لم تهدأ وتيرة الأوضاع داخل جزيرة الوراق في مصر، التي شهدت قبل أسبوعين اشتباكات بين سكانها الرافضين التهجير، وقوات الأمن التي استخدمت قنابل الغاز، وألقت القبض على العشرات قبل الإفراج عنهم.
وتسعى الحكومة المصرية لتحويل جزيرة الوراق، التي تتوسط مياه النيل وتتبع جغرافيًا محافظة الجيزة ويسكنها قرابة 100 ألف نسمة، إلى منطقة استثمارية تجذب من خلالها رؤوس أموال خليجية تستهدف توظيف موقعها المتميز على نهر النيل.
المواطنون يقولون إن الحكومة لم تمنحهم التعويض المناسب مقابل تركهم لجزيرة، لما سيؤول على المستثمرين من مكاسب مادية ضخمة.
ومنذ أن دفعت قوات الجيش والشرطة بحشود جديدة إلى الجزيرة لإرغام ما تبقى فيها من مواطنين لترك منازلهم، تحولت الوراق إلى ثكنة عسكرية.
"عربي بوست" زارت جزيرة الوراق، وقامت برصد الأوضاع التي يعيشها المواطنون بشكل مباشر، في ظل الأزمة القائمة بينهم وبين الحكومة.
إغلاق المعديات وسيلة حصار للمواطنين
كان من الواضح تأثر حياة المواطنين هناك، إذ يجدون صعوبات في الوصول إلى أشغالهم أو الخروج والدخول من الجزيرة، التي تعتمد على المعديات النهرية للوصول إليها، مع وقف تشغيل الجزء الأكبر منها، وتعطيلها بالكامل خلال ساعات معينة أثناء اليوم.
يشير محمد إبراهيم (اسم مستعار لأحد أهالي المنطقة رفض ذكر اسمه خشية الملاحقات الأمنية) إلى أن رحلته إلى عمله القريب من ميدان الجيزة لا تتجاوز ساعة على الأكثر في حالة الزحام، لكنها أضحت الآن تستغرق أكثر من ساعتين.
وقال المواطن المصري في حديث مع "عربي بوست" إن سبب ذلك هو إغلاق معدية "الجزارين"، أكبر المعديات التي تنقل أعداداً كبيرة من أهالي الوراق، ومعديتا "شبرا" أو "وراق الحضر" لا تعملان بنفس كفاءة الأولى.
ويضيف المتحدث أن الصعوبات لا تتوقف على ذلك، فالأجهزة الأمنية تقيم دوريات تفتيشية في كثير من الأحيان لضمان عدم دخول أشخاص غرباء إلى الجزيرة، تتوقع منهم المشاركة في الاحتجاجات التي يُنظمها الأهالي.
لم يعد إبراهيم قادراً على أن يعيش حياة طبيعية في مسكنه، وينتظر اليوم الذي تستجيب فيه الحكومة لمطالبهم بتوفير مساكن تضاهي قيمة المنازل التي يقيم به حاليًا.
يقول إبراهيم إن المدرسة الحكومية بالجزيرة أرسلت تعليمات إلى أولياء الأمور بعدم انتظام الدراسة فيها مع انطلاق العام الجديد مطلع أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
كما أن المستشفى الوحيد بجزيرة الوراق -حسب المتحدث- تهدّم، وكذلك الوضع بالنسبة لكثير من المحلات التجارية التي أغلقت أبوابها، وهناك صعوبة في توفير الحاجات اليومية.
وسيلة الانتقال الوحيدة في خطر
منى حسني، ربة منزل في الأربعينيات من عمرها، واحدة من سكان الوراق التي تُعاني من صعوبة التنقل داخل الجزيرة؛ لأن "التوك توك" -وسيلة المواصلات الوحيدة- لم يعد متوفراً.
وتلقى سائقو "التوك توك"، حسب المتحدثة، تهديدات من طرف الأجهزة الأمنية بعد الاشتباكات الأخيرة، بسحب الرخص في حالة تم نقل المواطنين من داخل الجزيرة إلى المعديات.
وتقول المتحدثة إنها اعتادت طيلة سنوات على بيع مستحضرات تجميل عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، ومؤخراً توقفت عن العمل لصعوبة الدخول والخروج، في حين أنها بحاجة إلى المال.
المواطنة المصرية التي يعمل زوجها في مهنة الصيد تقول: "أصبحنا محاصرين لإرغامنا على بيع شقتنا بمبلغ لا 5000 دولار، حسب عرض الحكومة، وهو مبلغ لا يكفي لشراء غرفة واحدة في أماكن قريبة من الجزيرة".
وأضافت: "تقدمت هيئة المجتمعات العمرانية إلينا بطلب الانتقال إلى مدينة حدائق أكتوبر، وهي مدينة جديدة ما زالت نائية تابعة لمحافظة الجيزة، لكن ذلك سيكون مستحيلاً لأن عمل زوجي الوحيد في مجال الصيد.
تقول المتحدثة: "زوجي لا يُمكنه التخلي عن عمله في الصيد، والانتقال من المدينة إلى الجزيرة يستغرق ساعة ونصفاً أو أكثر، وإذا أرادت الحكومة تمرير رؤيتها فعليها تعويض زوجي عن عمله".
وتؤكد الحسيني أنها وزوجها كلما تلقيا تهديدات بالتهجير الإجباري من منزلهما لا يجدان طريقة مناسبة للتعبير عن رفضهما سوى بالاحتماء بباقي أبناء المنطقة، والاحتجاج على أي محاولة لهدم المنازل قبل تسوية الأوضاع.
وتضيف: "حتى وإن اشتد الحصار علينا فإنه ليس لدينا بديل آخر عن البقاء في أماكننا أو الانتقال إلى أماكن قريبة تسهل عملية انتقال زوجي إلى عمله".
شح الأغذية والأدوية
يمتهن غالبية أبناء الوراق الصيد والزراعة، اعتماداً على البيئة الزراعية وموقعها الجغرافي وسط النيل، لكن خطة الحكومة تستهدف تحويلها من منطقة قروية زراعية إلى نموذج استثماري.
هذه العملية ستتسبب في بوار 500 فدان من أجود الأراضي الزراعية، جراء إرغام مواطنيها على بيعها وتحويلها إلى أراضي مبانٍ إنشائية واستثمارية.
وشكا غالبية المواطنين الذين تواصل معهم "عربي بوست" من الحصار المفروض عليهم، والذي انعكس مباشرة على شح الأغذية والأدوية، وحظر دخول مواد البناء خشية استخدامها في بناء مساكن جديدة.
وتزايدت ساعات انقطاع المياه والكهرباء عن المنازل المأهولة بالسكان في الجزيرة خلال الأسبوعين الماضيين، بحسب ما يوضحه أيمن عادل، الذي يمتلك أحد المحلات التجارية بالجزيرة.
وأشار المتحدث إلى أن الأهالي لجأوا إلى تخزين كميات كبيرة من المياه، ويقضون أوقات انقطاع الكهرباء في الشوارع والحواري الصغيرة، والجميع يدرك أنها محاولة لدفعهم لترك منازلهم.
أما كبار السن ممن يقبعون في الجزيرة منذ عقود طويلة، فلم يعودوا يحتملون البقاء أكثر من ذلك، لأن مكتب البريد الوحيد تعرض للهدم منذ عدة أشهر.
وكان المكتب هو الوسيلة الوحيدة للحصول على المعاشات الشهرية، أما اليوم فأصبحت عملية التنقل خارج الوراق متعبة؛ بسبب غياب وسائل النقل التي كانت موجودة في السابق.
6 آلاف منزل بانتظار التهجير
لم تعلن الحكومة المصرية عن إحصاء رسمي بأعداد المواطنين الذين ما زالوا يقبعون في الجزيرة، بعد أن قامت بهدم عشرات البنايات خلال السنوات الماضية.
واكتفى وزير الإسكان، عاصم الجزار، في منتصف الشهر الجاري بالتأكيد على وجود 6 آلاف منزل بالجزيرة، في حين أن التقديرات السابقة -بحسب سكان الجزيرة- تشير إلى أن عدد مواطنيها لا يزيد على 100 ألف شخص.
ويؤكد أحد أعضاء "مجلس عائلات الوراق"، الكيان الممثل لأهالي الجزيرة للتفاوض مع الحكومة، أن الحكومة نجحت في تفريغ التكتلات الزراعية والأماكن التي تحيط بالجزيرة.
وحسب المتحدث فإن الحكومة تمكنت من إحداث تغيير ديموغرافي، وهناك عائلات كبيرة ممن تمتلك الأراضي قامت ببيعها خلال العامين الماضيين، وبالتالي فإن مهمتها أصبحت أكثر سهولة الآن، لكنها تصطدم برفض السكان مغادرة منازلهم بسبب ضعف التعويضات.
مفاوضات جديدة
وترفض الحكومة زيادة سعر شراء متر المباني، وما زالت تصر على 1400 جنيه للمتر الواحد، بحسب ما يؤكد المصدر ذاته، مشيراً إلى أن الأسابيع القادمة ستكون شاهدة على انطلاق مفاوضات جديدة.
إلا أنه في الوقت نفسه قلل مصدر "عربي بوست" من إمكانية نجاح المفاوضات؛ لأنها ستكون بحاجة إلى تعويض مَن قامت بالشراء منهم في السابق بنفس الأموال وقد تواجه احتجاجات جديدة.
أهالي الوراق -حسب المصدر نفسه- يعولون على إنصاف القضاء لهم بعد أن رفعوا دعاوى قضائية ضد قرار تهجيرهم بحجة المنفعة العامة.
وفي الوقت ذاته، فإن سكان الوراق ينتظرون بناء مساكن لهم في المناطق الشاسعة بالجزيرة، كمساكن بديلة دون إبعادهم مسافات طويلة عن الجزيرة، من الممكن أن تشكل أحد الحلول المهمة.
وتشكل الصور التي نشرتها الحكومة المصرية ماكيت الجزيرة بعد تطويرها وتغيير مسماها إلى "مدينة حورس" إحدى العوامل التي تجعل المواطنين يسعون للبقاء في أماكنهم.
ويُدرك سكان الوراق أن المنطقة ستختلف وجهتها وهم بحاجة لضمان استفادتهم من هذا التطوير، بدلاً من أن يكون هدفها إقناع الرأي العام بتطوير الجزيرة، فإنها من المتوقع أن تواجه معارضة أكبر من جانب المواطنين.
ويهدف المشروع إلى تحويل الجزيرة إلى مركز تجاري تبلغ مساحته 1516 كلم مربع، بتكلفة إجمالية للمشروع تبلغ 17.5 مليار جنيه، ويشتمل مخطط تطوير الوراق على مناطق استثمارية وتجارية، ومنطقة إسكان متميز واستثماري، إلى جانب حديقة مركزية ومنطقة خضراء وثقافية وواجهة نهرية سياحية، وكورنيش سياحي.
الحكومة مُصرة على مخططها
مصدر بوزارة الإسكان المصرية -تحفّظ على ذكر اسمه- قال إن الحكومة مُصرة على استكمال مخططها نحو استلام باقي أراضي الجزيرة التي تشكل أقل من 30% من إجمالي مساحتها.
وأضاف المصدر في حديثه لـ"عربي بوست" أن الأيام المقبلة ستكون شاهدة على حوارات مع أصحاب المنازل، وقد تمتد المفاوضات لشهور مقبلة لكن في النهاية فإن خطة التطوير سيتم تنفيذها.
وكشف المتحدث أن الحكومة ستنتقل إلى جزر أخرى قريبة من العاصمة القاهرة والمحافظات الأخرى وتحويلها إلى بقاع سياحية، كما حدث مع جزيرة الوراق.
وأضاف مصدر "عربي بوست" أن التوجه العام يقضي بمراجعة المواجهات الأمنية لصالح التهدئة، وسيتم إقرار مزيد من التسهيلات التي تضمن استلام المواطنين المقابل المادي للبيع من جهة واحدة.
أيضاً يقول المتحدث إن هناك انفتاحاً على رؤى المواطنين الذين يرفضون ترك منازلهم بالصيغة التي تضمن تحقيق أهداف الدولة الاستثمارية، وكذلك مصالحهم لضمان وجودهم في مساكن آمنة.
من جهته كشف وزير الإسكان، عاصم الجزار، في مؤتمر صحافي سابق أن"حجم التعويضات التي دُفعت حتى الآن بلغ 6 مليارات جنيه، منها 5 مليارات لتعويضات الأراضي فقط".
أيضاً قال المتحدث إن "تكلفة السكن البديل بلغت ملياري جنيه، من أجل تنفيذ 4 آلاف وحدة سكنية في المنطقة العاجلة بالجزيرة لتعويض السكان عن منازلهم".
وأوضح المتحدث أن "الساكن في وحدة سكنية أمامه فرصة الحصول على وحدة بديلة في المدن الجديدة أو وحدة بديلة يتم بناؤها بالجزيرة".
إدانات حزبية
كانت أحزاب وتيارات مصرية معارضة، بينها حزب الدستور والمصري الديمقراطي الاجتماعي وكذلك الحركة المدنية الديمقراطية، أدانت الاقتحام الذي قامت به قوات الأمن لجزيرة الوراق.
واستنكرت الأحزاب إلقاء القبض العشوائي على عدد من المواطنين، واستخدام القنابل المسيلة للدموع لتفريق السكان الذين تجمعوا رافضين المحاولات المستمرة لهدم منازلهم بالقوة.
وتحاول الحكومة المصرية منذ عام 2017 نزع ملكية أراضي الوراق بدعوى أنها أملاك للدولة، بعد أن استبعدتها من قرار تصنيفها كمحمية طبيعية وتحويلها إلى منطقة استثمارية.
ووافق البرلمان المصري على قانون نزع الملكية للمنفعة العامة في بداية عام 2018، وهو القانون الذي منع الطعن على قرارات نزع الملكية للمصلحة العامة ومقدار التعويض، على خلاف ما كان معمولاً به.
وبعد عدة أشهر وافق مجلس إدارة المجتمعات العمرانية على مذكرة بشأن إنشاء مجتمع عمراني جديد على أراضي جزيرة الوراق تحت مسمى جهاز تنمية جزيرة الوراق الجديدة.
وأمام تلك التحركات اندلعت اشتباكات طاحنة بين أبناء الجزيرة التي صدوا محاولات تهجيرهم قسراً، واشتبكوا مع قوات الأمن التي قامت بالقبض على العشرات منهم وحصل منهم 35 شخصاً على أحكام بالسجن لمدة تتراوح بين خمس أعوام و25 عاماً.
محاكمات لا تتوقف
وقررت الدائرة 3 إرهاب بمحكمة الجنايات، السبت الماضي، تأجيل إعادة محاكمة 19 متهماً بالتعدي على حملة إزالة التعدي على أملاك الدولة في جزيرة الوراق.
وكانت النيابة العامة قد وجهت للمتهمين، في يوليو 2017، اتهامات بأنهم اشتركوا مع مجهولين في تجمهر مكون من أكثر من خمسة أشخاص، من شأنه أن يجعل السلم العام في خطر.
واعتبرت النيابة العامة أن المتهمين سعوا للتأثير على السلطات العامة بالقوة والعنف، وحملوا السلاح الأبيض والحجارة، واستعملوا القوة والعنف مع موظفين عموميين، وتعدوا على عدد من رجال الشرطة.
وشهدت الجزيرة احتجاجات جديدة الجمعة الماضية، للمطالبة بفتح باقي المعديات المغلقة ورفع الحصار واللجان الأمنية الدائمة عن المعديات التي تربط الجزيرة بمحافظتي القاهرة والقليوبية، والمطالبة بالإفراج عن الأهالي المعتقلين على خلفية رفضهم إخلاء منازلهم.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”