تساؤلات عديدة أثارتها الحرائق التي اندلعت في كنيستين تابعتين للطائفة الأرثوذكسية وثار حديث عن تقنين الكنائس المصرية من جديد وخاصة للأرثوذكس، الأكبر عدداً في مصر، وحول جدوى قانون بناء وترميم الكنائس الذي أقرته الحكومة المصرية قبل ست سنوات تقريباً، ومن خلاله تم تقنين أوضاع أكثر من 2000 كنيسة ومبنى تابعة لها خلال السنوات الست الماضية، ليتم اعتمادها ككنيسة بشكل رسمي، بعدما تم بناؤها في عمارات سكنية أو مبانٍ خاصة، لكن القانون فيما يبدو أنه خرج عن مساره، ليسبب أزمات متلاحقة.
تشير الحوادث المتكررة إلى أن بنود القانون الخاصة باشتراطات السلامة لم تنفذ بشكل يضمن سلامة دور العبادة المسيحية، ويضمن عدم تحولها إلى بؤر قابلة للانفجار في أي لحظة، فالسبب الرئيسي المعلن للحوادث هو "ماس كهربائي"، حيث سجلت الكنائس 5 حالات حرائق خلال العام الحالي فقط، بمحافظتي أسوان والأقصر جنوب مصر، وفي محافظة الإسكندرية الساحلية وفي منطقة عين شمس بالقاهرة.
وبحسب إسحاق إبراهيم، وهو باحث في المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، فقد سجلت الكنائس المصرية عدداً كبيراً من الحرائق بلغ 50 حريقاً خلال السنوات الماضية، بسبب تماس كهربائي.
تقنين الكنائس المصرية
وشب حريق هائل، ظهر الثلاثاء الماضي، في كنيسة الأنبا بيشوي بمدينة المنيا الجديدة (جنوب)، ولم يسفر عن خسائر في الأرواح، وسبقه بيومين حريق آخر اشتعل في كنيسة "أبو سيفين" بمنطقة إمبابة بمحافظة الجيزة المجاورة للعاصمة المصرية القاهرة، وأسفر عن مقتل 41 شخصاً وإصابة آخرين بعد نشوب حريق بتكييف بالدور الثاني بمبنى الكنيسة، والذي يضم عدداً من قاعات الدروس نتيجة خلل كهربائي، وأدى ذلك إلى انبعاث كمية كثيفة من الدخان كانت السبب الرئيسي في حالات الإصابات والوفيات.
الملفت هو ما أكده شهود عيان على صعوبة وصول سيارات الإطفاء والحماية المدنية إلى الكنيسة، موقع الحادث، والمفترض طبقاً لتصريح القس ميخائيل أنطون ممثل الأقباط الأرثوذكس في اللجنة الوزارية لتقنين أوضاع الكنائس، أنه جرى تقنين أوضاع الكنيسة المنكوبة منذ عام 2019، وكانت بالأساس مبنى سكني عبارة عن أربعة أدوار في حارة ضيقة بحي إمبابة، ثم تحولت إلى كنيسة ملحقة بها حضانة للأطفال وقاعة دروس، ما يعني أنه تتوافر فيها اشتراطات السلامة التي ينص عليها القانون، لكن يبدو أنها على الورق فقط بعدما أثبت الواقع عكس ذلك.
مَن المسؤول عن تقنين الكنائس على أسس غير سليمة؟
تنص المادة الثانية من قانون بناء وترميم الكنائس، الذي "ينظم أعمال بناء وترميم الكنائس وملحقاتها" وصدر عام 2016 "على ملائمة مساحة الكنيسة المطلوب الترخيص ببنائها مع عدد المواطنين في المنطقة السكانية التابعة لها، وكذلك ترخيص المباني القائمة بالفعل ككنائس بشرط ثبوت الاشتراطات البنائية، فضلاً عن سلامتها الإنشائية" ويشترط القانون معاينة الدفاع المدني والموافقة على تقنين أي كنيسة قائمة بالفعل، بموجب المادة الثامنة من القانون ذاته، تتقدم الكنائس بطلبات لتقنين أوضاعها.
وبالفعل شكلت الحكومة المصرية بمقتضى القانون لجنة لتقنين أوضاع الكنائس في مطلع العام 2017، يرأسها رئيس الوزراء وعضوية 6 وزراء، وممثلين عن الطائفة المعنية وجهات سيادية، وأعلنت اللجنة قبل ثلاثة أشهر تقريباً، الانتهاء من تقنين أوضاع 2401 كنيسة ومبنى تابعة لها خلال السنوات الست الماضية منذ صدور قانون الكنائس، منها كنيسة أبو سيفين وهي ضمن كنائس قدرت بنحو 5000 كنيسة بنيت دون ترخيص يضمن توافر إجراءات السلامة سواء الموقع أو شروط الحماية المدنية.
منير حنا، ناشط قبطي، أكد لـ"عربي بوست" أنه على مدار عقود طويلة كان يتم التحايل لبناء كنيسة للمسيحيين بسبب ما وصفه بالتعنت والرفض من الأمنجيين في الأنظمة السابقة في منح التراخيص لبناء الكنائس ووضع شروط تعجيزية للبناء، فما كان من الأقباط إلا أنهم يبدأون الكنيسة بمنزل صغير أو قطعة أرض يتبرع بها أحد سكان القرى أو المنطقة التي بها مسيحيين لممارسة شعائرهم الدينية، بعدها يجتمعون لإقامة الصلاة مرة في السر ومرة في العلن حتى يتم إعلانها كنيسة بين أهالي المنطقة، وبهذه الطريقة بُنيت مئات الكنائس في مصر، لذلك لجأت بعض الكنائس إلى البناء الرأسي دون النظر إلى وسائل الأمان كعمل سلالم طوارئ تستخدم حال نشوب حريق.
ويشير الباحث القبطي إلى أن الحادث كشف عن غياب كل اشتراطات السلامة، وأن التقنين تمت الموافقة عليه دون أسس سليمة، فضلاً عن أن ضعف قدرات الحماية المدنية في التعامل مع الحريق وإنقاذ أرواح المصلين داخلها يبرهن على وجود شبهات فساد بحاجة للتحقيق في أبعادها، سواء كان نابعاً من اللجنة المختصة بمنح الترخيص أو من جانب الكنيسة، إذا ثبت أنها لم توفر الاشتراطات المطلوبة لحماية المصلين.
في المقابل صرح المتحدث باسم الكنيسة المصرية الأرثوذوكسية، القمص موسى إبراهيم، إن "شروط السلامة التي قدمت مع ترخيص كنيسة أبو سيفين هي أفضل ما يمكن الحصول عليه بالنظر إلى واقع المكان، وأن هذه الشروط ساعدت على عدم وقوع مزيد من الضحايا إذ كان يكتظ بالمصلين.
لكن ما قاله شهود العيان ونشطاء أقباط تحدثت إليهم "عربي بوست" يؤكد افتقاد الكنيسة المنكوبة لأقل شروط الأمان، فمثلاً لم يسمعوا أي صفارات إنذار كان من المفترض أن تدوي مبكراً مع اندلاع الحريق، ولم يكن هناك نظام تلقائي للقضاء على الحريق، والذي من المفترض توفره في الأماكن ذات الكثافات المرتفعة.
كشف مصدر أمني بمحافظة أسيوط ل "عربي بوست" أن شروط السلامة التي تضمن نظام تلقائي لمكافحة الحرائق، ووجود مصدر مياه مخصص يقوم مثلاً برش المياه عند استشعاره نشوب حريق، والتأكد من من كل ما يؤمن التيار الكهربائي في المبنى سواء وصلات أو مولدات وغيرها من الوسائل التي من شأنها أن تتعامل مع حوادث هكذا.
خوف من منع الكنائي مزاولة نشاطها في حال عدم التقنين
ويكشف المصدر أنه يتم التغاضي عن تلك الشروط في بعض الأحيان فهناك تصور لدى الأقباط بأنه سيتم منع الكنائس غير المطابقة للمواصفات من مزاولة أنشطتها إذا لم يتم الموافقة على التقنين رغم أننا نعطي مدة كافية لذلك، ودائماً ما نعاني من مناشدات متكررة بالتقنين تصاحبها اتهامات تلاحق الحكومة والدولة ككل بالتباطؤ للتضييق على المسيحيين في إقامة شعائرهم الدينية وهو ما يسيء لصورة مصر داخلياً وخارجياً.
ويشير المصدر إلى أنه بالرغم من حالة الود والمصالحة الظاهرة بين الدولة والكنيسة، فإنها لم تكسر حاجز الخوف الذي ارتفع جداره بينهما على مدار عقود طويلة مضت وما زالت الكنيسة ترفض دخول الأمن إلى الكنيسة ولديهم قناعة بأن مسؤولي الدفاع المدني متعنتين ضد الكنيسة لعرقلة تقنينها.
يوضح المصدر أن الكنائس القديمة دائماً ما تستعين بأفراد من رعيتها غير متخصصين بما يكفي للتعامل مع المباني الكنسية الكبيرة، لتركيب وإصلاح الوصلات الكهربائية أو الإشراف على أنظمة التكييف المركزية والصيانة الدورية.
يقول المصدر بانفعال إنه في حال عدم الموافقة على تقنين مبنى الكنيسة غير المطابق للمواصفات واشتراطات السلامة يتم اتهامنا بالتحيز والتباطؤ والتعصب وأن وافقنا دون مراجعة فعلية تشتعل الحرائق وتسلب معها الأرواح.
يشكو المصدر أن القائمين على الكنيسة يرفضون أن يتم تأمين القداس بالداخل من جانب الجهات الأمنية ويعتمدون على الكشافة الكنسية فقط لذلك ستتكرر مثل تلك الحوادث بسبب تعنت البعض والرفض المطلق لتواجد الأمن داخل الكنائس.
مطالبات بتوسعة الكنائس الصغيرة أو نقلها
الحوادث المتكررة التي شهدتها الكنائس كانت سبباً لتصريح وزيرة التضامن الاجتماعي نيفين القباج بأن كنيسة أبو سيفين بإمبابة واحدة من الكنائس القديمة، وأن بعض هذه الكنائس تواجدت في أحياء سكنية غير ملائمة وغير مؤمنة وموجودة في أدوار عليا و سلالم ضيقة، ومداخل غير مناسبة لوصول سيارات المطافئ، ووصفت الشارع بأنه "زقاق" أي ممر صغير يصعب من خلاله دخول سيارات الإطفاء لمكان الكنسية.
وأوضحت في تصريحات إعلامية أنه "يتم التنسيق في الوقت الحالي بشأن المراجعة للكنائس الموجودة ليس للتقنين إنما لـ"غلق" الكنائس الموجودة بالأماكن غير الملائمة واستبدالها بأخرى جديدة، مطابقة لشروط البناء والحماية".
وبدا أن البابا تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، قد التقط تصريحات المسؤولة المصرية، وطالب في تصريحات تلفزيونية الجهات المصرية المسؤولة بالمشاركة في توسعة الكنائس الضيقة أو نقلها لمساحات أكبر، لتناسب عدد المرتادين عليها.
ودائماً ما يكرر البابا تواضروس خلال حوارات تليفزيونية أو صحفية أن تعداد المسيحيين في مصر يبلغ نحو 15 مليوناً، علاوة على مليونين خارجها وكان آخرها تصريحاته لصحيفة "عرب نيوز" السعودية منذ أيام.
وبالمثل طالب نشطاء كثر بكنائس بديلة آمنة، ومنهم الناشط القبطي نادر شكري، الذي قال في منشور له "كنيسة جديدة آمنة لأقباط عزبة المطار إمبابة وليس ترميم الكنيسة القديمة"
مشكلات متوقعة بين الكنيسة والحكومة في الفترة القادمة
تلك المطالبات أعادت إلى الواجهة الجدل حول بناء الكنائس في مصر، فإبان خضوع مصر للإمبراطورية العثمانية، كانت عملية بناء كنيسة جديدة في البلاد تتطلب استصدار فرمان من الإمبراطور فيما كان يُعرف بـ"الخط الهمايوني" والذي كان يضع شروطاً صعبة للموافقة على بناء كنيسة جديدة.
وعملاً بهذا العُرف، ظل إصدار التصريحات لبناء الكنائس في مصر مقصورا على رئيس الجمهورية قبل أن تُوكل هذه السلطة إلى المحافظين في عهد نظام الرئيس السابق حسني مبارك.
ومع توسع الحكومة المصرية في بناء المدن الجديدة، وجه الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ببناء كنيسة على الأقل في كل مدينة جديدة تشرع الدولة في إقامتها.
وبحسب إحصاء صادر عن المركز الإعلامي للحكومة المصرية، فإن وزارة الإسكان أصدرت قرارات تخصيص أراضٍ لبناء كنائس جديدة في المدن الجديدة بنحو 51 كنيسة خلال الفترة من 2014 وحتى 2020، أي بمتوسط حوالي سبع كنائس في السنة الواحدة. وقد توزعت هذه الكنائس جميعاً على المدن الجديدة بمختلف محافظات الجمهورية خصوصاً في الوجه القبلي.
وينص الدستور المصري الصادر عام 2014 على أن حرية الاعتقاد مطلقة، وحرية ممارسة الشعائر الدينية وإقامة دور العبادة لأتباع الديانات السماوية حق ينظّمه القانون".
جدير بالذكر أن آخر إحصاء أجري عن تعداد المسيحيين صدر عام 1986، وأشار إلى أن نسبة المسيحيين في البلاد لا تصل إلى 6% من تعداد السكان، بينما تقول الكنيسة إن النسبة تبلغ 15% وفقاً لتعداد داخلي تقوم به
باحث قبطي من التيار العلماني قال لـ"عربي بوست" إن تلك التصريحات والمطالبات المقترنة بالحادث الأخير تفتح الباب أمام مشكلات أخرى قد تنشب بين الحكومة المصرية والكنيسة، حيث بدأت فيها أصوات تتعالى مطالبة بإصدار قانون العبادة الموحد (المساجد والكنائس) والذي كان من المفترض أن يرى النور بديلاً عن قانون بناء وترميم الكنائس، لأن الحكومة ستكون مسؤولة في تلك الحالة عن توفير أماكن لبناء ما يقرب من خمسة آلاف كنيسة مقامة في منازل أو تتواجد في مناطق لا تتوفر فيها إجراءات السلامة.
وتسعى الكنيسة لتبرئة نفسها في تلك الحالة؛ لأنها لم توفر الميزانيات المناسبة لبناء مزيد من الكنائس البديلة التي تتواجد في منازل أو عقارات قديمة، وكان عليها توظيف إقرار قانوني يمنح الفرصة لإنشاء كنائس عبر الحصول على تراخيص من الجهات الإدارية المختصة بدلاً من الموافقات الشفهية السابقة، والتي كانت بمثابة تضييق غير مباشر على الأقباط لممارسة شعائرهم الدينية.