يقتصر الحديث عن مشروعات الطرق والكباري في مصر من منطلق الإنجاز والقدرة على الانتهاء من إنشائها بعيداً عن الدخول في تفاصيل معدلات الجودة والأمان ومدى قدرتها الحفاظ على كفاءتها لأطول فترة ممكنة.
وفي غياب كامل للدراسات البحثية التي توضح ما إذا كانت تلك المشروعات قد جرى تأسيسها على أسس سليمة من عدمه.
وقد تكون آلاف الكيلومترات من الطرق الجديدة التي تم شقها أو تطويرها خلال السنوات الماضية حققت طفرة واضحة في تسهيل الانتقال بين المدن والمحافظات المختلفة.
إلا أن ارتفاع معدلات حوادث السير يتطلب النظر إلى الأسباب التي تجعل هذه الطرق أحد العوامل المهمة في إزهاق آلاف الأرواح سنوياً، هذه الخسائر التي لا تجد الحكومة حتى الآن حلولاً لها.
يشير إحصاء أخير للمركز القومي للتعبئة والإحصاء (حكومي) إلى أن عدد الوفيات بحوادث الطرق شهدت زيادة خلال العام الماضي، بسبعة آلاف قتيل.
84 مليار دولار لم تقلل من حوادث الطرق
وتشير الأرقام الأخيرة للحكومة المصرية إلى أن الطرق والجسور الجديدة التي انتهت من إنشائها بلغت 5500 كيلومتر من إجمال 7000 كيلومتر من المقرر الانتهاء منها في العام 2024.
أيضاً، يقول المصدر إنه تم إنجاز 13 جسراً ومحوراً، و900 كوبري ونفق، وتطوير 1000 كيلومتر من الطرق، بتكلفة بلغت 84 مليار دولار ضمنها ما جرى توجيهه لقطاع السكك الحديدية.
ضخامة الأرقام يبقى وراءها كواليس لا تظهر للعلن، وتساهم في زيادة حوادث الطرق التي تعادل خسائرها البشرية ما تتعرض له بعض الدول التي تواجه حروباً وصراعات مسلحة.
هذه الكواليس يكشف عنها العاملون بشركات المقاولات التي تتعاقد معها الهيئة الهندسية التابعة للجيش المصري من أجل تنفيذ تلك المشروعات.
(م.ف)، اسم مختصر لمقاول عمل في مشروع إنشاء طريق الجلالة الذي يبلغ طوله 82 كيلومتراً، وأشرفت على إنشائه الشركة الوطنية لإنشاء وتنمية الطرق وتم افتتاحه في العام 2018.
يقول المتحدث إن الطريق كان من المقرر تسليمه في العام 2020 لكن الرغبة السياسية نحو سرعة الانتهاء منه اختصر مدة التنفيذ إلى النصف، وهو ما جاء على حساب جودة الإنجاز.
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن الطريق الذي جرى شقه وسط الجبال من المفترض أن يتمتع بمعدلات أمان مرتفعة تضمن التقليل من معدلات الحوادث عليها.
ومن بين الأشياء الآمنة يقول المصرح: "استخدام مواد تمتص الاصطدام القوي للسيارات على جانبي الطريق، وتغذية التربة المقام عليها الطريق بشكل يضمن استدامة رصفه لفترات طويلة، وعدم تعرضه للتشققات التي تضاعف معدلات الحوادث عليه".
أزمات مالية
ويؤكد أن شركات المقاولات التي تعمل في إنشاء الطرق والكباري تواجه مشكلات مالية جراء تأخر صرف مستحقاتها لدى الهيئة الهندسية.
الأمر حسب المتحدث الذي يدفع البعض للجوء إلى استخدام مواد تساهم في توفير الإنفاق، وفي النهاية نكون أمام طريق جاهز شكلياً للسير، لكنه قد يتعرض للتهالك بعد أعوام أو أشهر قليلة.
وشهد طريق الجلالة حادثتين في الاتجاه القادم من القاهرة في غضون ساعات قليلة مؤخراً، نتج عنهما 3 قتلى وما يقارب 80 جريح آخرين.
وقد يكون طريق الجلالة الذي يستهدف تعمير مدينة الجلالة الجديدة شرق القاهرة، ويربط بينها وبين مدينة الغردقة على ساحل البحر الأحمر، وتم إنشاؤه مخترقاً الصخور والجبال العملاقة، أفضل حالاً من الطرق التي جرى تطويرها ومدها في محافظات الصعيد، والتي لا تلقى نفس القدر من الاهتمام كونها بعيدة عن العاصمة القاهرة والنواحي القريبة منها.
الصعيد يعاني أزمات مضاعفة
محمود أحمد، ثلاثيني ينتقل بين محافظتي سوهاج والقاهرة أسبوعياً بسيارته الخاصة، قال إن الطريق الصحراوي الغربي الرابط بين الجيزة وأسوان، الذي لم يكتمل تطويره بعد وجرى فتحه للعمل بشكل كامل، لديه عيوب قاتلة.
وقال المتحدث إن هذه الطريق تُساهم في زيادة معدلات حوادث السير، والأمر يتضح بصورة أكبر في الجزء الواصل بين محافظتي سوهاج وأسيوط بينما يمتاز الطريق بتوافر الخدمات واتساع عرضه كلما اقتربنا من القاهرة.
ويؤكد المتحدث لـ"عربي بوست" أن هذا الطريق المزدوج لا يتوفر على الإضاءة، الأمر الذي يتسبب في حوادث اصطدام في منحنيات ملتوية يصعب فيها رؤية السيارات المقابلة.
وقال المتحدث: "في إحدى المرات تصادف مروري بوقوع حادث راح ضحيته شخصين على الأقل في الوصلة التي يصفها أهالي المحافظتين بالقاتلة".
والأكثر من ذلك -بحسب ما يؤكده محمود- يتمثل في قيام الهيئة الوطنية للطرق والكباري بتحديد تلفيات الطريق وتحميلها للسيارات التي تسببت في الحادث وبلغت في ذلك الحادث 5 آلاف جنيه.
في حين أن من يتحمل الخطأ هنا، حسب المتحدث، هي الهيئة التي تركت الطريق دون أي أعمدة للإنارة ودون أن توضح الإرشادات المطلوبة للمنحنيات العديدة في تلك المنطقة.
وكان الطريق الصحراوي الغربي قد شهد بالقرب من محافظة سوهاج حادثة مفجعة الشهر الماضي، قضت على أرواح 17 شخصاً إثر تصادم سيارة "ميكروباص" تحمل 14 شخصاً بحافلة "نصف نقل".
حوادث تترك أصداء خارجية
الشهر الماضي كان شاهداً أيضاً على عدد من الحوادث التي وصلت أصداؤها خارجياً بينها حادث تصادم حافلة كانت تقل 50 راكباً وشاحنة في محافظة المنيا، ما أدى لمصرع 25 شخصاً وإصابة 35 آخرين.
أما الحادث الأكثر شهرة على المستوى المحلي فجاء بعد ساعات قليلة من التعديل الأخير على حكومة مصطفى مدبولي منتصف الشهر الماضي.
وتعرض وزير التنمية المحلية الجديد، هشام آمنة، لحادث تصادم سيارته بحافلة على طريق العلمين ووادي النطرون، ما أدى لإصابة 7 أشخاص، بينهم الوزير وخمسة من طاقمه، وسائق السيارة الثانية.
وتوضح بيانات الجهاز المركزي للإحصاء أن مُعدل قسوة الحادث ارتفع إلى 13.8% في 2021، مقابل 10.9% في 2020، إلى 8.4% في عام 2019 مقابل 7.4% في عام 2018.
وخلال أسبوعين فقط من الشهر الماضي بلغ عدد الوفيات والمصابين في حوادث الطرق في محافظات مختلفة في مصر حوالي 211 شخصاً.
العنصر البشري.. المتهم الأول دائماً
يقول استشاري تصميم طرق شهير -رفض ذكر اسمه- إن "حوادث الطرق دائماً ما يتسبب فيها ثلاثة عناصر هي: العامل البشري ذو الارتباط المباشر بسلوك السائقين".
أما العامل الثاني، حسب المتحدث، فمتعلق "بالبيئة المحيطة وبجودة الطريق، لكن دائماً سيُتهم العامل البشري ويتم تحميله مسؤولية الحوادث، في حين أن تصميم الطرق وفقاً للمواصفات العالمية المتطورة كفيل بالتقليل من معدلاتها".
ويضيف المتحدث أن الطرق المتطورة تُستخدم فيها "الخرسانة النيوجيرسي"، وهي قوالب بلاستيكية لفصل الطرق، ويجري وضعها على جنبات الطريق لامتصاص صدمات السيارات التي قد ترتطم بها.
أما الخرسانة التقليدية التي يتم استعمالها في طرق مصر فتُساهم في زيادة معدلات الحوادث، كذلك الوضع بالنسبة لأعمدة الإنارة التي يجري تثبيتها بقوة في الأرض بالنسبة للطرق المصرية الجديدة والتي تؤدي لانشطار السيارة لنصفين في حال الارتطام بها.
وأشار المصدر إلى أن الرصف الرديء لغالبية الطرق الجديدة نتيجة الرغبة في توفير الأموال يُسهم في زيادة معدلات الحوادث؛ لأنه يترتب عليها وجود حفر صغيرة في أماكن متفرقة بالطريق، وفي الأغلب يحاول السائقون تفاديها؛ ما يتسبب في تصادمها بسيارات أخرى.
أيضاً، حسب المتحدث، هناك غش في مكونات الرصف تقود في أحيان عديدة لعدم قدرة السائقين في التحكم بالسيارة أثناء اتخاذ قرار التهدئة، وتتعرض السيارة لما يشبه التزحلق وتكون النتيجة بطء فرملتها.
تصميمات لا تراعي البيئة المحيطة
ويلفت الاستشاري ذاته إلى أن الأزمة الأكبر تتمثل في أن تصميمات الطرق المصرية لا تراعي البيئة المحيطة، لأن كثيراً من المنحنيات لا تقابلها إشارات لتنبيه السائقين وتحضيرهم ذهنياً بوجود مناطق خطر.
وحسب المتحدث، فإن هذه الطرق لم توفر أماكن لعبور المشاة، بالإضافة إلى غياب الرقابة المرورية التي تضمن عدم تجاوز السرعة، والتي تكون خسائرها فادحة بالنسبة للطرق والجسور الجديدة داخل المدن.
وتقدم عدد من النواب بطلبات إحاطة لمناقشة أسباب المشاكل في الطرق الجديدة، بينهم النائب ضياء الدين داوود والذي طلب إحاطة بشأن تكرار الحوادث في المحور الرابط بين بورسعيد والقاهرة، والذي افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي، وكلف 8 مليارات جنيه مصري.
ومؤخراً طالبت النيابة العامة المختصة في مصر الجهات الحكومية بالانتقال لمعاينة الطريق الأوسطي وبيان حقيقة سبب تكرار وقوع الحوادث المرورية به، وإصلاح ما فيه من عيب إن وُجد؛ حفاظاً على سلامة الأرواح والممتلكات، وسط شكاوى عديدة من وجود عيوب ومنحنيات التي تحتاج للصيانة الدورية.
وأشارت النيابة العامة إلى أن "تكرار وقوع الحوادث المرورية بمحل الواقعة، تسبب في تلقيها إخطارات بها نتيجةَ حجبِ زاوية الرؤية في المنحنى الذي وقع عنده الحادث".
الفساد.. من أسباب تكرار حوادث الطرق
ويؤكد أحد أعضاء مجلس نقابة المهندسين المصرية، شريطة عدم ذكر اسمه، أن إنشاء الطرق الجديدة في مصر دائماً ما يرتبط بالفساد، والعهود السابقة شهدت الفساد في مشروعات لم تنفذ أو جرى تنفيذها بمبالغ مضاعفة عن التي جرى إقرارها حالياً.
وأضاف المتحدث أن الفساد مستمر حتى الآن، ويتجلى في غياب إجراءات السلامة والأمان، وعدم السماح للجهات البحثية والعلمية وضع الاشتراطات السليمة التي تضمن استمرار كفاءة الطرق لسنوات طويلة، لضمان ملاءمتها للبيئة المحيطة بها.
ويضيف المتحدث أن هناك فساداً من نوع آخر يرتبط بالقائمين على عملية تنظيم المرور التابعون لوزارة الداخلية، وهو ما يرسخ قناعة لدى السائقين أنهم يفلتون من العقاب إذا تجاوز السرعة المحددة على الطرق الجديدة.
واعتبر المتحدث أن الحل يكمن في أن تكون إدارة المرور منفصلة عن الداخلية، وأن تكون تابعة لشركات خاصة يجري فيها تعيين خريجي كليات الحقوق من العاطلين مثلما الحال بالنسبة لكثير من البلدان الأوروبية.
وطالب المتحدث بمنح هؤلاء الضبطية القضائية التي تمكنهم من سحب رخصة القيادة وغيرها من الإجراءات العقابية، مع فرض حالة من الانضباط لا تتوفر في الحالة الحالية التي يتم فيها الاعتماد على مجموعة من العساكر وأمناء الشرطة.
ويشير المصدر إلى أن الفساد وعدم الرغبة في مناقشة الأسباب الحقيقية لحوادث الطرق يقوض الوصول إلى إقرار إجراءات موحدة معتمدة من كافة الجهات للتعامل مع حوادث الطرق؛ لأن الأجهزة الرسمية تتعامل مع انحراف السيارة أو سقوطها في المياه كحالات غرق ولا يتضمن التقرير الطبي الحديث عن كونه حادثاً مرورياً، في ظل انعدام القواعد التي تنظم التعامل مع هذا النوع من الحوادث.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”