تسبَّبت تصريحات نقلتها وكالة الأنباء الأردنية الرسمية "بترا" عن وزير النقل وجيه عويس، في جدل واسع، بعدما أعلن، الأربعاء 31 أغسطس/آب 2022، عن توقف الرحلات الجوية الدولية من مطار تمناع (رامون) الإسرائيلي؛ بسبب اعتراض المملكة عليه، وذلك بعد أقل من شهر من انطلاق أول رحلة للفلسطينيين من المطار، وكانت وجهتها قبرص.
الجدل جاء نتيجة عدم وجود دلائل وتفاصيل تؤكد هذا الأمر من جهة، كما أن الجانب الإسرائيلي لم يشِر إلى توقف طيران الفلسطينيين عبر المطار، من جهة أخرى.
"عربي بوست" حاول تتبع هذه التصريحات، في محاولة لكشف حقيقتها، وطبيعة السياق الذي ذُكرت فيه.
المطار لم يتوقف
مصادر خاصة لـ"عربي بوست" في الدوائر الرسمية الفلسطينية وأخرى مطلعة ضمن عرب الداخل، أكدت عدم صحة ما تداولته كل من وزارة النقل الأردنية والفلسطينية من توقف وتجميد الرحلات الجوية المخصصة الفلسطينية من مطار رامون، مؤكدة استمرارها.
من جانبه، لم ينفِ المتحدث الرسمي باسم وزارة النقل موسى رحال، في حديثه لـ"عربي بوست"، تلك الرواية، مكتفياً بالقول: "المطار غير حاصل على شروط الترخيص من قِبَل المنظمة الدولية للطيران، ومحاولة سلطات الاحتلال تشغيل المطار جاءت عبر الالتفاف على ذلك"، مشدداً على أنّ هناك اعتراضاً على تشغيله، وتمّ تسفير عدد محدود من المطار بشكل مخالف.
تخفيف الغضب الأردني
أما عن السياق الذي جاءت فيه تصريحات وزير النقل الأردني، فقد جاءت على خلفية لقائه بوزير النقل الفلسطيني عاصم سالم في الأردن، بحضور وزير الداخلية الأردني مازن الفراية، حيث تمّ بحث التفاصيل المتعلقة بسفر الفلسطينيين واستعراضها ومناقشتها بكافة خطواتها للقادمين والمغادرين.
يأتي هذا ضمن تحركات واتصالات فلسطينية – أردنية مكثفة لأجل التباحث في شأن السماح للمواطنين الفلسطينيين من سكان الضفة الغربية بالسفر عبر مطار رامون، وذلك في محاولات ومساعٍ لقطع الطريق على الجانب الإسرائيلي من تشغيل المطار أمام المسافرين الفلسطينيين.
وأوضح المتحدث باسم وزارة النقل والمواصلات موسى رحال، لـ"عربي بوست"، أنّ هذه التحركات جاءت بدافع من الرئيس الفلسطيني محمود عباس ورئيس الوزراء محمد اشتية، للبحث عن حلول عملية للرد على الجانب الإسرائيلي في توجهاته الأخيرة.
وزير النقل والمواصلات الفلسطيني أعلن هو الآخر أنّ المطار الإسرائيلي في جنوب البلاد "لا يعنينا بشيء، وإنما اهتمامنا وتركيزنا على المعابر مع الأردن الشقيق، واتفقنا على التواصل الدائم لإدخال كافة التحسينات التي من شأنها تسهيل حركة المواطنين الفلسطينيين بكل سهولة واحترام"، في إشارة لمحاولة منع الفلسطينيين من استخدام المطار.
وتؤكدّ مصادر أردنية مطلعة لـ"عربي بوست" أنّ الاجتماع الأردني – الفلسطيني جاء برغبة مباشرة من الجانب الفلسطيني، وبإيعاز من الرئيس الفلسطيني، في مساعٍ من السلطة الفلسطينية لتخفيف حالة الغضب والحنق الأردني من الخطوة الإسرائيلية.
بالإضافة إلى تحميل الجانب الأردني المسؤولية للسلطة الفلسطينية في أنّها لم تقدم إجراءات عملية للرد على الخطوة الإسرائيلية، بل إنّ التصريحات والتحركات الفلسطينية لم تكن كافية، بحسب جهات رسمية أردنية، لأجل ممارسة ضغوطات على الجانب الإسرائيلي.
قرارات أردنية – فلسطينية معقدة
تعدّ البيئة المحيطة بالقرار الأردني – الفلسطيني من أكثر البيئات السياسية والجيوسياسية المعقدة في العالم، في ظل رجحان كفة القوة لصالح إسرائيل على كافة المستويات الإقليمية والعالمية، بالإضافة إلى ما حققته من اختراقات دبلوماسية على الساحة العربية.
من هنا، فإن الفعل ورد الفعل الأردني – الفلسطيني ليس مهمة سهلة أبداً. هذا ما يذهب إليه المدير الأسبق لإدارة الأمن الوقائي الأردني، العميد المتقاعد زهدي جانبك.
جانبك أوضح في تصريحه لـ"عربي بوست" أنّه في ظل الحصار الاقتصادي الذي يعاني منه الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وفي قطاع غزة، والمضايقات من قبل إسرائيل بالدرجة الأولى ومن قِبل الدول الداعمة لإسرائيل، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، "يصبح الصمت الفلسطيني تجاه القرارات الإسرائيلية الأحادية الجانب أحياناً مفهوماً ومبرراً؛ حيث التصريح بالقبول بهذه القرارات أو التصريح برفضها يضع السلطة الفلسطينية في حرج كبير أمام الشعب الفلسطيني أولا والمجتمع الدولي ثانياً".
وأضاف أنهم كأردنيين يرحبون بأي خطوة تخفف من معاناة الشعب الفلسطيني وتساعد على إنعاش الاقتصاد الفلسطيني، لكنهم بنفس الوقت يحذرون من طغيان الأولويات الاقتصادية والاجتماعية على الأولوية الأولى في الصراع القائم، ألا وهي التخلص من الاحتلال"، على حد تعبيره.
وشدد على أنّ اتفاقيات السلام الفلسطينية – الإسرائيلية نصت على تسهيل حركة الفلسطينيين كحق من حقوق الإنسان وكحق ثابت للشعب الفلسطيني في حرية الحركة على تراب وطنه التاريخي، ونتيجة لهذه الاتفاقيات تمّ الإقرار بحق الفلسطينيين في إنشاء ميناء ومطار في غزة، وإنشاء مطار قلنديا في الضفة الغربية، لكن إسرائيل ما لبث أن دمرت الميناء والمطار تدميراً تاماً في غزة، وأوقفت العمل بمطار قلنديا وتحويله لمستوطنة لبناء 9000 وحدة سكنية.
ويشير جانبك إلى أنّه منذ تعطيل المطار عام 2001 بعد الانتفاضة الفلسطينية الثانية اكتملت دائرة الحصار الإسرائيلية على الفلسطينيين وتضاعفت معاناتهم وتقييد حركته. في ظل هذه الظروف الصعبة وازدياد المطالبات الفلسطينية والضغوط الدولية على إسرائيل بوجوب العمل على التخفيف من معاناة الفلسطينيين جاءت الخطوة الإسرائيلية الأحادية الجانب بالسماح للفلسطينيين باستخدام مطار رامون.
ويكشف جانبك أنّ "القرار الأخير وضع السلطة الفلسطينية أمام خيارين أحلاهما مر، فقبول القرار الإسرائيلي يعني تنازل فلسطين عن أحد حقوقها السيادية بالحصول على مطار خاص بها، وفي حال رفضها للتسهيلات الإسرائيلية سيتم اتهامها من قِبل واشنطن ودول أخرى بأنّها لا تريد التسهيل والتخفيف على المواطن الفلسطيني، ولذلك شاهدنا تأخر الإعلان عن موقف محدد من كلا الحكومتين الأردنية والفلسطينية".
أدوار منسقة بين الجانبين الأردني والفلسطيني
ردّ السلطات الأردنية والسلطات الفلسطينية جاء منسقاً بعناية فائقة، بحسب العميد جانبك، مشيراً إلى أنّه في اليوم التالي للرحلة الأولى من مطار رامون، التقى رئيس وزراء الأردن ورئيس الوزراء الفلسطيني في افتتاح مشروع الربط الكهربائي الأردني الفلسطيني الذي دشناه في منطقة الرامة في غور الأردن؛ حيث صرح رئيس الوزراء الفلسطيني بأنّه لا رامون ولا غيره يمكن أن يكون بديلاً عن العمق الأردني لفلسطين.
وكشف جانبك أنّه تمّ ترتيب اجتماع ضم وزير النقل الأردني ونظيره الفلسطيني وبحضور وزير الداخلية الأردني مازن الفراية (صاحب الولاية والسلطة المباشرة على جسر الملك حسين)، منوهاً بأنّه تمّ ترتيب الأدوار في هذا الاجتماع بشكل دقيق للغاية.
فوزير النقل الأردني كان دوره الإعلان عن رفض الأردن الدائم والمستمر لمطار رامون جملة وتفصيلاً، مذكراً بأنّ الأردن قدم الشكاوى اللازمة إلى المنظمة الدولية للطيران المدني، وأنّ الاعتراضات الأردنية على المطار فنية بحتة تتعلق بالسلامة الجوية وأمن الطائرات في مطار الملك حسين الدولي في العقبة، وأنّ مطار تمناع يهدد السلامة الجوية للطيران المدني، وأنّ الاعتراضات الأردنية تمكنت من إيقاف الرحلات الجوية الدولية المنتظمة من وإلى مطار رامون.
أما وزير النقل الفلسطيني فكان دوره مختصراً في إعلان واضح وقصير فقال: "إنّ المطار الإسرائيلي الجديد لا يعني الفلسطينيين حكومةً ولا شعباً، وما يعنيهم هو عمقهم الأردني والعربي فقط"، حيث يعقب العميد المتقاعد جانبك على أنّ التصريحات باعتبارها موقفاً مختصراً وواضحاً ولا يترتب عليه أي خصومة مع أي طرف، ولا يترتب عليه إجراءات على الأرض.
ويرى جانبك أنّ الدور الأهم كان لوزير الداخلية الأردني الذي كان مجرد وجوده في الاجتماع عاملاً مهماً في تسليط الضوء على الاهتمام بتطوير إجراءات السفر عبر جسر الملك حسين، وما تمّ الإعلان عنه من وجود خطة منذ العام 2020 برصد 120 مليون دينار لتطوير البنية التحتية للجسور وزيادة المبلغ ليصل إلى 150 مليون دينار.
واعتبر أنّ هذا الإعلان الأردني يعني "إلقاء قفاز التحدي لإسرائيل من خلال رفع مستوى التنافسية على خدمة المسافر الفلسطيني"، إذ إنه عبر اكتمال التجهيزات الأردنية ستصبح الكرة في المرمى الإسرائيلي وسيتحتم عليها التخفيف من إجراءاتها المتعسفة على المسافر الفلسطيني، وبنفس الوقت ستسحب الاهتمام الدولي من المطار الذي لن يخدم إلا بضع مئات فلسطيني إلى الجسر الذي يستخدمه مليون وربع فلسطيني سنوياً للقدوم إلى الأردن والعودة إلى فلسطين.
ويؤكدّ جانبك أنّ هذا الترتيب الأردني الفلسطيني نقل الاهتمام بقصة المطار من بعدها السياسي الذي تقصده إسرائيل إلى بعده الإنساني الخدمي الخاص بالحقوق الفلسطينية، مشدداً على أنّ التركيز لم يعد على القرار الرسمي الإسرائيلي، وإنما على البعد الشعبي الفلسطيني والأردني من خلال توجيه رسالة مبطنة، ولكنّها واضحة بنفس الوقت أنّ الموقف الشعبي الفلسطيني الرافض لاستخدام مطار رامون هو الرد على محاولة استخدام تسهيلات السفر لتسجيل موقف سياسي.
تطوير جسر الملك حسين
كان وزير الداخلية الأردني مازن الفراية أوضح أنّ الحكومة بدأت قبل أيام إجراء تحسينات على عملية السفر من خلال جسر الملك حسين، مثل زيادة الكوادر العاملة على الجسر وتسهيل الإجراءات الإدارية.
وذكر أن المواطن الفلسطيني سيلمس هذه التحسينات خلال الأيام القادمة، كما أصدر تعليماته للمباشرة الفورية بعمل الصيانة السريعة والعاجلة لقاعات الاستقبال والمغادرة والمرافق الصحية، لتكون ملائمة للمواطنين. بالإضافة إلى نقل موقف سيارات الأجرة إلى داخل الجسر عند بوابة الخروج مباشرة، ليختصر المسافة التي يقطعها المواطنون مشياً على الأقدام عند دخول الأردن.
من جانبه، أشار المتحدث الرسمي باسم وزارة النقل الأردنية أنّ وزير النقل أعلن عن طرح عطاء بقيمة 150 مليون دينار أردني لتطوير جسر الملك حسين، موضحاً أن الأردن لن يدخر جهداً في سبيل تسهيل حركة الأفراد والبضائع عبر الضفتين.
وأضاف أنّ الأردن يرفض تشغيل مطار رامون، مما دفعه لتقديم شكوى لمنظمة الطيران الدولية ضد تشغيل المطار، ما أسفر عن وقف الرحلات من خلاله منذ عام 2019.
التحركات ليست كافية
لكنّ البعض يرى أنّ الاعتراض والتحرك من الجانبين الأردني والفلسطيني على المستوى السياسي لم يكن كافياً لثني إسرائيل عن خطوة تشغيل مطار رامون أمام الفلسطينيين.
يبرر مدير الأمن الوقائي الأسبق زهدي جانبك، هذا التأخر في الرد الأردني على تشغيل مطار رامون بأنّ الحرب الداخلية السورية وظهور داعش في العراق أثرت بشكل كبير على الاقتصاد الأردني وعلى خياراته في اختيار طرق تصدير المنتجات الأردنية الى تركيا وأوروبا، معتبراً أنّ هذا الوضع الحساس كان له الأثر الأكبر على الخيارات الأردنية في مواجهة إنشاء مطار تمناع.
فعلى الرغم من توفر بعض الأوراق التفاوضية بيد السلطات الأردنية -على حد قوله- مثل التلويح بإنشاء المطار الزراعي في الأغوار الأردنية و/أو إقامة الجسر البري الرابط ما بين الأردن ومصر دون المرور بإسرائيل (جسر فوق مياه البحر الأحمر)، فإنها فقدت الكثير من قوتها في ظل الوضع الأمني والسياسي الإقليمي في مصر وسوريا والعراق.
ومن هنا، فإنّ أي جهد تبذله السلطات الأردنية في اتجاه منع إقامة مطار رامون قد تبدو ضئيلة جداً وليست بالقوة التي يتمناها المواطن، إلا أنّ جلب المصالح الاقتصادية في ظل ثورات الربيع العربي قد يكون أوْلى من درء مفاسد مطار رامون، على حد تعبيره.