تحقق تجارة الفوسفات التي تجريها دول أوروبا بسرية مع النظام السوري عائدات كبيرة تمنح دمشق، والأوليغار الروس، شريان حياة في الوقت الذي يتعرضون فيه بشكل رسمي لعقوبات غربية واسعة.
تحقيق استقصائي نشرته صحيفة The Guardian البريطانية، الخميس 30 يونيو/ حزيران 2022، كشف تفاصيل هذه التجارة السرية، تحت عنوان "الأموال المغمَّسة بالدم.. تجارة أوروبا السرية في الفوسفات السوري"، بالتعاون مع منظمات وصحفيين من عدة دول.
بحسب التحقيق، فإن صادرات الفوسفات السوري الرخيص إلى أوروبا ازدهرت في السنوات الأخيرة، مشيرة إلى أن أوروبا التي تمتلك قليلاً من احتياطيات الفوسفات الخاصة، يسارع مزارعوها للحصول على الأسمدة الفوسفاتية بأي طريقة ممكنة.
سفن تختفي عن أنظمة التتبع
تشير الصحيفة إلى إحدى الصفقات قائلةً إنه في يناير/كانون الثاني 2022، اختفت سفينة شحن ترفع علم هندوراس من أنظمة التتبُّع الدولية قبالة سواحل قبرص، قبل أن تعود بعد أسبوع للظهور وهي تتجه شمالاً إلى أوروبا، لكنها رست قبل ذلك في ميناء تسيطر عليه روسيا في سوريا لتحميل الفوسفات.
يكشف تحليل للعشرات من الرحلات باستخدام بيانات تتبُّع السفن، عن نمط مشابه للسفن التي تحمل الفوسفات من سوريا، حيث تختفي من نظام التتبع التابع للمنظمة البحرية الدولية في أثناء توجهها نحو سوريا وتعاود الظهور في طريقها إلى أوروبا بعد أسبوع أو أسبوعين.
وفي حين أن عقوبات الاتحاد الأوروبي على سوريا لا تحظر صراحةً واردات الفوسفات، إلا أنها تحظر إبرام أي صفقات مع وزير النفط والموارد المعدنية السوري، المسؤول عن قطاع الفوسفات في البلاد.
بالتالي دفع هذا الأمر الشركات الأوروبية إلى التعامل مع شبكة معقدة من الشركات الوهمية والوسطاء لشراء الفوسفات السوري، الذي يتم شحنه "خلسة" على متن السفن.
تشير الصحيفة إلى أن تحقيقها الاستقصائي المشترك تتبَّع شحنات الفوسفات من مناجم الصحراء في سوريا إلى مصانع الأسمدة في أوروبا، بالاعتماد على تحليلات ووثائق مالية وبيانات تجارية من عشرات البلدان.
تُظهر السجلات التجارية الرسمية أن إسبانيا وبولندا وإيطاليا وبلغاريا بدأت مؤخراً في استيراد الفوسفات السوري، بينما كانت صربيا وأوكرانيا، اللتان تطبقان عقوبات الاتحاد الأوروبي على سوريا كجزء من اتفاقياتهما مع الكتلة، تعدان أيضاً من كبار المشترين لهذه المادة.
وفقاً للتحقيق، فإن عمالاً سوريين يستخدمون الحافلات لنقل صخور الفوسفات من المناجم الترابية المنتشرة في المناطق الصحراوية المحيطة بتدمر، فيما يكشف التحقيق أن متعاقدين أمنيين روساً وسوريين يحرسون مناجم الفوسفات والقوافل المتجهة إلى ساحل البحر المتوسط.
شركات روسية
كانت سوريا واحدة من أكبر مُصدِّري الفوسفات في العالم قبل أن تندلع أحداث الثورة في عام 2011، وتنهار هذه الصناعة نتيجة استيلاء تنظيم الدولة الإسلامية على المنطقة المحيطة بالمناجم في تدمر عام 2015.
أرسلت روسيا قوات إلى سوريا في ذلك العام، وساعدت الأسد في نهاية المطاف على استعادة السيطرة على معظم البلاد، وردَّت الحكومة الجميل من خلال تسليم عقود سخية للشركات الروسية في مجال الفوسفات الذي يعد من أكثر القطاعات ربحية في البلاد.
وفي عام 2018، سلمت الشركة العامة السورية للفوسفات والمناجم المملوكة لوزارة النفط والثروة المعدنية، السيطرة على أكبر مناجم الفوسفات في البلاد إلى شركة Stroytransgaz" الروسية.
تقول الصحيفة البريطانية إن ملكية هذه الشركة تعود للأوليغارش الروسي الملياردير غينادي تيمشينكو، وهو صديق مقرب للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
كانت الولايات المتحدة فرضت عقوبات على الشركة في عام 2014 بعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، لذلك نأى تيمشينكو بنفسه عن عمليات شركته في سوريا، والتي يعود تاريخها إلى أوائل القرن الحادي والعشرين.
وفقاً للصحيفة فإن كبار موظفي Stroytransgaz استولوا في عام 2016 على شركة لوجستية روسية وهمية وغيَّروا اسمها، لكنها على الورق مملوكة لشركةٍ مقرها موسكو تدير أعمالاً لعملاء مجهولين وتدير صادرات الفوسفات للحكومة السورية مقابل 70% من العائدات.
وفي عام 2018 فازت شركة تابعة لتيمشينكو بعقود لتشغيل ميناء التصدير في طرطوس ومصانع الأسمدة التي تديرها الدولة بسوريا، مما أتاح لها التحكم في سلسلة توريد الفوسفات بأكملها في سوريا.
تقول الصحيفة إن الشركات الأوروبية التي تشتري الفوسفات السوري تخاطر بإفشال العقوبات المفروضة على حكومة بشار الأسد، وكذلك تيمشينكو الذي يعد من أوائل الأوليغارش الذين فُرضت عليهم عقوبات بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022.
يُذكر أنه في 24 فبراير/شباط 2022، أطلقت روسيا هجوماً على أوكرانيا تبعه رفض دولي وعقوبات اقتصادية مشددة على موسكو، التي تشترط لإنهاء عمليتها تخلي كييف عن خطط الانضمام إلى كيانات عسكرية والتزام الحياد، وهو ما تعده الأخيرة "تدخلاً" في سيادتها.