مجدداً عادت احتجاجات إيران ، بعد أن كانت آخر الانتفاضات الكبرى فى نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019، فيما يعرف بـ"احتجاجات البنزين"، عندما خرج الإيرانيون إلى الشوارع بشكل مفاجئ، بعد ساعات قليلة من إعلان إدارة الرئيس الإيراني السابق، حسن روحاني، رفع أسعار الوقود 3 أضعاف سعره الأساسي دفعة واحدة.
الاحتجاجات الحالية التى تشهدها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي بدأت في يوم 17 سبتمبر/أيلول الحالي، اندلعت بعد إعلان وفاة الشابة الكردية الإيرانية "مهسا أميني" البالغة من العمر 22 عاماً، بعد أن اعتقلتها شرطة الأخلاق، أو ما يطلق عليه داخل إيران "دورية الإرشاد"، أو "شرطة الأمن الأخلاقي"، بسبب ارتدائها الحجاب بشكل سيئ.
لكن، وبعد أن دخلت التظاهرات يومها العاشر، لماذا لا تستجيب السلطة الإيرانية في كل مرة إلى الاحتجاجات وكأنها زوبعة في فنجان!
العناد وعدم تنازل الحكومة لمطالب المتظاهرين
في السنوات الأولى من عمر الجمهورية الإسلامية في إيران، وبعد انتصار الثورة الإسلامية عام 1979، رأت القيادة الإيرانية الجديدة حينها، أن التخلص من المعارضين لها هو أنسب طريقة لتثبيت أقدامها في السلطة، وإلى الآن مازالت القيادة الإيرانية تسير على المسار نفسه.
بعد تولي آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني الحالي، منصبه في عام 1989، بسنوات قليلة، بدأت الاحتجاجات في الظهور شيئاً فشيئاً، ولكن منذ التسعينيات وحتى الآن، كان رد القيادة الإيرانية صارماً على هذه الاحتجاجات، التزم علي خامنئي نمطاً واضحاً فى أدبيات سياسته للرد على الاحتجاجات المختلفة في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
يقول مسؤول إيراني سابق، ينتمي للتيار الإصلاحي، لـ"عربي بوست": "دائماً ما يصف السيد خامنئي المتظاهرين على أي شيء في إيران بأنهم بلطجية وأعداء للثورة الإسلامية والنظام الإسلامي، ودائماً ما يحاول فصلهم عن الشعب الإيراني، منذ التسعينيات وحتى الآن، في كل موجة احتجاجية يطالب خامنئي القوات الأمنية بالقضاء على ما أسماه أعمال الشغب، واعتقال البلطجية الذين يتظاهرون فى الشوارع، مهما كانت أسباب هذا التظاهر، ظلت القيادة الإيرانية مصممة على موقفها".
في عام 1992 ثار أهالي مدينة مشهد، مسقط رأس المرشد الأعلى الإيراني، ضد تعسفات الحكومة ضدهم، والوضع الاقتصادي الصعب، استمرت هذه الاحتجاجات بشكل متفرق حتى عام 1994، حينها ألقى آية الله خامنئي كلمة أمام أعضاء الحكومة، بعد احتجاجات دامت 3 أيام في مدينة قزوين لأسباب احتجاجات مدينة مشهد نفسها، محذراً من أنه لن يسمح بأي تنازل ولو كان بسيطاً للمحتجين.
وقال: "لا تدعوا سلطة الحكومة تنهار، بعض الناس يريدون كسر سلطة الحكومة لكنهم يريدون حقاً كسر سلطة الوطن بأكمله، لا تسمحوا بذلك، القوات الأمنية هي المسؤولة، ويجب التعامل بقوة مع من يتصدى للنظام ويعطله، لا ينبغي لأحد أن يتهاون مع من يخل حتى بالنظام العام".
التنازل للمطالب بداية الانهيار
هذه الكلمات التي ألقاها المرشد الأعلى لإيران، علي خامنئي، تختصر وتوضح تفكيره على مدار 30 عاماً فى الحكم، في التعامل مع الاحتجاجات الإيرانية المتتالية.
في هذا الصدد، يقول المسؤول الإيراني السابق والسياسي الإصلاحي لـ"عربي بوست": "هذا اعتقاد راسخ لدى السيد خامنئي، التنازل لمطالب المحتجين يعني بداية انهيار الجمهورية الإسلامية والنظام الحالي".
يؤكد هذا الكلام، مسؤول في الحكومة الإيرانية الحالية، مقرب من دوائر صنع القرار في الجمهورية الإسلامية، فيقول لـ"عربي بوست"، نظراً لحساسية الموضوع، "تعتقد القيادة الإيرانية أن الاستماع لمطالب المحتجين وتنفيذ حتى ولو جزء صغير منها، هو منحدر خطير من الممكن أن يؤدي في النهاية إلى سقوط الجمهورية الإسلامية، كما حدث لحكم الشاه".
وعلى ضوء هذه الخلفية، يمكن تفسير الرفض المستمر للقيادة الإيرانية لإجراء أية إصلاحات حتى ولو جزئية، من هذا المنظور، بل عمد القادة الإيرانيون في السنوات الأخيرة، لإقصاء التيار الإصلاحي من السلطة.
يقول المسؤول الإيراني السابق والمنتمي للتيار الإصلاحي لـ"عربي بوست": "في الماضي كانت القيادة الإيرانية تلعب لعبة جيدة إلى حد ما، تلجأ في بعض السنوات إلى وصول الإسلاميين إلى الحكم كما كان فى عهد خاتمي، ومن ثم تعود برئيس أصولي، لكن في السنوات الأخيرة، كانت هناك خطة ممنهجة لإقصاء الإسلاميين تماماً، لأنهم شكلوا صداعاً للقيادة في السنوات الماضية، بمطالبتهم بإجراء إصلاحات، وبتمكين إبراهيم رئيسي من منصب الرئاسة، انتهت كل الأحلام الإصلاحية تقريباً في البلاد".
جدير بالذكر أن السياسي الإصلاحي، محمد خاتمي، قد استطاع الفوز بالانتخابات الرئاسية لعام 1997، وحصل على فترة ولاية ثانية استمرت حتى عام 2005، يعتبر عهد محمد خاتمي هو العصر الذهبي للإصلاحيين في إيران، وقد شهد الإيرانيون خلال هذه الفترة انفتاحاً معقولاً فى الحياة العامة والحريات الثقافية والسياسية.
بالعودة إلى أزمة الاحتجاجات الحالية أو احتجاجات الحجاب، يقول محلل سياسي مقيم بالعاصمة طهران، ومقرب من مكتب المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي، لـ"عربي بوست": "من غير المتوقع أن تشهد هذه الاحتجاجات أي تغيير من قبل القيادة الإيرانية، بل سيتم قمعها بشدة، الحجاب الإلزامي شكل من أشكال الجمهورية الإسلامية، ومسألة حساسة للغاية بالنسبة للقيادة الحالية، سيكون من الصعب بل من المستحيل التنازل بشأنه من قبل القيادة الإيرانية".
خطط الحكومة لمواجهة احتجاجات إيران
إلى الآن مازالت الاحتجاجات مستمرة في أغلب المدن الإيرانية، لم يتحدث المرشد الأعلى الإيراني عن هذه الاحتجاجات أو يشير إلى مقتل الشابة "مهسا أميني"، فى خطابه الأخير الذي أعقب الاحتجاجات بحوالي يومين، وهذا أمر نادر. ففي جميع الاحتجاجات الإيرانية السابقة منذ التسعينيات وحتى عام 2019، خرج آية الله علي خامنئي، ليتحدث عن المتظاهرين ويرسل برسائله إلى المؤسسات الأمنية والحكومة للتعامل مع الاحتجاجات.
يقول الصحفي الإيراني "حسين"، المقيم فى مدينة مشهد الإيرانية، والتى تشهد احتجاجات مستمرة حتى الآن، لـ"عربي بوست": "على ما يبدو الحكومة قررت استخدام العنف بشكل تدريجي هذه المرة، فالاحتجاجات بالأساس قامت بسبب مقتل فتاة لا ذنب لها، سوى أنها كانت ترتدي الحجاب بطريقة لا تعجب الشرطة، فمن غير المعقول استخدام العنف المفرط منذ البداية".
إلى الآن لا توجد أرقام دقيقة رسمية عن عدد القتلى خلال هذه المظاهرات، لكن منظمات حقوقية إيرانية تحدثت عن مئات الضحايا، ومئات غيرهم من المعتقلين، لكن مقارنة بالاحتجاجات الأخيرة فى نوفمبر/تشرين الثاني عام 2019 مازالت أعداد الضحايا والقتلى قليلة إلى حد ما.
يقول ناشط سياسي إيراني مقيم فى طهران، لـ"عربي بوست"، مفضلاً عدم الكشف عن هويته لأسباب أمنية: "في مظاهرات 2019، كان عدد القتلى يصل إلى ألف قتيل تقريباً، وعدد المعتقلين بالآلاف، وهذا نتيجة الاستخدام السريع للعنف المفرط تجاه المتظاهرين، لكن المظاهرات الحالية، عدد القتلى بحسب المنظمات الحقوقية الإيرانية الموثوق بها، لم يتعدّ 100 قتيل، لكن لا يوجد رقم دقيق عن أعداد المعتقلين، خاصة فى ظل انقطاع خدمة الإنترنت".
في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، قالت وكالة رويترز للأنباء، إن عدد القتلى في الاحتجاجات الإيرانية وصل إلى 1500 قتيل، وهذا ما رفضته الحكومة الإيرانية، التي رفضت أيضاً الإفصاح عن أعداد القتلى، لأشهر طويلة، وفي النهاية أفرجت عن الأعداد الرسمية والتى يبلغ عددها 300 قتيل، بحسب المسؤولين الحكوميين.
أشار مسؤول إيراني أمني سابق، إلى قضية وفاة الشابة "مهسا أميني"، وكيف ستتعامل الجمهورية الإسلامية مع الاحتجاجات الحالية، قائلاً لـ"عربي بوست": "من الممكن القول بأن القيادة الإيرانية لا تهتم بمقتل مهسا أميني، لكنها ترى أن الاحتجاجات التي أعقبت وفاة الشابة، تمثل تهديداً من نواحٍ عديدة، على سبيل المثال، احتمالية تجرؤ الإيرانيات على خلع الحجاب، أو الاحتجاجات الكبيرة في المدن الحدودية، خاصة الكردية، مسقط رأس الفتاة القتيلة".
ويضيف المصدر ذاته قائلاً: "هذه أمور ستكون في الخطط القادمة للقيادة الإيرانية، وهي التي يجب أن يتم التعامل معها بحزم من وجه نظر القيادة، لكن استمرار الاحتجاجات مسألة محسومة، سيتم القضاء عليها قريباً".
هل احتجاجات الحجاب ستحدث أي تغيير؟
تميزت احتجاجات الحجاب الحالية في إيران بالكثير من الأمور، على سبيل المثال تحظى بدعم كبير إلى حد ما من قبل أغلب فئات المجتمع الإيراني، كانت وفاة مهسا أميني، عاملاً مهماً في عدم المواجهة العنيفة التي شهدتها الاحتجاجات السابقة، بين المحتجين والقوات الأمنية، على الأقل حتى اللحظة الحالية.
أظهر المحتجون في الشوارع الإيرانية حتى الآن شجاعة وصبراً فى الاستمرار في احتجاجهم، لم تشهده الاحتجاجات في السنوات الماضية، وفي بعض المحافظات انتشرت مقاطع مصورة تأكد من صحتها بشكل مستقل فريق "عربي بوست"، تظهر هروب بعض العناصر الأمنية من أمام المتظاهرين الذين صمموا على الاشتباك مع القوات الأمنية وعدم التراجع.
يقول الصحفي الإيراني المقيم في طهران، لـ"عربي بوست": "درجة الغضب والغليان التي شاهدتها بنفسي في المتظاهرين الحاليين فى الشارع غير مسبوقة وغير عادية، وهذه هي السمة المميزة لهذه الاحتجاجات".
على الرغم من أن حادثة وفاة الشابة "مهسا أميني"، يمكن وصفها بالحادثة التي ستبقى في أذهان الإيرانيين لفترة طويلة، وأن اليوم الذي سبق وفاة مهسا في إيران ليس كاليوم الذي تلاه، وأنه كان من الصعب تصور أن نرى النساء الإيرانيات يسيرون فى الشارع وسط الاحتجاجات دون حجابهن، وعلى الرغم من أنه يمكننا القول إن يوم وفاة مهسا أميني هو يوم مهم للغاية فى الأحداث الإيرانية التي تلت سنوات الثورة الإسلامية الأولى.
كما أن شعارات المحتجين في هذه الاحتجاجات، والتي كان أبرزها "المرأة، الحياة، الحرية"، من أهم الشعارات التي تم استخدامها في الانتفاضات الإيرانية الأخيرة، بل من الممكن وصفه بأنه أعمقها، لكن لا يمكن القول بأن الاحتجاجات الحالية أو احتجاجات الحجاب في إيران من الممكن أن تحدث أي تغيير على المدى القريب.
يقول المسؤول الإيراني السابق، والسياسي الإصلاحي البارز، لـ"عربي بوست": "هذه الاحتجاجات على الرغم من حصولها على دعم شعبي كبير، حتى من أوساط المتدينين، والفنانين والمثقفين، وعلى الرغم من كل الحديث عن شجاعة المتظاهرين الموجودين الآن في الشوارع، إلا أنها مازالت انتفاضة عفوية غير منظمة، وبلا قيادة، ومن الصعب أن تنتج في إحداث أي تغيير".
سمة عدم التنظيم وغياب القيادة كانت السمة الأساسية للاحتجاجات الإيرانية في الأعوام 2017 و2018 و2019، وكانت أيضاً من أهم أسباب انحسار الاحتجاجات بسرعة، وعدم قدرتها على الاستمرارية من أجل الضغط للحصول على إصلاحات من جانب القيادة الإيرانية.
من المتوقع أن تنجح الحكومة الإيرانية فى إخماد شرارة الاحتجاجات الحالية، لكن ما لا يمكن إنكاره، أنها تسببت في قلق لدى القادة الإيرانيين، يقول مصدر مقرب من المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، لـ"عربي بوست": "تقلُّص السنوات التي شهدت احتجاجات في إيران، من عشرة أعوام إلى سبعة إلى عامين، لابد أن يثير القلق لدى القيادة الإيرانية، أعداء الجمهورية الإسلامية يبذلون الغالي والنفيس من أجل استغلال أي حدث صغير داخل البلاد، كثرة الاحتجاجات تزعزع استقرار العمل الحكومي، وتجنب هذا الأمر هو ما يشغل فكر القادة الإيرانيين الآن".