع بصورة تقترب مما كانت عليه قبل العام 2020.
حوافز للمقاولين وفتح المجال أمام البناء في المدن
المصدر البرلماني المطلع أوضح لـ"عربي بوست" أنه من المتوقع أن تقدم الحكومة حوافز للمقاولين باستبدال الأراضي التي يمتلكونها في مناطق مزدحمة بأخرى في مدن جديدة بنفس قيمتها المالية، وتقديم تسهيلات أخرى على مستوى إصدار التراخيص وتوفير مواد البناء.
وكذلك فتح المجال أمام البناء مرة أخرى في عواصم المدن والمحافظات وفقاً لضوابط تضمن عدم البناء العشوائي، وتُحدث حراكاً على مستوى توفير فرص عمل للعمالة غير المنتظمة التي تضررت بصورة كبيرة وتسببت في زيادة معدلات البطالة في المحافظات والأقاليم.
وكشف المصدر -الذي رفض ذكر اسمه- أن عدد الشركات العاملة في قطاع العقارات بلغ 36 ألف شركة مسجلة، تعمل 85% منها في مشروعات صغيرة، والنصف منها فقدت حصتها السوقية، ولم يعد لديها نشاط في السوق إلى جانب مئات الشراكات الأخرى بين مقاولين يعملون في مجال البناء دون تراخيص معتمدة.
هؤلاء يشكلون القوة الضاربة لسوق العقارات على مستوى الجمهورية، وتسبب توقفهم في أزمات اقتصادية عديدة تحاول الحكومة إصلاحها في الوقت الحالي.
12 مليون أسرة تضررت من قرارات وقف البناء
تشير أرقام صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء إلى أن وقف تراخيص البناء أثر على ملايين العمال غير المنتظمين، والذين يمثلون أكثر من 40% من العاملين في سوق العمل، البالغ عددهم 30 مليوناً، وأن الأكثر تأثراً هم الموجودون في القرى والمناطق الشعبية والأقاليم.
ويؤكد الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء أن نحو 12 مليون مصري يعملون في قطاع المقاولات. فيما ذكرت دراسة حديثة أن هناك من 15 مليون إلى 20 مليون مواطن من مختلف الفئات، يستفيدون بصورة مباشرة من مشروعات البناء والتشييد، وأن أكثر من 70% من طوائف المجتمع متضررة من قرار وقف تراخيص البناء.
وقال مصدر مطلع بلجنة الإدارة المحلية بالبرلمان المصري لـ"عربي بوست"، إنه يجري في الوقت الحالي استعجال انعقاد جلسات البرلمان الخاصة بشأن تعديلات قانون المصالحات في المباني المخالفة.
وأوضح أن الحكومة أرسلت مسودة التعديلات إلى عدد من نواب البرلمان للتشاور بشأنها قبل تقديمها بشكل رسمي، والتي تضمنت تخفيف القيود على ارتفاعات المباني، شريطة عدم الإخلال بسلامة المبنى، والسماح بالبناء في عواصم المدن والمحافظات.
وأضاف أن الحكومة تستهدف من تلك الانفراجة التي مازالت في طور النقاشات تحقيق أكثر من هدف، لأن المقاولين والمطورين العقاريين الذين كان من المفترض أن تكون قبلتهم المدن الجديدة للاستثمار هناك لم يذهبوا إليها.
وذكر أن الحكومة أدركت أن ذلك لن يكون ممكناً ما دام آلاف المقاولين لا يستطيعون تحصيل الأموال التي تم وضعها في أراضٍ تم تجميد بنائها لأكثر من عامين، وعليها أن تساعدهم على استعادة تلك الأموال أولاً، ثم تقديم حوافز إضافية تشجعهم على إنقاذ القطاع العقاري الذي يأخذ في التراجع نتيجة تقلبات أسعار مواد البناء وتأثره بالقدرة الشرائية للمواطنين.
وتتيح التعديلات الجديدة- بحسب ما يؤكد المصدر- التصالح في المخالفات التي تتجاوز قيود الارتفاع المقررة من سلطة الطيران المدني أو متطلبات شؤون الدفاع عن الدولة إذا كانت غير مؤثرة.
وكذلك المخالفات الخاصة بالمباني والمنشآت ذات الطراز المعماري، والتصالح في مخالفات البناء خارج الأحوزة العمرانية المعتمدة والكتل السكنية القريبة من الأحوزة العمرانية للقرى وتوابعها والمدن.
مقاولون يهددون بوقف الدعم الدعائي والمالي لنواب البرلمان
وأوضح سعد منصور، وهو أحد مطوري العقارات، أن الأشهر الماضية كانت شاهدة على ضغوطات عديدة مارسها العاملون في القطاع على نواب البرلمان لتحريك الملف.
وقال: "تلقينا وعوداً منذ بداية العام الجاري بإدخال تعديلات مهمة، تُسهم في إعادة تنشيط السوق، وإن تكتلات المقاولين والعاملين في المجال استطاعوا أن يبعثوا رسائل تهديد للنواب حال لم يتم تحريك الملف تحديداً، وهؤلاء يشاركون في الأغلب بحملات مالية ودعائية لكثير من نواب البرلمان الحالي، الذي يحتاجون إلى المال للحفاظ على مقاعدهم".
ويؤكد منصور لـ"عربي بوست" أن وقف البناء وتجميد عملية المصالحات بعد دفع مبالغ مالية طائلة يشكل تهديداً أمنياً للدولة، لأن هناك ملايين العمال الذين اتجهوا إلى العمل كسائقي "توكتوك"، مع مضاعفة أعداد التكاتك في المحافظات المختلفة، دون أن تكون لديها إجراءات ترخيص، وتخشى الحكومة من أن يكون تفريغ العمالة مهدداً لها، لأنها ستكون أمام أشباح لا تتمكن من التعامل معهم، إلى جانب الغضب الشعبي المتوقع حال استمر الملايين منهم بدون فرص عمل لأعوام طويلة.
وهناك بُعد آخر أشار إليه منصور، يرتبط بحالة خمول سوق العقارات في مصر، وانعكاسات ارتفاع معدلات التضخم على تباطؤ مجموعة من القطاعات الاقتصادية، على رأسها القطاع العقاري، الذي تراجعت معدلات الاستثمار فيه بصورة ملحوظة، وهو ما تحاول الحكومة ملاحقته عبر اتجاهات عديدة، بينها إتاحة مساحات عمل جديدة لبعض المقاولين الذين لديهم أراضٍ بالفعل لم يتمكنوا من بنائها، مع عدم السماح بالبناء على أي أراضٍ لديها عقود شراء حديثه بعد قرارات وقف البناء.
أزمة اقتصادية تُرغم الحكومة المصرية على مراجعة خططها
وشهد معدل التضخم السنوي في المدن المصرية ارتفاعاً إلى 14.6%، في أغسطس/آب الماضي، عند أعلى مستوى في نحو 4 سنوات، مقابل 13.6% في يوليو/تموز، بحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء.
وأثر هذا الارتفاع بصورة مباشرة على أسعار مواد البناء، التي شهدت ارتفاعاً كبيراً بأسعارها، مدفوعة بموجات التضخم العالمي، وسط توقعات تشير إلى صعود مرتقب في أسعار الوحدات العقارية خلال الربع المقبل.
وتوقعت مؤسسة "فيتش سوليوشنز" للأبحاث، مزيداً من التباطؤ في النشاط الاقتصادي في مصر، خاصة القطاع العقاري خلال الأرباع القادمة، مع احتمالية تعديل آخر في سعر العملة، من شأنه أن يزيد الضغوط التضخمية.
وذكرت فيتش أن مصر في حاجة ماسة لجذب استثمارات أجنبية إضافية، وتقليل تأثير الدولة في الاقتصاد، والذي اتبعته بالفعل عبر زيادة مشاركة القطاع الخاص، موضحة أن مخزون العقارات التجارية حافظ على مكانته كاستثمار فعال من حيث التكلفة، وهو أمر إيجابي للاستثمار الأجنبي المباشر.
ويمكن القياس على حجم الركود الذي يعانيه قطاع العقارات في مصر من المبيعات التي حققتها مجموعة طلعت مصطفى القابضة، باعتبارها إحدى أكبر الشركات العاملة في القطاع العقاري المصري، إذ حققت مبيعات عقارية بلغت 11.3 مليار جنيه خلال الفترة المنتهية في 30 يونيو/حزيران عام 2022، مقابل 21 مليار جنيه خلال الفترة نفسها من العام الماضي، أي أن المبيعات تراجعت إلى النصف، وأن النسبة تخطت ذلك كثيراً في الشركات غير المعروفة بالنسبة للمشترين المصريين والأجانب.
محاولات لكسب ود المستثمرين العرب بحثاً عن العملة الصعبة
ذكر خبير في القطاع العقاري المصري أن القاهرة تحاول كسب ود المستثمرين العرب لجذبهم إلى قطاع العقارات، وأن جهودها التسويقية للمشروعات الإنشائية التي تقوم بها فشلت في جذب مستثمرين يخشون من صدور قرارات فجائية كالتي أصدرها الرئيس عبد الفتاح السيسي من قبل بوقف البناء، وتدرك أنه ما دام هناك حظر على البناء في مناطق عديدة، وقصرها على مناطق تستهدف بالأساس من ورائها تحقيق أهداف سياسية للتأكيد على نجاح خطط المشروعات القومية التي تلقى معارضة في الداخل، فإنها لن تحقق عوائدها الاقتصادية المتوقعة.
ويسعى النظام المصري لكسب ود الشركات الصغيرة والمقاولين، مع رغبته الحثيثة في توفير العملة الصعبة من وراء تصدير العقارات، وبيعها بالعملة الصعبة إلى أجانب، وتكرار النموذجين التركي والإماراتي في هذا المجال، وبحسب الخبير ذاته فإنه على قناعة بأن ذلك لن يُحدث أثراً إيجابياً ما دامت هناك أزمات في السوق العقاري الداخلي.
لكن الخبير ذاته ينفي أن تكون نية الحكومة بإحداث انفراجة في القطاع العقاري ممهدة لتصدير العقارات؛ لأن غالبية العقارات المصرية يتم توقيع شرائها بعقود ابتدائية وغير مسجلة، كما أن العشوائية تتحكم في السوق بشكل كبير، مع انعدام التنافسية بين قطاع خاص يتحمل كافة الأعباء المالية المترتبة على زيادة معدلات التضخم، ولا يحظى بأي دعم من جانب الحكومة وجهات حكومية يُقدم لها كافة التسهيلات وتنافس القطاع الخاص الذي لا يجد سبيلاً لتحقيق أرباح سوى بابتعاده عن المناطق التي يتواجد فيها الجيش والشركات العاملة بالبناء.
وعقد رئيس الوزراء المصري، مصطفى مدبولي، الإثنين، اجتماعاً مع عدد من المطورين العقاريين، لمناقشة واستعراض سبل دفع وتطوير صناعة التطوير العقاري، وجذب مزيد من الراغبين في تملك وحدات سكنية في مصر، والتوسع في تصدير العقار المصري؛ بحثاً عن إيجاد منافذ بديلة للعملة الصعبة الشحيحة بالأسواق مع خروج أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة خارج البلاد مطلع العام الجاري.
وبحسب أحد المطورين العقاريين، الذي حضر اجتماع رئيس الحكومة، فإنه تطرق إلى الصعوبات التي تواجه الشركات العاملة في القطاع خلال الفترة الراهنة، وعلى رأسها تقديم الدعم المالي اللازم للشركات التي تعرضت لخسائر فادحة خلال العامين الماضيين مع وقف الإنشاءات، وإعادة تنظيم إجراءات البيع والشراء داخل السوق، بما يساعد على جذب الأجانب أو المصريين في الخارج لشراء العقارات.
وكذلك تقديم تسهيلات على مستوى الحصول على مواد البناء من الشركات الحكومية العاملة في المجالات ذات الارتباط بالمباني.
وعود بوقف نزيف الخسائر
وأضاف المصدر لـ"عربي بوست" أن المطورين تلقوا وعوداً بمساعدة الشركات على مواجهة عثراتها، وضمان عدم استمرار خسائرها، مع السماح لها بالبناء وفقاً لقواعد تضمن عدم البناء العشوائي في المناطق الشعبية وعواصم المدن والمحافظات، وفي الوقت ذاته تسمح بتحقيق هوامش ربح تسهم في توسيع نشاطاتها الاستثمارية.
لكن بحسب المصدر ذاته فإن الشركات التي حضرت الاجتماع أجمعت على ضرورة التراجع عن قرار الحكومة الذي قضى برفع سعر بيع الغاز الطبيعي لمصانع الأسمنت بنسبة 109%، واعتبروا القرار بمثابة حجر عثرة أمام أي جهود لاستعادة الثقة بين العاملين في القطاع العقاري والحكومة، التي تتقدم خطوة وتتراجع أخرى، وتشي بأنها مازالت ساعية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب للهيئات والشركات العاملة تحت إطارها.
ووفقاً لقرار رئيس مجلس الوزراء المنشور بالجريدة الرسمية، الإثنين، ارتفع سعر بيع الغاز الطبيعي لمصانع الأسمنت إلى 12 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وذلك مقارنة بـ5.75 دولار قبل الزيادة.
وكانت الحكومة رفعت أسعار الغاز لمصانع الحديد والصلب والأسمنت والبتروكيماويات والأسمدة، في أكتوبر/تشرين الأول 2021، بواقع 1.25 دولار ليصبح 5.75 دولار للمليون وحدة حرارية، كما رفعته 0.25 دولار للصناعات الأخرى ليصبح 4.75 دولار.
وليس لدى هاني عامر، أحد المقاولين الذين تضرروا من قرارات وقف البناء، قناعة بأن الحكومة المصرية تُعيد قطاع العقارات إلى سابق عهده، وأنه يواجه صعوبات عديدة منذ أن أقرت السماح بالبناء في العقارات التي حصلت على تراخيص للبناء قبل قانون المصالحات في مخالفات المباني، وهناك ما يمكن وصفه بالتعنت الحكومي مع مقاولي القطاع الخاص، نتيجة لصعوبة الإجراءات والاشتراطات والتأخر في إقرارها من جانب المحافظات والأجهزة المحلية، التي تعمل على عرقلة أعمال البناء بأساليب مختلفة.
وأضاف أن الحكومة تحاول تهدئة الشركات التي تضغط عليها لفتح الباب أمام البناء مرة أخرى، وتتبع سياسة تقديم وعود عديدة وتنفيذ جزء منها في شكل قرارات، دون أن ينعكس ذلك تنفيذاً على أرض الواقع، وتفتح المجال أمام الشركات الكبرى التي لديها علاقات قوية مع دوائر صنع القرار، ولديها مصلحة مباشرة في استكمال مشروعاتها، دون النظر إلى الجزء الأكبر من المطورين العقاريين الذين عقدوا عشرات الاجتماعات مع جهات حكومية ونيابية على مدار العامين الماضيين لم تُفضِ إلى شيء.