تسعى الكثير من الدول ذات الاقتصادات المتعثرة إلى اللجوء لصندوق النقد الدولي، من أجل الحصول على حزمٍ مالية، رغم أنها لا تأتي على شكل مساعدات بل ديون. وذلك ليس السبب الوحيد الذي يدفع الدول نحو الصندوق، بل لأنه يُعتبر بوابة عبور إلى حلولٍ مالية أخرى تساعد الدول في الخروج من الأزمات المالية.
يُعتبر نادي باريس أحد الكيانات التي تسهّل عملية تخفيض الديون؛ فمن دون الحصول على صك العبور إلى صندوق النقد الدولي، لا يُتاح للدول المَدِيْنَة اللجوء إلى نادي باريس لإسقاط أو إعادة جدولة الديون.
فعلى سبيل المثال، استطاع السودان الجلوس على الطاولة مع نادي باريس، وإلغاء 14 مليار دولار، مع إعادة هيكلة باقي الديون المستحقة- والتي تزيد عن 23 مليار دولار- بعد قبول صندوق النقد الدولي السودان، في إطار مبادرة البلدان الفقيرة المُثقلة بالديون (HIPC) على أساس الالتزام بإصلاحات واسعة في اقتصادها.
ومع وقوع الانقلاب العسكري في السودان عام 2021، علّق نادي باريس اتفاقه مع السودان بسبب عدم قدرة النظام العسكري استيفاء شروط صندوق النقد الدولي المتفق عليها، وجاء في بيان النادي: "بعد إزاحة القوات العسكرية للحكومة الانتقالية في السودان، تمّ تعليق الاتفاقية، إلى أن يتحسن الوضع وتُستأنف عملية تنفيذ برنامج صندوق النقد الدولي".
ما هو نادي باريس؟
بالرغم من عدم رغبة "نادي باريس" بأن يكون مؤسسة ذات طابعٍ رسمي، إلا أن فرنسا اضطرت إلى وضع رئيس خزانتها في منصب رئيس النادي، كي لا تضيّع رئاسته من بين يديها. جاء ذلك بعد أن حاولت واشنطن وضع يدها على النادي، ما أشعل التنافس بينها وبين باريس، وانتهى الأمر أخيراً لصالح الأخيرة.
عُقد أول اجتماع للنادي في العام 1956 عندما اجتمعت الدول الكبرى الدائنة للأرجنتين بهدف إعادة هيكلة ديونها، ويُعد ذلك تاريخ تأسيس النادي "غير الرسمي". كان عدد أعضائه وقتئذٍ 19 دولة، معظمها من أوروبا الغربية والدول الإسكندنافية. أما في الوقت الحالي، فيضمّ النادي 22 عضواً، على رأسهم: الولايات المتحدة، وروسيا، وبريطانيا، واليابان، إلى جانب فرنسا.
منذ العام 1956 وحتى اليوم، عقد نادي باريس 478 اتفاقية مع 102 دولة مَدِينَة مختلفة، وقد بلغ الدين المُعالَج في إطار اتفاقيات النادي 612 مليار دولار، عن طريق إعادة جدولة ديون الدول.
وإعادة الجدولة تعني تخفيف الديون عن طريق التأجيل، وصولاً إلى إعادة الجدولة المُيسّرة، وهي عملية تخفيض التزامات الديون، أي تخفيض قيمة الدين كما حدث مع السودان على سبيل المثال.
انضمّت إسرائيل إلى النادي في العام 2014، لتصبح العضو رقم 20، ولتكون الوحيدة من الشرق الأوسط صاحبة العضوية في النادي. في هذا السياق، وعند إعلان نادي باريس قبوله عضوية إسرائيل، علّق وزير المالية الإسرائيلي آنذاك يائير لابيد- ورئيس الوزراء الحالي- أن ذلك "يُشير إلى قوة إسرائيل الاقتصادية ويقدّم دليلاً إضافياً على أن مكانتها كبيرة لاصطفافها مع أقوى دول في العالم".
كيف أصبحت إسرائيل عضواً في نادي باريس؟
في العام 2010، وبعد جهودٍ استمرّت 16 عاماً، تمّ قبول إسرائيل في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية- وهو منتدى سياسي لاقتصاديات العالم الأكثر تقدماً- في الوقت الذي كان يعاني فيه أكثر من 20% من الإسرائيليين من الفقر، أي ضعف متوسط منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.. ما حثّ إسرائيل على ضخ ما يقارب الملياري دولار في الخدمات الاجتماعية وبرامج الرعاية الاجتماعية، وفقاً لـ"أسوشيتد بريس".
وفي الوقت الذي تعمل فيه إسرائيل لبناء المستوطنات كأداة صراع سياسية وأيديولوجية، تأتي هذه المستوطنات على رأس الأولويات الاقتصادية التي تُدِرّ على إسرائيل الكثير من المنافع الاقتصادية. لكن بعض الأصوات، ومن بينها يائير لبيد- عندما كان وزيراً للمالية- تؤكد أن الإنفاق على بعض المستوطنات في الضفة الغربية يُعتبر "مضيعة للمال".
كما يواجه الاقتصاد الإسرائيلي معضلةً بسبب حركة (BDS)، التي تنادي بمقاطعة وسحب الاستثمارات من إسرائيل وفرض عقوبات عليها، رداً على سياساتها تجاه الفلسطينيين. وقد نجحت الحركة في دفع العديد من الشركات والمؤسسات إلى سحب أموالها من إسرائيل أو دعمها المالي المقدّم إليها، كما حصل مع دولٍ عدّة على رأسها بريطانيا والولايات المتحدة، وهو الأمر الذي يشكل تحدياً للاقتصاد الإسرائيلي.
وفي عملية البحث عن شروط عضوية نادي باريس، نجد أن هناك بندين فقط؛ الأول أن تكون الدولة المقدِّمة للعضوية صاحبة قدرٍ كبير من القروض غير المسدَّدة، من وكالاتها الحكومية للمقترضين في البلدان الأجنبية، والآخر هو القبول الكامل بقواعد النادي الرئيسية.
وبالإضافة إلى الأعضاء الـ22 الأساسيين في النادي، هناك 14 مشاركاً في اجتماعاته- هم الصين والهند والمملكة العربية السعودية وجنوب إفريقيا، كما يحضر الاجتماع ممثلون عن 9 مؤسسات مالية دولية، على رأسها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي.
نادي باريس وصندوق النقد الدولي وسياسات التقشف
بلغ دين مصر لنادي باريس 3.7 مليار دولار بنهاية العام المالي 2016 /2017، حسبما أفاد البنك المركزي المصري؛ وفي العام 2014 أعلن محافظ البنك المركزي المصري هشام رامز أن مصر سدّدت 700 مليون دولار من إجمالي دينها إلى النادي، وهو جزء من قسط نصف سنوي، يُدفع عادةً بين شهرَي يناير/كانون الثاني ويوليو/تموز.
ونتيجةً لسياسة الإصلاح الاقتصادي التي تتبعها مصر، كما أوصى صندوق النقد الدولي، ارتفعت الاحتياطيات الأجنبية في البنك المركزي منذ أن حصلت الحكومة المصرية على قرضٍ بقيمة 12 مليار دولار لمدة ثلاث سنوات من صندوق النقد الدولي في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.. مما أعاد الثقة في السوق المصرية، وشجّع النادي بطبيعة الحال في استمرار تعامله مع مصر.
جاء ذلك بعد تنفيذ السلطات المصرية لشرط تعويم الجنيه في العام 2017، الذي كان "علامة فارقة" في برنامج الإصلاح الاقتصادي المدعوم من صندوق النقد الدولي- على حد وصف موقع Egypt Today– والذي تضمّن أيضاً زيادة الضرائب وخفض الدعم.
بناءً على هذه الإجراءات، أعلن البنك المركزي المصري آنذاك أن الاحتياطي الدولي لمصر بلغ مستوى غير مسبوق في أواخر العام 2017، ليسجّل 37.019 مليار دولار؛ وذلك بعد أن كان 19.041 مليار دولار في نهاية أكتوبر/تشرين الأول 2016، أي قبل التعويم، ما أدّى إلى تأزم الأوضاع الاقتصادية.
وبالحديث عن تأثير سياسات صندوق النقد الدولي ونادي باريس، يقول سيفاس لومينا، الخبير السابق في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة والمتخصص في تأثير الديون الخارجية على حقوق الإنسان، إنه وفقاً لمبادئ الأمم المتحدة التي اعتمدها ووافق عليها مجلس حقوق الإنسان في العام 2012، فإن الحفاظ على حقوق الإنسان الأساسية له الأسبقية على حقوق الدائنين.
وعلى الرغم من وجود تلك المبادئ والقوانين في نصوص السلطات القضائية الدولية، إلا أن هذه النصوص "لا تُطبق مطلقاً في دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة"، كما يقول لومينا.
وبهذا الصدد يذكر لومينا الدور الحاسم الذي يلعبه نادي باريس- ويصفه بأنه "منظمة مجرّدة من أي شرعية"- وصندوق النقد الدولي في تعزيز مصالح الدائنين، على حساب حماية حقوق الإنسان الأساسية، والتي تجسّدها الحالة المصرية من تردي الأوضاع الاقتصادية.
مستقبل نادي باريس.. التقارب مع الصين ومغادرة الولايات المتحدة
لعبت الولايات المتحدة تاريخياً دوراً رئيسياً في نادي باريس، ويرجع ذلك جزئياً إلى العدد الكبير من القروض والضمانات التي قدمتها إلى دولٍ أخرى على مرّ السنين. لكن الكونغرس الأمريكي أظهر في السنوات الأخيرة اهتماماً ضئيلاً بسياسة تخفيف وتخفيض الديون، ما جعل أمريكا في وضعيةٍ لا تمكّنها من تزويد صندوق النقد الدولي بأي ضمانات تمويل.
هذا الأمر من شأنه أن يهدّد وجود النادي، بسبب عدم قدرته على أداء مهمته. تنصّ إحدى مبادئ النادي بوجوب إجماع أعضائه في اتخاذ القرارات بشأن الدول المتقدمة، أي يجب موافقة جميع نادي الأعضاء لقبول تخفيض ديون أي من هذه الدول، الأمر الذي أصبح يعرقل مهمة النادي بسبب عدم اهتمام الولايات المتحدة بعمليات التخفيض.
على سبيل المثال، استطاعت الصومال الحصول على دعم صندوق النقد الدولي لتخفيف ديونها، في صيف 2018، وعملت على استيفاء شروط صندوق النقد الدولي كاملة. لذلك وفي يوليو/تموز 2019، طلب الصندوق ضمانات تمويل من نادي باريس.
عند هذه النقطة رفضت الولايات المتحدة تقديم تأكيدات لإعفاء الصومال من الديون، على الرغم من موافقة باقي أعضاء النادي، وهو ما أدّى لبدء إدانة الموقف الأمريكي منذ ذلك الحين.
بسبب هذه المعضلة الآخذة في التوسع بين أعضاء النادي والولايات المتحدة، قلّ نشاط النادي، بعد أن كان صاحب الزخم الأكبر بهذا الصدد. أدّى ذلك إلى طلب بعض الدول من أمريكا مغادرة النادي، لأن استمرار عضويتها يمكن أن "يضعف الآفاق الاقتصادية لبعض أفقر البلدان في العالم"، على حدّ وصف مركز التنمية العالمية.
في المقابل، وبسبب صعود الصين كإحدى أكبر الدول المقدِّمة للديون، ورغم أنها ليست عضواً في نادي باريس. فمن المرجح أن يكون تخفيف عبء الديون- الذي توفره- متوافقاً بشكل وثيق مع الإعفاءات المقدّمة من النادي.. ما يدفعه لتطبيع العلاقات مع الصين، والعمل في إطارٍ مشترك معها، حتى إن لم تكن عضواً، ما يعني تنامي العلاقات الاقتصادية مع الصين في مقابل تراجعها مع الولايات المتحدة.
وفي إطار الحرب الاقتصادية القائمة من قبل الولايات المتحدة على الصين والتنافس المتزايد بين الدولتين، فإن ميل بعض الدول الغربية لتطبيع العلاقات مع الصين– في بعض الملفات شديدة الحساسية بالنسبة للولايات المتحدة- يُظهر مشهداً غير معتادٍ قد يفسّر الكثير مما يحدث في الكواليس.